خالد فارس
(Khalid Fares)
الحوار المتمدن-العدد: 8176 - 2024 / 11 / 29 - 16:16
المحور:
القضية الفلسطينية
يُعَرِّفْ اليسار الفلسطيني نفسه من خلال النظرية الإشتراكية الماركسية كونها دليل عمل يَسْتَرْشِدْ بها في قرائة الواقع. و يُعَرِّفْ نفسه أيضا بأنه حركة وطنية فلسطينية, وقومي بدرجات مختلفة تتدرج من تماهي الوطنية والقومية كأنه يماثل فيما بينهما, الى تمييز بينهما لغاية تجسير العلاقة. وأممياًّ من منطلق أن التحرر, سياسي إنساني ضد الإمبريالية والإستعمار والصهيونية والفاشية والنازية والعنصرية ...الخ
لا شك بأنه تعريف ثقيل, إنزاله عن الشجرة الى أرض الواقع ليس تحصيل حاصل. أَدَّعيِ أن اليسار الفلسطيني مازال عالقا على الشجرة, نزل عنها ذاتياً, بمعنى في الذهن المنفصل عن الواقع, ينزع عنه هذا النزول أن يكون يسارأ حقيقيا جذريا, لأن جوهر الفكر الماركسي يقوم على العلاقة الجدلية والعبقرية بين الذهن والواقع. أما النزول عن الشجرة ذهنيا, يعني أنه وطني – قومي في سياقات ثقافية, وليس تحرري سياسي في سياقات الواقع العياني. هذه "ثيمة" أزمة اليسار العامة.
ثَمَّ مظاهر لذِهْنَوِيَّةْ اليسار تنطلق من الخلط بين الواقع وتوظيفاته. فعلى سبيل المثال, يتعامل البعض مع شعار "ياوحدنا" على أنه شعار ليس واقعي أو ليس من الواقع, بل تم تصميمه من قِبَلْ "اليمين" الفلسطيني لكي يسير في نهج التسوية. فهو يرفض التعامل مع شعار "ياوحدنا" لأنه كما يقول البعض أنه "أوصلنا الى ....نهاية مأساوية". لو صح هذا القول, وفيه وجاهة كبيرة لا تخلو من أنها لا تَخُصْ اليمين فقط, بل هي أيضا تتعلق بدور اليسار في "المأساة", هل يجوز أن ترفض الواقع لأن موازين القوى أو علاقات القوة أو وهن وضعف اليسار لم يكن قادراً على توظيف الشعار في سياقات تحررية؟
هكذا طريقة تفكير تؤشر على شخصية "أجاثا كريستي" مفترضاً أن دوره في أن يكون مُحَقِّقْ خيالي (ذهني), وأن هناك جريمة ومجرم يجب توجيه أحكام قضائية عليهم.
فشعار "ياوحدنا" له نصيب من الواقع, وله تموضع في العياني الإجتماعي والتاريخ السياسي, إنكاره لأن هناك توظيفات من قيادة فلسطينية له, يؤكد أن اليسار يضع ذِهْنَوِيَّتَهُ فوق الواقع الموضوعي, مُتَّخِذاً منها دليلا يَسترشد فيها لتجريد الواقع وممارسة تعمية أيديولوجية على الشعب الفلسطيني.
كان على اليسار أن يتبنى "ياوحدنا" ويُحَوُّلُها الى وقود تحرر سياسي, لأنها من الواقع. ونقول ذلك, لأن الظرف الموضوعي الممتد منذ عقود طويلة قبل تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية تؤكد هذا الواقع. فالشعار له سياق ومضمون في الواقع وليس في مفرداته ولغته.
يقول صلاح خلف-أبوإياد في كتابه فلسطيني بلا هوية ص 64-65 "فقد إستشهد الشيخ عز الدين القسام, وهو مناضل حقيقي من أجل الحرية, قام بتنظيم الفئات الدنيا من الفلسطينيين قبل أن يبدأ المقاومة السرية عام 1932 وقضى ببطولة لأنه لم يستطع الحصول على أدنى دعم من أي بلد "شقيق". ...لقى مصرعه عام 1935, أثر معركة خاسرة سلفا, ...الا أن موته يعزى بخاصة الى المتواطئين العرب مع السلطات البريطانية."
"كذلك فان أي نظام عربي لم يهب لنجدة الشعب الفلسطيني أثناء عصيان عام 1936 الشعبي....فلم تكتف الدول العربية بأنها لم تفعل شيئا لوقف المذابح وحسب, ولم تكتف بالإمتناع عن تقديم معونة مادية لشعب أعزل يواجه المدافع والدبابات الإنكليزية, بل إنها وجهت نداء علنيا الى الشعب الفلسطيني تدعوه فيه الى وقف المعارك ضد-وبالحرف "حليفتنا العظمى إنكلترا"
"وفيما بعد الحرب واصلت الدول العربية رفضها لمد الفلسطينيين بالوسائل التي يدافعون بها عن أنفسهم, في حين كان الصهاينة فيه يتلقون كميات مذهلة من الأسلحة بفضل تواطؤ الانكليز السلبي أو الفعال, في ذات الحين الذي كان فيه ميزان القوى ينقلب بصورة خطيرة لصالح "الهاغاناه, وفي نفس الوقت الذي كانت هذه الأخيرة تواصل في الأشهر الأولى من عام 1948 غزوها للأراضي. ولكنهم إنقاذا للمظاهر أرسلو بضع مئات من البنادق لأجل عشرات الآلاف ممن كان يمكن تعبئتهم من بيننا لخوض المعركة."
"فالدول العربية يسرت وساعدت, عمليا, على تدعيم الأمر الواقع الذي هو إنشاء دولة اسرائيل,متيحة لهذه الأخيرة أن توسع مساحة الأراضي التي خصصتها لها هيئة الأمم المتحدة."
"المثل القائل " كل الثورات التي تولد في فلسطين, تُجهض في العواصم العربية" فقد اثبتت التجربة أن كافة أنظمة المنطقة-الرجعية منها والتقدمية-تعاملنا في نهاية الأمر بنفس الطريقة مقدمة مصالحها على مصالح الشعب الفلسطيني."
"وعلى هذا فان مؤسسي حركة فتح أقسموا اليمين على التصدي لكل محاولة لاخضاع الحركة الوطنية الفلسطينية لاشراف حكومة عربية كائنا ما كانت هذه الحكومة, وعلى السهر على الا يستعيدها أي بلد "شقيقي" الى حظيرته." نهاية الإقتباسات.
أليست "ياوحدنا" حالة موضوعية ممتدة منذ ما قبل منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح الى زمان طوفان الأقصى؟ هل تغير الواقع الموضوعي؟ تغير فقط في المكان الذي لادولة مركزية تفرض سيطرتها السياسية (لبنان واليمين), لهذا نشأ تحرر سياسي كما أشرت في مقال سابق قدمته لمجموعة منتدى الحوار العربي (قاوم) "الوحدة الوطنية الفلسطينية بين الشكل والمضمون؟ الوحدة الوطنية الفلسطينية بين السياسي والعَياني؟"
وجاء في المقال المذكور أيضا " معادلات سياسية تفرض نفسها وسياقها كظرف موضوعي (النقطة المفصلية في تحديد العَياني) جاثم على الشعب الفلسطيني بالمباشر (الديمغرافيا الفلسطينية في الشتات والداخل). فالظرف الموضوعي هو نقطة البدء في تحديد العياني السياسي. ماذا يواجه الشعب الفلسطيني في الواقع المباشر؟" نهاية الإقتباس. وهذا برأيي ينطبق على شعار "ياوحدنا" الذي هو عبارة عن معادلة سياسية قائمة في الواقع الموضوعي. أما توظيفات هذا الشعار: إما أن يكون صياغة ثقافية أو صياغة معادلة تحرر سياسي, فالأمر مرتبط بممارسة تُمَيِّزْ بين الوحدة الوطنية والوحدة السياسية.
لم تأت حركة فتح على توجهها التاريخي بدون تشخيص للواقع العياني, ولا يعني تشخيصها أنها سارت على طريق الصواب, بل هي إنحرفت عن منطلقاتها وذهبت بها الى تصورات ذهنوية بعد أن وظفت التشخيص العياني الموضوعي للواقع في سياقات سُلْطَوية نزعت التحرر السياسي من مضمونه وإستبدلته في أنماط لا ثورية, تسعى من خلالها الى "إنتزاع" دولة وفقا للقانون الدولي أو من مبادئه, التي لها ما بعدها, طبقا لتصورات العديد من المنظرين.
إن شعار "ياوحدنا" عَبَّرَ ومازال, يشي بأن أمام الفلسطيني 1) إما أن يكون تحت الدولة العربية ويكون ليس وحده ولكنه فرعا منها (قرار الضم الأردني, فرع من فروع جهاز المخابرات السوري, أو فرع ترس في وزارة الخارجية أو الداخلية العربية...), 2) أو يكون هو في المرتبة الثانية أو الثالثة ....., لأنه من المنطق التاريخي عند وجود دولة (هذه أبجدية) أن تكون هي أولاً, لأنه من جوهر تعريف الدولة أن تكون هي المقدمة والبداية والنهاية وليس حركات التحرر (لا صوت يعلو على صوت الدولة مقابل-نقيضه شعار لا صوت يعلو على صوت الثورة), 3) أو أن يُعَبِّرْ عن إستقلاله لكي يكون لتحرير فلسطين أو المشروع الوطني الفلسطيني عناوين مُباشرة ليست تحت الدولة العربية وليست ثانيا أو ثالثاً, بل أولاً للتحرر السياسي.
إن شعار "ياوحدنا" في سياقه اليساري التحرري يعني إستنهاض قوى التحرر السياسي العربية للقيام بدورها في تغيير معادلات سياسية, وأن لا تَرْكِنْ أو تعتاش على هوامش أو منتجات السياسي الفلسطيني الفاعل الوحيد في ذلك الوقت, و تَرْهَنْ كل مصيرها حصراً على سياقات القضية الفلسطينية وظروفها, بتجريد وتجويف السياسي في مجتمعاتها, أو شرط عدم المساس بمجتمعاتها (تحت حجة الإختباء خلف القضية الفلسطينية). ففد تموضع اليسار العربي (عموما, دون تخصيص مع وجود إستثناءات لكنها ليست غالِبة) في الخمول السياسي السلبي (Passivity) الذي عندما غابت منظمة التحرير, إنكشف واقع اليسار العربي على عدمية ووهن في بُنْيَتِهِ وأنه (يِعِدْ ما إستطاع غليه سبيلا) و لم يعمل على بِناءْ إجتماع سياسي, أراد أن يكون إما تحت منظمة التحرير أو تحت الدول القُطْرية, لذلك بعد غياب المنظمة, ركض ولهث نحو الدولة لكي تَحْتَضِنَهُ وتُنْقِذُهُ من الفناء. أثبتت التجربة أن ما يسمى في حركة التحرر العربي لم تكن موجودة سوى في سياقات منظمة التحرير, وهذا يعني أنها حال ذهنية وليست أنطولوجية وجودية من الأصل, لا جديد تحت الشمس, إنما هي إنكشاف حقيقة مستترة أو ضمنية عاش على أوهامها اليسار الفلسطيني الذي نقل هذه الديماغوجيا الى الشعب الفلسطيني ونُخَبِهِ.
لا علاقة لنشوء وولادة الواقع السياسي العربي بوجود منظمة التحرير, لأن الواقع العربي (الدولة العربية تحديدا, وهي بُنْيَة موضوعية صلبة) سابِق عليها, موجوداً في بُنْيَة وهياكل مادية موضوعية قائمة بالدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية والإقتصادية والسياسية والثقافية وبُنْيَةْ مُجْتَمَعْ جزءا أصيلاً وتابعاً غير مستقلاً عن الدولة في يمينه ويساره, كان ومازال مُلتصقا بها قَبْلَ واثناء وبعد منظمة التحرير, فهو يسار الدولة أو تحت الدول (Under Nation State) بذا فهو يسار وحدة وشراكة وطنية, وليس تحرر سياسي.
بالإستنباط المنطقي والتاريخي العَياني, فإن الظَّرْفْ المَوضوعي العربي, هو الأكبر والأقوى والأكثر تأثيراً على الحالة الفلسطينية من تاثيرها عليه. من يقول غير ذلك, فهو ينطلق من ذِهْنَوِية مُجَرَّدَة عن الواقع, ويسعى فيها لأنه ترك موضوعية التاريخ على الشجرة وعَرَجَ الى أرضٍ جَرداء قاحِلة من الُمحتوى, كأنه على جزيرة من أفكار "جزيرة روبنسون التي تحدث عنها ماركس".
تَوَجَّهْتُ بسؤال الى الدكتور سيف دعنا في أحد الحوارات (سؤال وإجابة من الدكتور للمشاركين في الندوة) على وسائل التواصل الاجتماعي, "هل بناء مشروع التحرير كان ممكنا دون تغيير الأنظمة السياسية في دول الطوق, وهل مطلوب من حركة التحرر الفلسطيني بناء مشروع لتغيير الأنظمة"؟
هدفي من السؤال هو مقاربة موضوعية للمهمات المرحلية لحركة التحرر الوطني الفلسطيني. بمعنى أن الحائط الحديدي الثاني (الحائط الحديدي الأولى هو المشروع الصهيوني) الذي تواجهه الثورة الفلسطينية هو حائط عربي, بسبب أن الثورة الفلسطينية إنطلقت من أماكن تواجد الشعب الفلسطيني في الشتات. لذلك, فإن الإجابة مهمة لغاية التشخيص الموضوعي, ووضع تصور إستراتيجي, وليس كما نَظَرَ الدكتور دعنا الى السؤال على أساس أنه دعوة الى "وصفات جاهزة" وإستتبع إجابته بتمييز الظرف الذاتي عن الموضوعي, حيث أن هذا الجزء كان مفيدا ومهما بلا شك وهو لب النقاش بالتأكيد, ولكن الإجابة كانت عبارة عن مقاربة من خلال التناظر (Analogy) بين التجربة الجزائرية وواقعها الموضوعي والذاتي والفلسطينية. وهذا النوع من الإجابات يُغْني النقاش ومهم, ولكننا نَعرفه, فكنت أبحث فيما لا يتم التطرق له, ولا يعرفه ولا يواجهه الكثير. ملاحظة: قدم الدكتور دعنا اثناء حديثه مقاربات لها أهمية كبيرة نظرية وعملية, فيما يتعلق ببنية قيادة الثورة الفلسطينية والشتات, أتطلع الى قرائة ما هو متاح عن هذه المقاربة. وأعتقد في ضرورة أن يأخذها اليسار بعين الإعتبار, لأنها ستساهم في إثراء سيرورة الإرتقاء بأنماط التفكير الحالية الى مستويات تحررية سياسية إنسانية.
لم أكن أبحث عن "وصفة جاهزة" كما تَصَوَّرَ الدكتور دَعْنا, بل مقاربة منظورية أو منظور (Perspective) عن كيف نتعامل مع واقع موضوعي حقيقي عياني, يتموضع بمبناه العُضْوي والميكانيكي فوق القضية الفلسطينية وحركة التحرر الوطني الفلسطيني, بمعنى له اليد الطولى والأدوات والوسائل القتالية وغيرها. للسؤال وجْهٌ آخر, هل كان على حركة التحرر الوطني الفلسطيني أن ترتقي الى مستوى الدولة العربية لتقرر عليها ما يجب عمله, أو تفرض إرادتها, وإذا لم يكن, ماذا كان على منظمة التحرير أن تعمل؟ أم ماذا قدم اليسار في هذا وماذا لم يقدم؟
أعتقد أن أسئلة ذات صلة مع الظرف الموضوعي تُشَكِّلْ مرآة للحقيقة, لا يُريد أن يواجهها الكثير من اليساريين الفلسطيين. محطة الهروب عندهم هو اللعن والشب والشتم والتشكيك والإدانة ونقد النوايا, وليس الكلام المنطوق أو المكتوب, لا يخلو الأمر من التخوين (توظيف جزافي وتسويف ذهني لمقولات من لينين وجيفارا, ماهي سوى دليل على ضحالة في التفكير السياسي, وتجريد للمحتوى المطروح لمأسسة العدمية في تفكير اليسار, إعادة إنتاج الفشل) يتم وضعها أمام كل يحاول أن يحرك المياه الراكدة التي ترعرعت فيها ذهنويات على مدى عقود حان وقت تعقيمها من منطلقاتها الفكرية الطُفَيْلِيَّة اليسارية في الواقع الفلسطيني, "طُفَيليات الشجرة و الأبراج العاجية. "
ولو عملنا أشعة مقطعية على أدوار اليسار الفلسطيني في دول الطوق مثلاً, في الأردن على وجه الخصوص, لن نجد ما نقرأ فيه لليسار عن تشخيص للواقع الموضوعي لا في سوريا ولا في الأردن, ولا عن المعادلات السياسية قبل وبعد منظمة التحرير. هل دور وموقف الحزب الشيوعي الأردني من قرار الضم الأردني موقف دولة سياسي (هاشمية سياسية) أم موقف حزب بناءً على تصورات يسارية موضوعية أم ذِهْونَية (إجتماعية أهلية عشائرية أم طبقية)؟ وما تأثير ذلك على إلغاء الوجود السياسي الفلسطيني أو الإرتقاء به؟ ما هي البُنْية الاجتماعية الأردنية, ماعلاقة البُنْية العشائرية بالمعادلات السياسية والإجتماع السياسي, كيف تسير العملية السياسية في العلاقة بين المجتمع والدولة, ما تأثير وما العلاقة المتبادلة الذهنية والعيانية بين العشائر والحركة الوطنية الأردنية, ما هي سيرورت وصيرورات الأردن أولاً, ومتى نشأت وماهو تاريخها, ما المَلَكِيَّة والهاشمية السياسية وعلاقتها بالحزب الشيوعي الأردني والحركة القومية والتيار الإسلامي...ما تقييم الحزب الشيوعي الأردني والحركة الوطنية الأردنية والإسلامية لتمرير قرار الضم بعد إنقضاء التجربة, أسئلة كبرى وصغرى كثيرة, بحاجة الى توثيقها تحت عنوان تشخيص للواقع الموضوعي. لقد فَوَّتَ اليسار وعي اللحظة التاريخية ووعي الظرف الموضوعي, وأسقط ذِهْنِوِيَّتُه المُجَرَّدَة عن الواقع على الواقع.
غياب إجابة معرفية-إبيستيمولوجية تتناول و تعالج الإجتماع السياسي والإقتصاد السياسي, كان ومازال يعني تفريغ تفكير اليسار الفلسطيني من أي تشخيص عياني موضوعي للواقع, والقفز الى مواقف عَرَضِّيَة في صيغة إستنتاجات ذهنوية تقدم نموذج "أجاثا كريستي" عن تجربة الثورة الفلسطينية في الأردن. المُضْحِكْ المُبْكيِ أن اليسار الفلسطيني في الأردن قدم نموذجا أسوأ (ربما الأسوأ) من نموذج أوسلو على صعيد التحرر السياسي, فهو قد دخل في شراكة مع الدولة الأردنية, فيها ما فيها ولها ما لها, "يُفْقِدُه حَقَّهُ المِعْياري" في التنظير ضد نموذج أوسلو لأنه مارس أنموذج أوسلو في الأردن (شراكة مع نظام وادي عربة) ولم يشترط إسقاط الاتفاق أو وضع شروط قبل إطلاق أو المضي قُدُماً في علاقة الشراكة أو المشاركة الوطنية كما يطالب في العلاقة مع أوسلو (بعض اليسار), بل خاض هذا اليسار في علاقة شراكة مع وادي عربة الذي ذهب أبعد من أوسلو عندما أسقط حق العودة. هي ليست إزدواجية معايير, بل تَجَنِّي (لا نقد موضوعي بل نقد وذَمْ ذهني) على تجربة الثورة الفلسطينية وتوجيه الأصبع الى المكان الخطأ, "ضعوا الأصبع أمام المرآة لكي يكون موضوعي."!
سيبقى السؤال الذي لا بد من البحث فيه, و هو سؤال يفرض نفسه, أين السياسي في اليسار؟, هل هو في النظرية أم الوطنية أم القومية أم الأممية أم العلاقة بينهم؟ إذا فشل اليسار في تحديد السياسي, سيبقى تيار ثقافي أو ثقافوي بمعنى فِكْري, له أشكال ومظاهر سياسية.
كيف إذا يمكن تحديد السياسي في اليسار؟ لا يَنْتُجْ السياسي لا من النظرية ولا من الوطنية أو القومية أو العلاقة بينهما, إنما من دراسة بُنْية المُجْتمعات التي فيها تناقضات وإشكالات تُوْجِبْ المعالجة. بلغة أخرى من تشخيص الواقع الموضوعي للمجتمع والديمغرافيا.
فالسياسي هو التناقضات الاجتماعية الذي يتخذ تعريفات في معادلات تحرر السياسي: الموقف من الدولة, المجتمع, العلاقة بين الدولة والمجتمع, المقاومة ضد الإحتلال, ..بلغة أخرى الإجتماع السياسي والإقتصاد السياسي. لذلك يكون السؤال من أين نبدأ أو ماهي نقطة الإنطلاق؟
للسؤال معنى خاص في السياق الفلسطيني, بسبب طبيعة القضية الفلسطينية التي فيها الشتات ظاهرة فريدة في الثورات, وطبيعة الاحتلال الذي هو أيضا نمط إحتلال لا مثيل له (مشروع دولة التوراة مثلاً) بما يعني أن تعريفه السياسي يتميز عن غيره بالرغم من وجود تقاطعات مع منظومات إحتلال سابقة عليه, والواقع العربي الذي تأسس على الترابط البنيوي بين الاحتلال ومشروعه الكبير وبنية الاقتصاد السياسي لهذه الدول ومجتمعاتها. والأخطر أن هذا الاحتلال هو أكثر إحتلال يتلقى دعماً دولياًّ من منظومة عالمية كبيرة.
لذلك, فالسياسي الفلسطيني يتكون من واقع موضوعي: 1) إجتماع سياسي في واقع تواجد الشعب الفلسطيني (الشتات الفلسطيني) 2) إرتباط الإحتلال ببنية الدولة العربية, 3) إرتباط الاحتلال بمجتمع رأسمالي عالمي, 4) مشروع دولة التوراة اليهودية الصهيونية. 5) ضعف "محور الممانعة" سياسيا وغياب مشروع و محور تحرر سياسي, يخوض في مشروع مواجهة مباشرة من دول الطوق, يتصدى لهزيمة المشروع الصهيوني. 6) غياب أي دور فاعل لقوى التحرر السياسي اليساري في مجتمعاتها لتغيير معادلات سياسية.
يمكن إجمال ما جئنا عليه بأنه عناصر ضعف السياسي الفلسطيني أو عناصر قوة للعدو الإسرائيلي.
أما في عناصر قوة السياسي الفلسطيني يكمن 1) وجود منظمة التحرير كممثل وحيد للقضية, فلا يوجد قضية سياسية بدون تمثيل شرعي لها, 2) مقاومة في لبنان الى جانبها اليمن والعراق وموقف دولة صلب في الجمهورية الإيرانية, 3) القانون الدولي الذي يحمل عناصر قوة وليس كله لصالح فلسطين, 3) الديمغرافيا الفلسطينية في غزة والضفة والقدس ضمن كافة أشكال المقاومة المدنية والسياسية التحررية في مواقع الوجود الفلسطيني, 4) حالة إسناد شعبي عربي, لكنها حالة وجدانية أقل من سياسية (تَفتقد الى قيادة تيار تحرر سياسي يخوض في تغيير معادلات سياسية).
أمام هذا المشهد, إن عدم تقديم اليسار برنامج سياسي يقدم معادلات تغيير سياسي للواقع, وحيث أنه لا يَمْثُلْ أمامنا قصة نجاح سياسي مَرْجِعْ (مثلاً, بناء جبهة شعبية سياسية تجمع اليسار وقوى التحرر السياسي) في اليسار الفلسطيني يمكن البناء عليها, من المنطقي أن نفترض أن غياب هذا النجاح, يعود الى التصميم على ذات النهج الذي تسبب في الفشل السياسي.
لا أدعي أنني قدمت مقاربة شاملة, بل هي مقاربة على طريقة طرح محاور ونقاط ليست أكثر. لم اقدم دراسة علمية أو منهجية, بل التفكير بصوت عالي, فيه من الأمانة والشفافية والمباشر, ما أَعْتَقِدْ به.
خ.ف.
25/10/2024.
رسالة وجههتها الى الدكتور سيف دعنا عبر مجموعة منتدى الحوار العربي (قاوم), في سياق نقاش دار حول توظيفات "ياوحدنا" التي يؤخذها الكثير في سياقات غريبة عن الواقع الحقيقي المرتبط بها, ويخرجها من إجتماعها السياسي التحرري الذي أوجدها وأثبت دقتها. بغض النظر عن توظيفات سياسية لهذا "الإصطلاح" من تيارات سياسية....
#خالد_فارس (هاشتاغ)
Khalid_Fares#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟