إله المشرق الإسرائيلي وتناسُخاته
ياسين الحاج صالح
2024 / 11 / 28 - 23:52
عزلُ المصير السوري عن المصير الفلسطيني واللبناني، والمشرقي في عمومه، ليس غير تحرري فقط وإنما هو غير ممكن قبل كل شيء. إسرائيل تتكفل بعدم إمكانه بالتصرف طوال الوقت كسيادة عليا غير منازعة في الإقليم، تخوض صراعاً وجودياً على الدوام، أي مطلقاً وإبادياً، ولا تترك ما حولها من بلدان في شكل مقبول من حيث الاستقلال والأمن والدفاع عن النفس. هذا ظاهر في الجولة الحالية من الصراع حيث تضرب إسرائيل في فلسطين ولبنان وسورية في الوقت نفسه، لكنه لم يكن محجوباً كثيراً عن الأنظار قبل هذه الجولة ومنذ قيام الكيان الإسرائيلي في واقع الأمر. وليس لاستغلال أطقم حكم وميليشيات مسلحة مشرقية للواقعة الإسرائيلية من أجل التحكم بمجتمعاتها، وهو ما آل بصورة ثابتة إلى إضعاف هذه المجتمعات وتمزيقها، أن يغير من واقع السيادة العليا الإسرائيلية، أو بالفعل التأله السياسي والعسكري والأمني والمعلوماتي، الذي رافق قيام إسرائيل، بل سبقه. تشهد على ذلك فكرة الجدار الحديدي لفلاديمير جابوتنسكي، الذي أقر ببعد نظر أن عرب فلسطين لن يتخلوا عن وطنهم طوعاً ولن يمكن خداعهم، وسيعملون على التخلص من خطر الاستيطان اليهودي في أرضهم ويقاومونه بالقوة، ولذلك لا بد من تحقيق تفوق عسكري إسرائيلي ساحق، "جدار حديدي" يحطم العرب رؤوسهم بتحديه. كان هذا قبل 25 عاماً من قيام إسرائيل، أي قبل قرن وعام واحد من اليوم. وهناك من يقولون إن بن غوريون، الخصم الإيديولوجي لجابوتنسكي، سار على نهج القوة الساحقة التي تُحطِّم مقاومات العرب مرة إثر مرة إلى أن ييأسوا ويقبلوا بعُلوِّ إسرائيل وتفوقها عليهم. الأكيد أن بنيامين نتنياهو وحزب الليكود ينحدران من التراث شبه الفاشي لجابوتنسكي الذي كان يلقب بموسوليني اليهود.
وبالفعل تظهر إسرائيل في الجولة الحالية من الصراع التي بدأت في أكتوبر 2023 أنها لا تعترف بحد أو ضابط في التدمير والقتل. ومنذ الآن يتجاوز عدد الضحايا في غزة 50 ألفاً (يقدر أن ما لا يقل عن عشرة آلاف مطمورون تحت ردم منازلهم)، وهو فوق ثلثي كامل عدد الضحايا الفلسطينيين خلال ثلاثة أرباع القرن من الصراع قبلها (كان الرقم 72 ألفاً بحسب ساري حنفي في مقالة نشرت عام 2009). الدمار الذي لا يصدق في غزة، والتدمير الكامل ل37 قرية في جنوب لبنان خلال شهرين، وكسر حتى المعادلات القديمة التي لا يتدنى فيها عدد الضحايا الفلسطينيين المقبول عن عشرة أضعاف عدد القتلى الإسرائيليين إلى عشرات الأضعاف اليوم، واستهداف القيادات السياسية لمقاومي إسرائيل في فلسطين وفي لبنان، وأمر السكان بالإخلاء في المنطقتين المنكوبتين، واستخدام أسلحة هائلة الفتك، وما يبدو من أن إسرائيل عليمة جداً بحزب الله في لبنان وسورية (وأكثر علماً بالحكم الأسدي دون ريب)، كل ذلك يشير إلى أن إسرائيل تتصرف كقوة قدر، كألوهة عالمة قديرة قاهرة غير متناهية القوة، لا ترضى بأقل من رضوخ كلي.
هذا ليس خروجاً من السياسة وحدها، بل هو خروج من الحرب نفسها نحو التعذيب والإبادة. ونحو اللاهوت. وهو يصدر عن تصور للأمن الدائم مما لا يمكن أن يكون مطلب أي قوة بشرية عادية. ما يعرضه التاريخ وما حظيت به أقوى الدول على الإطلاق هو أمن وقتي، يكتسب اكتساباً في مواجهة المخاطر المقدرة. الأمن الدائم مطلب فاشي، تطلعت إلى مثله ألمانيا النازية في "رايخ ثالث" يدوم ألف عام، والولايات المتحدة بعد 11 أيلول 2001، وخرجت من هذه الاستراتيجية خاسرة. وهو باب للإبادة، حتى أن أحد أهم دارسي الإبادة المعاصرين، ديرك موسز، يقيم تعادلاً بين الأمن الدائم والجينوسايد، ويفضل تركيز البحث على المفهوم الأول.
الأمن الدائم والصفة الوجودية لحروب إسرائيل كلها، ومعهما الاستثنائية، أي كونها دولة كالدول وفوق غيرها من الدول، قرائن تأله ينزع إنسانية مقاوميه بقدر ما يرفع نفسه فوق المرتبة الإنسانية. امتلاك السلاح النووي، نار بروميثيوس الحديثة بعبارة الكاتب الإسرائيلي آري شبيط، والتفوق المطلق في سلاح الطيران، وهو السلاح الأكثر إلهية من غيره، عنصرا تأله إضافيان، تكنولوجيان.
وللتأله الإسرائيلي بعد ذلك جذور دينية ممتدة في واقعة أننا حيال شعب- جماعة دنية يشعر بالفعل أنه "مختار" بحسب جدعون ليفي، الصحفي الإسرائيلي الشهير. تاريخ إسرائيل منذ ما قبل قيام الدولة عام 1948 إلى اليوم هو تاريخ صعود الاختيار والوجه الديني، ليس حتماً على حساب الوجه العلماني بل عبره، في الصيغة الليكودية التي نعاينها ونعاني منها اليوم. الديني العائد عبر العلماني مخيف أكثر من الديني التقليدي لأنه يجمع بين صفائية الدين وصرامته، مع ما يتضمنه من اختيار صريح أو ضمني، وبين سيادة الدولة الحديثة (وهي ألوهة معلمنة بحسب كارل شميت).
ولقد حرض ذلك في المجال العربي صعود مقاومات دينية، لا يفتقر أصحابها إلى نوازع الدوام والاستثنائية والاختيار ومنطق الحروب الوجودية، أي كذلك إلى التأله. ليس التأله الإسرائيلي هو الجذر الوحيد لصعود القوى الإسلامية، السنية والشيعية، لكنه من الجذور القوية. الجذر الأساس لصعود الإسلامية كسياسة إلهية هو التأله السياسي لنظم السلطة في مجالنا، ومنها في هذا الشأن كبير الآلهة الإسرائيلي. الحكم الأسدي في سورية جمع بين الأبدية والاستثناء المستمر وطلب الأمن الدائم مما هي خصائص إسرائيلية جداً، ومعها النزعة السيادية ورفض السياسة، وهي خاصية إسرائيلية كذلك، فكان أن رشّح هذا التكوين الحاكميين الإلهيين في مواجهته، أي الإسلاميين. الفرق المهم أن الإسرائيليين جميعاً هم الجماعة الإلهية التي تتعامل فيما بينها بعدل وعقل. متألهو الدولة والدين في مجالنا لا عاقلون ولا عادلون، بل هم أمثلة للأنانية والكراهية والجريمة والتفاهة.
ويمكن أن نغامر بافتراض أن التأله الإسرائيلي يشكل نقطة ارتداد عالمية عن الحداثة العلمانية، معززاً ميلاً صاعداً في الوعي الذاتي الغربي نحو تعريف النفس بالعرق الأبيض أو بالمسيحية أو بالجذور اليهودية المسيحية. نعيش اليوم في عالم من حداثة الاستثناء، أو بالأصح من تهافت الحداثة التي قامت على مبدأ القانون وأفكار العقل والكونية والإنسانية والكوسموبوليتية. يتكلم أنزو ترافرسو، المؤرخ الإيطالي، على "نهاية الحداثة اليهودية" بقيام إسرائيل. كان اليهود أكثر من غيرهم دعاة للعقل والكونية والقانون والتفكير النقدي. لكن قيام إسرائيل حول عدداً كبيراً منهم باتجاه القومية والتمييز والنزعة المحافظة. الامتياز يطلب لنفسه إعفاء من القانون، العام تعريفاً. هذا ينطبق على الأميركيين الذين لا يرتاحون للقانون الدولي لأن إيقاع نمو قوتهم لا يكف عن الدخول في تناقض مع موجبات القانون الدولي، بل مع فكرة القانون الدولي بالذات. وهو ما ينطبق بالمناسبة على النظم العربية التي تعرض ضيقاً بقوانينها هي بالذات طوال الوقت، وبخاصة القوانين التي تحمي المجتمع أو أفراداً منه من سلطانها الفالت.
وهذا للقول إن جذر التأله السياسي في مجالنا هو الامتياز والسلطة غير المقيدة. إسرائيل هي المثال الأصفى للامتياز والقوة المطلقة، ورعايتها المتطرفة من قبل القوى الغربية بعد 7 أكتوبر 2023 ليست خيانة للقانون الدولي وحده، بل نقطة انعكاس محتملة لكل قيم الحداثة التي يحدث أن تسمى قيماً غربية. والتناسخات العربية للمثال الأصفى للامتياز والقوة المطلقة هي بمثابة تعميم للحالة الإسرائيلية، وإن تحت راية الرد عليها أحياناً.
نحن في المشرق وعموم المجال العربي جزء من الديناميات العالمية للاستثناء والأمن الدائم والنكول عن حداثة مساواتية، وهي مهتمة بنا كل الاهتمام ولا تنتظر أن نهتم نحن بها. إسرائيل ليست شأناً فلسطينياً فقط، ولا من وجه آخر شأناً غربياً فقط. إنها شأننا في سورية ولبنان ومصر والعراق والخليج، طائراتها وقنابلها وصواريخها تقول ذلك بأعلى صوت ممكن. وهي لا تترك فرصة للراغبين في النوم، حاضنين سوريتهم أولاً أو لبنانيتهم أولاً أو من يشبههم، أن يهنؤوا بنومهم. محور الممانعة الكاذب هو حجاب على وجه هذه الحقيقة وليس تجلياً لها. ليس دفاعاً عن فلسطين ولبنان وسورية، عن شعب فلسطين ولبنان وسورية، وعن إنسانيتنا المشتركة، عمل هذا المحور، بل من أجل السلطة والامتياز واحتكار السلاح والإفلات من العقاب وعدم الانضباط بأي قانون، أي من أجل كل ما هو إسرائيلي. التأله السياسي الذي هو التماثل البنيوي بين إسرائيل والمحور الممانع يحكم بالتهافت على نهج هذا المحور. ولذلك فإن التحرر هو التحرر منهما معاً، وإن طال الطريق.