من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - ما العمل - لينين 2


عبدالرحيم قروي
2024 / 12 / 1 - 14:57     

الحلقة الثانية

I-الجمود العقائدي و"حرية النقد"
أ‌) ما معنى "حرية النقد"؟
إن شعار"حرية النقد" هو، دون شك، الشعار الأوسع انتشارا في الوقت الحاضر، الشعار الأكثر استعمالا في الجدل بين الاشتراكيين والديموقراطيين في جميع البلدان. وإنه ليصعب على المرء، لأول وهلة، أن يتصور شيئا أدعى إلى الدهشة من تذرع أحد المتجادلين، على مسمع من الملأ، بحرية النقد. هل ارتفعت، يا ترى، من بيئة الأحزاب المتقدمة أصوات ضد القانون الدستوري الذي يضمن في معظم البلدان الأوروبية حرية العلم وحرية البحث العلمي؟ "إن وراء الأكمة ما وراءها" - هذا ما سيقوله لنفسه بالتأكيد كل إنسان غير متحيز يسمع هذا الشعار الدارج يكرر في كل ناد وواد، ولكنه لم يدرك بعد جوهر الخلاف بين المتجادلين. "يبدو أن هذا الشعار من كلمات السر التي يكرسها الإستعمال كما هي الحال في الألقاب وتصبح أشبه بأسماء الأجناس". وفي الحقيقة لا يخفى على أحد أن اتجاهين قد نبعا في الاشتراكية-الديموقراطية العالمية الراهنة، اتجاهين يحتدم بينهما الصراع ويضطرم أواره حينا، ويهدأ حينا آخر ويخمد تحت رماد "قرارات عن الهدنة" مهيبة. وقد أعلن برنشتين وأظهر ميليران بما يكفي من الوضوح فحوى الإتجاه "الجديد" الذي يأخذ من الماركسية "القديمة، الجامدة"، موقفا "نقديا". ينبغي للإشتراكية-الديموقراطية أن تتحول من حزب للثورة الإجتماعية إلى حزب ديموقراطي للإصلاحات الإجتماعية. هذا المطلب السياسي أحاطه برنشتين بمجموعة كبيرة من البراهين والاعتبارات "الجديدة" نسقها تنسيقا لا بأس به. فقد أنكر إمكانية دعم الاشتراكية علميا وإمكانية البرهان على ضرورتها وحتميتها من وجهة نظر المفهوم المادي للتاريخ؛ أنكر واقع تزايد البؤس والتحول إلى البروليتاريا وتفاقم التناقضات الرأسمالية؛ أعلن أن مفهوم "الهدف النهائي" ذاته باطل ورفض فكرة ديكتاتورية البروليتاريا رفضا قاطعا؛ أنكر التضاد المبدئي بين الليبرالية والاشتراكية؛ أنكر نظرية الصراع الطبقي وزعم أنها لا تنطبق على مجتمع ديموقراطي صرف يدار وفق مشيئة الأكثرية، الخ.. وهكذا فإن مطلب الإنعطاف الحاسم من الاشتراكية-الديموقراطية الثورية إلى الإصلاحية الإجتماعية البرجوازية قد رافقه انعطاف لا يقل حسما نحو النقد البرجوازي لجميع أفكار الماركسية الأساسية. ولما كان هذا النقد يساق ضد الماركسية منذ أمد بعيد من المنابر السياسية ومنابر الجامعات، وفي مجموعة كبيرة من الكراريس وجملة من الأبحاث العلمية، ولما كان الجيل الناشئ كله من الطبقات المتعلمة يتربى بانتظام وطيلة عشرات السنين على هذا النقد - فلا غرو أن ينبثق الإتجاه "النقدي الجديد" في الاشتراكية-الديموقراطية بشكله المتكامل دفعة واحدة، كما انبثقت مينيرفا من رأس جوبيتر(15). لم يكن من الضروري أن يتطور هذا الإتجاه ويتكون من حيث مضمونه: فقد نقل نقلاَ من المطبوعات البرجوازية إلى المطبوعات الاشتراكية. وبعد. إذا كان نقد برنشتين النظري ومطامعه السياسية قد ظلت غامضة بالنسبة لبعضهم، فقد عنى الفرنسيون بتبيان "الطريقة الجديدة" في التطبيق. وفي هذه المرة أيضا أثبتت فرنسا أنها تستحق ما اشتهرت به منذ القدم من أنها "البلاد التي كان يصل فيها صراع الطبقات، في تاريخها، أكثر مما في أية بلاد أخرى، إلى نهايته الفاصلة" (إنجلس، من مقدمة لمؤلف ماركس 18 برومير لويس بونابرت). فالإشتراكيون الفرنسيون لم ينصرفوا إلى النظريات، بل إلى العمل المباشر، ذلك لأن الظروف السياسية المتطورة في فرنسا تطورا أكبر من وجهة النظر الديموقراطية، قد مكنتهم من الإنتقال رأسا إلى "البرنشتينية العملية" مع كل ما ينجم عنها من نتائج. ولقد أعطى ميليران مثلا رائعا عن هذه البرنشتينية العملية، فليس عبثا إذن أن اندفع برنشتين وفولمار للدفاع عن ميليران وامتداحه بمثل هذه الحماسة! وبالفعل، إذا كانت الاشتراكية-الديموقراطية ليست في جوهرها إلا حزب الإصلاحات وإذا كان ينبغي لها أن تجد في نفسها الجرأة على إعلان ذلك أمام الملأ - فعندئذ لا يحق للإشتراكي أن يشترك في الوزارة البرجوازية وحسب، بل ينبغي له أن ينزع دائما إلى ذلك. وإذا كانت الديموقراطية تعني، في جوهرها، إلغاء السيادة الطبقية - فلماذا لا يعمد الوزير الإشتراكي إلى إغراء العالم البرجوازي كله بخطابات عن تعاون الطبقات؟ ولماذا لا يبقى في الوزارة ولو بعد أن جاءت مصارع العمال على يد الدرك دليلا للمرة المئة بل الألف على حقيقة طابع التعاون الديموقراطي بين الطبقات؟ ولماذا لا يشترك شخصيا في تحية القيصر الذي لا ينعته الإشتراكيون الفرنسيون في الوقت الحاضر إلا ببطل المشانق والسياط والمنافي (knouteur, pendeur et déportateur)؟ وتعويضا عن هذا الحضيض من الهوان الذي سقطت الاشتراكية فيه والاحتقار الذي جلبته لنفسها، أمام العالم كله، وتعويضا عن إفساد الوعي الإشتراكي بين جماهير العمال - وهو الأساس الوحيد الذي في وسعه أن يضمن لنا الإنتصار - تعويضا عن كل ذلك نرى مشاريع طنانة لإصلاحات تافهة، تافهة بحيث أمكن الحصول على أكثر منها من الحكومات البرجوازية! إن الذين لا يتعامون عن عمد يرون لا محالة أن الإتجاه "النقدي" الجديد في الاشتراكية ليس غير مظهر جديد من مظاهر الإنتهازية. وإذا حكمنا على الناس لا على أساس الرداء البراق الذي يخلعونه على أنفسهم بأنفسهم، لا على أساس اللقب الطنان الذي ينتحلونه لأنفسهم، بل على أساس تصرفاتهم وعلى أساس ما يدعون إليه في الواقع، اتضح أن "حرية النقد" تعني حرية الإتجاه الإنتهازي في الاشتراكية-الديموقراطية، حرية تحويل الاشتراكية-الديموقراطية إلى حزب إصلاحي ديموقراطي، حرية إدخال الأفكار البرجوازية والعناصر البرجوازية إلى الاشتراكية. الحرية كلمة عظيمة، لكن، تحت لواء حرية الصناعة شنت أفظع حروب السلب والنهب، وتحت لواء حرية العمل جرى نهب الشغيلة. وكلمة "حرية النقد" في استخدامها الحالي تتضمن مثل هذا الزيف. إن الذين يؤمنون حقا بأنهم دفعوا العلم إلى أمام لا يطلبون حرية وجود المفاهيم الجديدة إلى جانب المفاهيم القديمة، بل إبدال الجديدة بالقديمة. أما الصرخة الحالية: "عاشت حرية النقد!" فتشبه شديد الشبه حكاية الطبل الأجوف. نحن نسير جماعة متراصة في طريق وعر صعب، متكاتفين بقوة. ومن جميع الجهات يطوقنا الأعداء، وينبغي لنا أن نسير على الدوام تقريبا ونحن عرضة لنيرانهم. لقد اتحدنا بملء إرادتنا، اتحدنا بغية مقارعة الأعداء بالذات، لا للوقوع في المستنقع المجاور الذي لامنا سكانه منذ البدء لأننا اتحدنا في جماعة على حدة وفضلنا طريق النضال على طريق المهادنة. وإذا بعض منا يأخذ بالصياح: هلموا إلى هذا المستنقع! وعندما يقال لهم: ألا تخجلون، يعترضون قائلين: ما أجهلكم يا هؤلاء! ألا تستحون أن تنكروا علينا حرية دعوتكم إلى الطريق الأحسن! - صحيح، صحيح أيها السادة! إنكم أحرار لا في أن تدعوا وحسب، بل أيضا في الذهاب إلى المكان الذي يطيب لكم، إلى المستنقع إن شئتم؛ ونحن نرى أن مكانكم أنتم هو المستنقع بالذات، ونحن على استعداد للمساعدة بقدر الطاقة على انتقالكم أنتم إليه. ولكن رجاءنا أن تتركوا أيدينا، أن لا تتعلقوا بأذيالنا، أن لا تلطخوا كلمة الحرية العظمى، ذلك لأننا نحن أيضا "أحرار" في السير إلى حيث نريد، أحرار في النضال لا ضد المستنقع وحسب بل أيضا ضد الذين يعرجون عليه!
ب) المدافعون الجدد عن "حرية النقد" وها هو ذا هذا الشعار ("حرية النقد") الذي طرحه بصورة مهيبة في الآونة الأخيرة لسان حال "إتحاد الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس" في الخارج(16) "رابوتشييه ديلو" (العدد 10)، لا كأمر مسلم به نظريا، بل كمطلب سياسي، كجواب على سؤال: "هل يمكن توحيد المنظمات الاشتراكية-الديموقراطية العاملة في الخارج؟" - "الإتحاد الوطيد يقتضي حرية النقد" (ص36). من هذا القول يخلص المرء إلى استنتاجين واضحين كل الوضوح:
1) "رابوتشييه ديلو" تأخذ على عاتقها الدفاع عن الاتجاه الانتهازي في الاشتراكية-الديموقراطية العالمية بوجه عام؛
2) "رابوتشييه ديلو" تطلب حرية الإنتهازية في الاشتراكية-الديموقراطية الروسية. فلنبحث هذين الاستنتاجين. "رابوتشييه ديلو" غير راضية "بوجه خاص" من "ميل "الإيسكرا" و"زاريا" إلى التنبؤ بالإنفصال بين الجبل والجيروند(18) في الاشتراكية-الديموقراطية العالمية". كتب محرر "رابوتشييه ديلو" ب. كريتشيفسكي يقول: "الكلام عن الجبل والجيروند في صفوف الاشتراكية-الديموقراطية يبدو لنا بوجه عام عبارة عن مقارنة تاريخية سطحية نستغرب صدورها عن قلم ماركسي؛ فالجبل والجيروند لم يمثلا مزاجين أو تيارين فكريين مختلفين كما قد يخيل للمؤرخين الإيديولوجيين، بل كانا يمثلان طبقات أو فئات مختلفة -البرجوازية المتوسطة من جهة، والبرجوازية الصغيرة مع البروليتاريا من الجهة الأخرى. هذا بينما لا يوجد في الحركة الاشتراكية المعاصرة تصادم بين المصالح الطبقية، فهي بمجموعها وبجميع (حرف التأكيد لكريتشيفسكي) مظاهرها، بما في ذلك البرنشتينيون المتطرفون، تقف على صعيد مصالح البروليتاريا الطبقية، على صعيد نضالها الطبقي في سبيل تحررها السياسي والاقتصادي" (ص32-33) تأكيد جريء! أولم يسمع ب. كريتشيفسكي بواقع لوحظ منذ أمد بعيد، ونعني به أن اشتراك فئة "الأكاديميين" في الحركة الاشتراكية خلال السنوات الأخيرة على نطاق واسع هو الذي ضمن انتشار البرنشتينية بمثل هذه السرعة؟ والأمر الرئيسي: بم يدعم كاتبنا رأيه إذ يزعم أن "البرنشتينيين المتطرفين" يقفون هم أيضا على صعيد النضال الطبقي في سبيل تحرير البروليتاريا السياسي والإقتصادي؟ لا ندري. إنه يدافع بحزم عن البرنشتينيين المتطرفين دون أن يأتي بأية حجة أو أي دليل لدعم ذلك. إن واضع المقال يظن، على ما يظهر، أن أقواله لا تحتاج إلى برهان إذا كرر ما يقوله البرنشتينيون المتطرفون عن أنفسهم. ولكن هل يمكن للمرء أن يتصور"سطحية" تضارع سطحية هذا الحكم على اتجاه بأكمله استنادا إلى ما يقوله ممثلو هذا الاتجاه عن أنفسهم؟ هل يمكن تصور سطحية تضارع سطحية "المواعظ" التي أتت بعد ذلك بصدد نموذجين أو طريقين للتطور الحزبي مختلفين أو حتى متناقضين كل التناقض (ص 34-35 من "رابوتشييه ديلو")؟ الإشتراكيون-الديموقراطيون الألمان يعترفون - كذا!- بحرية النقد كاملة، أما الفرنسيون فلا يعترفون بها، ومثلهم بالذات هو الذي يبين كل "ضرر عدم التسامح". ونجيب نحن على ذلك: ان مثل ب. كريتشيفسكي بالذات هو الذي يبين أن هناك من يسمون أنفسهم أحيانا بالماركسيين، وينظرون مع ذلك إلى التاريخ "على نمص ايلوفايسكي"(22) بالضبط. لتفسير وحدة الحزب الإشتراكي الألماني وانقسام الحزب الإشتراكي الفرنسي على نفسه ليس من داع إلى البحث في خصائص تاريخ البلدين ولا إلى المقارنة بين ظروف الحكم العسكري شبه المطلق وظروف البرلمانية الجمهورية، ولا إلى تقصي نتائج الكومونة(23) والقانون الإستثنائي بخصوص الاشتراكيين(24) ولا إلى مقارنة الحياة الإقتصادية والتطور الاقتصادي، ولا إلى تذكر أن "نمو الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية المنقطع النظير" قد رافقته همة في النضال منقطعة النظير في تاريخ الاشتراكية، ليس فقط النضال ضد الأخطاء النظرية (ميولبيرغر ودوهرينغ واشتراكيو المنابر الجامعية(27))، بل كذلك ضد الأخطاء التكتيكية (لاسال) الخ.، الخ.. كل هذا أمر لا داعي له! الفرنسيون يتشاجرون لأنهم غير متسامحين، والألمان متحدون لأنهم أولاد عاقلون. لاحظوا جيدا أنهم بهذا العمق المنقطع النظير في التفكير "يردون" واقعا يدحض بصورة تامة دفاع البرنشتينيين. هل يقف هؤلاء على صعيد نضال البروليتاريا الطبقي؟ إنه سؤال لا يمكن لغير التجربة التاريخية أن تجيب عليه الجواب النهائي الفاصل. وعلى ذلك فالأمر الأهم هنا هو بالضبط مثل فرنسا باعتبارها البلاد الوحيد التي جرب فيها البرنشتينيون العمل بصورة مستقلة، بتحبيذ حار من زملائهم الألمان (وجزئيا من الإنتهازيين الروس: أنظر "رابوتشييه ديلو"، العدد 2-3، ص ص 83-84). إن الإستشهاد "بعدم تسامح" الفرنسيين - بالإضافة إلى قيمته "التاريخية" (بمعنى نوزدريف(28))- هو مجرد محاولة لطمس وقائع مزعجة جدا بكلمات غاضبة. وعلى كل حال، ليس في نيتنا البتة أن نقدم الألمان هدية لكريتشيفسكي ولأمثاله الكثيرين من المدافعين عن "حرية النقد". فإذا كان "البرنشتينيون المتطرفون" ما يزالون يصبرون عليهم في صفوف الحزب الألماني، فما ذلك إلا بمقدار ما يخضعون لقرار هانوفر(29) الذي يرد بحزم "تعديلات" برنشتين ولقرار لوبيك(30) الذي يتضمن (رغم كل ما فيه من ديبلوماسية) إنذارا صريحا لبرنشتين. يمكن النقاش من وجهة نظر مصلحة الحزب الألماني، حول مبلغ فائدة هذه الديبلوماسية؛ يمكن التساؤل عما إذا كان السلام الظاهري في هذه الحالة خيرا من شجار مكشوف، وبكلمة، يمكن أن تختلف وجهات النظر حول فائدة هذه أو تلك من طرق رفض البرنشتينية ولكن لا يمكن للمرء أن لا يرى أن الحزب الألماني قد رفض البرنشتينية مرتين. ولذا فالتفكير بأن مثل الألمان يثبت دعوى أن "البرنشتينيين المتطرفين يقفون على صعيد نضال البروليتاريا الطبقي في سبيل تحررها الإقتصادي والسياسي" - يعني عدم فهم أي شيء على الإطلاق مما يجري أمام عيون الجميع. وفوق ذلك، تنبري "رابوتشييه ديلو" أمام الاشتراكية-الديموقراطية الروسية، كما سبق لنا أن ذكرنا، وتطالب بـ"حرية النقد" وتدافع عن البرنشتينية. ويظهر أنه تبين لها أن "النقاد" والبرنشتينيين عندنا قد أهينوا ظلما. ولكن أيهم بالذات؟ ومن الذي أهانهم؟ أين؟ ومتى؟ وبم تجلى ذلك؟ إن "رابوتشييه ديلو" تلتزم الصمت في كل ذلك ولا تذكر ولو مرة واحدة أي منتقد أو أي برنشتيني روسي! ليس أمامنا من سبيل غير اختيار افتراض من افتراضين محتملين: إما أن يكون الطرف المهان ظلما هو "رابوتشييه ديلو" بعينها (يؤكد ذلك أن المقالين المنشورين في العدد 10 لا يتناولان غير الإهانات التي وجهتها "زاريا" و"الإيسكرا" إلى "رابوتشييه ديلو"). وفي هذه الحالة كيف نفسر هذا الواقع الغريب وهو أن "رابوتشييه ديلو" التي كانت تتبرأ على الدوام بعناد من كل تضامن مع البرنشتينية لم تكن تستطيع الدفاع عن نفسها دون أن تنبس ولا بكلمة دفاعا عن "البرنشتينيين المتطرفين" وعن حرية النقد؟ وإما أن تكون الإهانات قد وجهت إلى طرف ثالث. وفي هذه الحالة ما هي الأسباب التي تدعو إلى عدم ذكره؟ وهكذا نرى أن "رابوتشييه ديلو" تستمر في لعبة الغميضة التي بدأتها (كما سنبين فيما يأتي) منذ ظهورها. ومن ثم نلفت أنظاركم إلى هذا التطبيق العملي الأول لـ"حرية النقد" التي يكثرون حولها التطبيل والتزمير. فلم يقتصر الأمر في الواقع على كون هذه الحرية قد آلت رأسا إلى انعدام كل نقد، بل تعداه إلى انعدام أي رأي مستقل بوجه عام. فهذه "رابوتشييه ديلو" نفسها التي تكتم وجود البرنشتينية الروسية كما تكتم الأمراض السرية (حسب تعبير موفق لستاروفر) تقترح لمداواة هذا المرض مجرد نقل الوصفة الألمانية الأخيرة الموصوفة لمداواة هذا المرض في مظهره الألماني! فبدلا من حرية النقد - تقليد على نمط العبيد… أو، وهو الأسوأ، تقليد على نمط القرود! إن المضمون الإجتماعي السياسي الواحد للإنتهازية العالمية المعاصرة يتجلى في هذا المظهر أو ذاك تبعا للخصائص الوطنية. في هذه البلاد تجمع الإنتهازيون منذ أمد طويل تحت لواء خاص، وفي تلك استخف الإنتهازيون بالنظرية وانتهجوا عمليا سياسة الاشتراكيين-الراديكاليين، وفي بلاد ثالثة فر عدد من أعضاء الحزب الثوري إلى معسكر الإنتهازية وأخذوا يسعون إلى بلوغ أهدافهم لا عن طريق نضال صريح في سبيل المبادئ وفي سبيل تكتيك جديد، بل عن طريق إفساد حزبهم بصورة تدريجية غير ملحوظة، لا يعاقبون عليها، إن جاز القول، وفي بلاد رابعة يعمد فارّون كهؤلاء إلى نفس الأحابيل في دياجير العبودية السياسية وفي ظروف تشابك فريد بين النشاط "العلني" و"غير العلني"، الخ.. أما أن ينبري المرء ويعلن أن حرية النقد وحرية البرنشتينية هما شرط لاتحاد الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس دون أن يبين مظاهر البرنشتينية الروسية والثمار الخاصة التي حملتها، فذلك أشبه بمن يتكلم لكي لا يقول شيئا. فلنجرب نحن أنفسنا، إذن، ولنقل ولو في بضع كلمات ما لم ترغب في قوله (أو ربما لم تستطع حتى فهمه) "رابوتشييه ديلو".
يتبع