|
لماذا انهار الائتلاف الحاكم في ألمانيا؟
يونس الغفاري
الحوار المتمدن-العدد: 8176 - 2024 / 11 / 29 - 17:12
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
ترجمة يونس الغفاري
انهار ائتلاف الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني وحزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر ليصبح جزءًا من الماضي. يدير المستشار أولاف شولتز البلاد الآن بأقلية برلمانية. لكن الحقيقة أن فشل هذا الائتلاف لم يكن وليد اللحظة؛ إذ كانت شعبيته في تراجع مستمر منذ تأسيسه. هنا يقدم كارل ناويوكس تحليلًا لأسباب هذا الانهيار.
وقع الانهيار في السادس من نوفمبر، وكان السبب المباشر له الخلاف حول ميزانية الحكومة الاتحادية لعام 2025. هذه الميزانية كانت قد أُقرت مبدئيًا قبل أشهر بين الأحزاب الثلاثة في مجلس الوزراء الاتحادي. ولم يكن يتبقى سوى تسوية فجوة صغيرة نسبيًا بين الإيرادات والنفقات قبل عرضها للقراءة النهائية في البوندستاغ، والمقرر عادةً بنهاية نوفمبر.
لكن هذا لن يحدث الآن. اجتمع وزير المالية كريستيان ليندنر (الديمقراطي الاجتماعي)، والمستشار أولاف شولتز (الديمقراطي الحر)، ونائب المستشار روبرت هابيك (الخضر) في السادس من نوفمبر لمحاولة حل الخلاف. ومع ذلك، رفض ليندنر بشكل قاطع الاستدانة لسد الفجوة المالية. خلال استراحة الاجتماع، أعلن ليندنر موقفه علنًا عبر موقع (Bild.de)، مما أثار موجة من الجدل انتهت بإقالته بشكل مثير للجدل.
ليندنر سعى لإنهاء الائتلاف كان الخلاف يدور حول فجوة صغيرة في الميزانية تُقدَّر بنحو 0.2 إلى 0.3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. خلال الاجتماع الحاسم، اقترح المستشار أولاف شولتز إعلان حالة طوارئ اقتصادية مرتبطة بالمساعدات لأوكرانيا، واحتساب 15 مليار يورو خارج الميزانية الاعتيادية. لكن وزير المالية كريستيان ليندنر رفض هذا الاقتراح بشدة، مُصرًّا على التمسك بسياسة “فرملة الديون”.
قبل أيام قليلة من الاجتماع، ساهم ليندنر في تعقيد الموقف بشكل أكبر عندما قدم وثيقة تدعو إلى “تحول اقتصادي”. تضمنت هذه الوثيقة مطالب بتخفيض الضرائب على الشركات بنسبة 4.5 بالمئة اعتبارًا من عام 2025. هذه الخطوة كانت ستقلل تلقائيًا من المرونة المتاحة في مفاوضات الميزانية.
تشير هذه التطورات إلى أن ليندنر كان يسعى عمدًا لإنهاء الشراكة في الائتلاف. يبدو أنه أراد استغلال موقفه الصارم لتحقيق مكاسب سياسية لحزبه، الحزب الديمقراطي الحر، وكسب نسبة إضافية تتراوح بين 1 و2 بالمئة من الأصوات من خلال الدفاع عن مصالح الشركات وملاك العقارات. كان هدف ليندنر الأساسي هو ضمان تجاوز الحزب حاجز الـ5 بالمئة اللازم لدخول البرلمان الاتحادي في الانتخابات المبكرة، وبالتالي الخروج من الائتلاف الثلاثي المتعثر بأقل خسائر ممكنة.
الأسباب العميقة وراء انهيار الائتلاف لم يكن الخلاف الذي تسبب في انهيار الائتلاف مجرد حدث عابر، بل كشف عن مشكلة أعمق وأكثر تعقيدًا. تستند “فرملة الديون”، التي أصر عليها كريستيان ليندنر، إلى قاعدة مالية تفرض قيودًا صارمة على ميزانية الحكومة الفيدرالية، حيث تحد من اقتراضها إلى 0.35 بالمئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي. أي تجاوز لهذه النسبة يُعتبر “غير دستوري”، بينما مُنعت الولايات الفيدرالية منذ عام 2020 من الاقتراض نهائيًا.
هذه القاعدة ليست اختراعًا من الحزب الديمقراطي الحر، بل تم تبنيها عام 2009 بدعم من حزبي الاتحاد الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي والحزب الديمقراطي الاجتماعي)، وتم إدراجها في القانون الأساسي للدولة.
رغم أنها تبدو كإجراء وقائي للحد من الأعباء المالية المفرطة، إلا أن الهدف الحقيقي منها كان تقليص السياسات الاجتماعية التي تخدم مصالح الطبقة العاملة، خصوصًا في أوقات التقشف المالي. في الواقع، أصبحت القاعدة أداة لفرض سياسات مالية تُثقل كاهل الأغلبية من السكان. وإلغاء هذه القاعدة يتطلب أغلبية الثلثين في البوندستاغ، مما يجعل التغيير شبه مستحيل.
بالنسبة للحزب الديمقراطي الاجتماعي، استغل هذه القاعدة كذريعة مريحة لتبرير عجزه عن تلبية توقعات ناخبيه والنقابات العمالية أثناء وجوده في الحكومة.
عندما دخل الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الخضر في ائتلاف مع الحزب الديمقراطي الحر عام 2021، ووافقا على منح حقيبة وزارة المالية للحزب الديمقراطي الحر، كان ذلك جزءًا من خطة سياسية محسوبة.
أُسندت مهمة “مفوض الادخار” إلى كريستيان ليندنر ليُظهر كأنه المسؤول الأول عن السياسات المالية الصارمة، وفي الوقت نفسه كعائق أساسي أمام تنفيذ سياسات تخدم مصالح الطبقة العاملة. بهذه الطريقة، كان الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الخضر يأملان في تقديم ليندنر ككبش فداء لإرضاء أنصارهما، مع الاستمرار في إعطاء الأولوية لمصالح رأس المال الألماني على حساب الطبقة العاملة.
لكن الحسابات لم تنجح وُجِه الاستياء كاملًا إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الخضر. ففي غضون ثلاث سنوات فقط، بين أكتوبر 2021 وأكتوبر 2024، انخفضت نسبة تأييد الحزب الديمقراطي الاجتماعي من 25% إلى 16%، وحزب الخضر من 17% إلى 12%، والحزب الديمقراطي الحر من 13% إلى 3%. ووفقًا لاستطلاعات الرأي، تراجعت نسبة الأشخاص الذين وصفت حالتهم بأنها “راضين للغاية” أو “راضين” عن أولاف شولتز من 60% إلى 21%، وعن روبرت هابيك من 50% إلى 28%، وعن كريستيان ليندنر من 47% إلى 17%.
يعكس هذا التراجع في دعم الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الخضر داخل الائتلاف أزمة عميقة في فكرة الإصلاحية – وهي الاعتقاد بإمكانية ترويض الرأسمالية من خلال الإصلاحات.
حقق أولاف شولتز الفوز في انتخابات 2021 بوعد رئيسي يتمثل في رفع الحد الأدنى للأجور، وقد تحقق ذلك بالفعل عندما ارتفع الحد الأدنى إلى 12 يورو في الأول من أكتوبر 2022.
لكن المشكلة تكمن في أن التضخم المرتفع الذي بدأ في عام 2022 أضعف تأثير هذا الارتفاع في الأجور بسرعة. كما أن الزيادات الكبيرة في أسعار الطاقة والمواد الغذائية، الناتجة عن سياسات ائتلاف إشارات المرور، أثرت بشكل خاص على الشرائح الفقيرة وأصحاب الدخل المحدود.
وساهمت سياسات وزير الاقتصاد، روبرت هابيك، المتعلقة بالمناخ، والتي اتبعت نهجًا متوافقًا مع السوق، في تفاقم الوضع.
وأثار قانون التدفئة لعام 2023، الذي كان من المفترض أن يساعد أصحاب المنازل والشقق على تغطية تكاليف تركيب مضخات الحرارة الإلزامية، مخاوف كبيرة لدى صغار ملاك العقارات. وزادت وسائل الإعلام اليمينية، بقيادة صحيفة بيلد، من تأجيج هذه المخاوف، مما خلق مناخًا من القلق.
وقد انعكست العواقب بوضوح في الإحصائيات. إذ لم تقتصر الأزمة على ارتفاع معدل الفقر في ألمانيا إلى مستوى قياسي جديد، وفقًا للتقرير الحالي لمعهد WSI القريب من النقابات، بل إن التوقعات المستقبلية كانت قاتمة أيضًا: أكثر من نصف الأشخاص في الفئات ذات الدخل المنخفض، وحتى ما يقرب من 47% من أفراد “الطبقة الوسطى العليا”، أعربوا العام الماضي عن خشيتهم من عدم قدرتهم على الحفاظ على مستوى معيشتهم في المستقبل.
الحزب الفاشي “البديل من أجل ألمانيا” هو المستفيد حتى الآن، كان الحزب الفاشي “البديل من أجل ألمانيا” هو المستفيد الأكبر من فشل السياسات الحكومية والمخاوف المتزايدة بين الناس. في عام 2023، حقق الحزب تقدمًا كبيرًا في استطلاعات الرأي، حيث وصل إلى أعلى نسبة تأييد له على الإطلاق، بلغت 23% على المستوى الوطني. لعب رد فعل الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الخضر دورًا حاسمًا في هذا الصعود. بدلًا من التصدي للحملة العنصرية التي قادها حزب البديل من أجل ألمانيا بدعم من هيئة تحرير صحيفة بيلد، شاركوا في لعبة “فرق تسد” وتنافسوا فيما بينهم على تقديم مقترحات بزيادة الترحيلات وتنفيذها بوتيرة أسرع.
في أكتوبر 2023، افتتحت مجلة شبيغل عددها باقتباس عن المستشار أولاف شولتز قال فيه: “علينا أخيرًا تنفيذ عمليات ترحيل واسعة النطاق.” وبعد عام، ظهر رئيس وزراء حزب الخضر كريتشمان إلى جانب قادة ولايات من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، مثل فوست ونور وجونتر، ودعا كذلك إلى تشديد الإجراءات ضد “الهجرة”.
بهذا الشكل، ساهم الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الخضر في تعزيز الحملة التي ألقت باللوم على تدفق اللاجئين باعتباره السبب الرئيسي لانعدام الأمن في البلاد، مما جعلهم، من حيث النتيجة، مساهمين غير مباشرين في نجاح حزب البديل من أجل ألمانيا الانتخابي.
التسلح والبؤس الاجتماعي قائمة إخفاقات الائتلاف الحاكم طويلة جدًا لدرجة يصعب حصرها. فرغم وصفه لنفسه بـ”الائتلاف التقدمي”، لم يتمكن حتى من تنفيذ مشاريع بسيطة وغير مثيرة للجدل، مثل تقنين الإجهاض.
لكن هذا الفشل يعكس نظامًا منهجيًا. فالحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الخضر يضعان تعزيز تنافسية الرأسمالية الألمانية في صدارة أولوياتهما. وجاء رد فعلهما على تصاعد التحديات العالمية بإطلاق برنامج تسليح ضخم. حتى أن وزير الاقتصاد، روبرت هابيك، وصف نفسه بأنه “وزير التسلح.” كما ضخت الحكومة مليارات اليوروهات لدعم شركات مثل ThyssenKrupp وTSMC وTesla أو لجذب استثماراتها.
الميزانية العسكرية النظامية واصلت الارتفاع، بالإضافة إلى إعلان شولتز في عام 2022 عن تخصيص 100 مليار يورو لصندوق خاص لدعم القوات المسلحة الألمانية. وقد قوبل هذا الإعلان بتصفيق حار من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي. ومنذ ذلك الوقت، لم يجرؤ أحد في الطبقة الحاكمة على التشكيك في هذا “الميزانية الموازية”، بما في ذلك وزير المالية ليندنر.
في المقابل، وُصِف الإنفاق على احتياجات المواطنين بأنه مجرد عبء مالي. إذ تشهد النفقات على المستشفيات، ودور رعاية الأطفال، والمدارس، ورواتب القطاع العام تقليصات كبيرة.
صحيح أن هناك استثناءات، لكنها لم تكن كافية لتحسين صورة الائتلاف، لأن أولوياته كانت دائمًا في مكان آخر.
أحد الأمثلة البارزة كان تقديم تذكرة الـ9 يورو في صيف عام 2022. بيعت هذه التذكرة 52 مليون مرة، مما مكّن تقريبًا جميع السكان من استخدام الحافلات والقطارات المحلية والإقليمية بطريقة ميسورة التكلفة وصديقة للبيئة.
ومع ذلك، واجهت التذكرة انتقادات حادة من وسائل الإعلام حتى قبل طرحها، بدعم من مسؤولين داخل الائتلاف نفسه.
السبب بسيط: مثل هذه التذكرة تفيد المناخ وتخدم غالبية السكان، لكنها تحتاج إلى تمويل حكومي. وهذا التمويل كان يُفضل أن يُوجَّه إلى التسلح أو دعم الشركات الصناعية.
النتيجة: المشروع الأكثر نجاحًا الذي قدمه الائتلاف الحاكم أُلغي بعد ثلاثة أشهر فقط.
ما القادم؟ هناك درس واحد واضح يمكننا أن نتعلمه من فشل الائتلاف الحاكم: الاعتماد على إصلاحات أو تشكيل ائتلاف تقدمي ينتهي دائمًا إلى طريق مسدود. تحسين ظروفنا المعيشية لا يعتمد على الحملات الانتخابية، بل يتطلب نضالًا طبقيًا حقيقيًا.
هذا ما يجعل الوضع الحالي يحمل في طياته قدرًا من الإثارة. فحملة الانتخابات الفيدرالية تتزامن مع مفاوضات الأجور في القطاع العام. بالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي الإعلان عن إغلاق ثلاثة مصانع لشركة فولكس فاجن إلى اشتعال نضالات دفاعية يمكن أن تمتد آثارها إلى ما هو أبعد من القوى العاملة المتضررة.
لا ينبغي أن تكون نهاية هذا الائتلاف سببًا للقلق بالنسبة لليسار. بل على العكس، هي بداية لجولة جديدة من النضال الطبقي الذي قد يفتح المجال لتغيير حقيقي.
نُشر في Revolutionäre Linke
#يونس_الغفاري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليسار الفرنسي يبحث عن طريق للمضي قدمًا بعد منعه من المشاركة
...
-
كيف فقد المستخدمون السيطرة على الإنترنت
-
دحض الأساطير حول الكيان الصهيوني
-
رأس المال المُغَامِر والشركات الناشئة.. الأداة المعاصرة للرأ
...
-
شبكات التواصل الاجتماعي والقيمة المضافة
-
طيارين مصر.. الأوضاع المُتردية لعمال التوصيل في مصر
المزيد.....
-
مقطع فيديو يٌظهر دخول قوات المعارضة إلى مدينة حلب
-
لقاء لبناني ـ أمريكي بعد الخروقات الإسرائيلية لاتفاق وقف إطل
...
-
إسرائيل تعلن تدمير منصة صواريخ متنقلة لحزب الله في جنوب لبنا
...
-
القمة الخليجية: كيف تأسس مجلس التعاون الخليجي؟
-
عاجل: أنباء عن دخول قوات المعارضة مدينة حلب السورية
-
وفاة طفلين وسيدة اختناقا جراء تدافع حشود -الجائعين- أمام مخب
...
-
استخباراتي إسرائيلي سابق يكشف الخيار الأفضل لتل أبيب بشأن غز
...
-
وسائل إعلام: الطيران الحربي السوري يستهدف مقرات قيادة الجماع
...
-
السعودية.. ضبط أكثر من 2.4 مليون قرص من مادة -الإمفيتامين- ا
...
-
بوتين يوجه رسالة لعباس حول أهمية حل النزاع الفلسطيني الإسرائ
...
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|