من أجل ثقافة جماهيلرية بديلة-غورباتشوف والغورباتشوفية -عن منتديات يساري - 6
عبدالرحيم قروي
2024 / 11 / 21 - 16:52
الحلقة السادسة
لايمكن الدفاع عن ديمقراطية الاشتراكية دون الدفاع عن ديكتاتورية البرولتياريا
يقول غورباتشوف: إنه ثمة قضيتين بمثابة المفتاح لتطور المجتمع، وتعينان تطور البروليتاريا، ثم يستمر قائلاً:
(( ... هما ديمقراطية الحياة الاجتماعية بأسرها، وإصلاح اقتصادي وجذري. إن البرويسترايكا المستمرة في ما بدأته ثورة أكتوبر أبرزت مهمة تعميق وتطوير ديمقراطية الاشتراكية أكثر )) (غورباتشوف - طريقنا طريق أكتوبر - طريق الطليعة - ص32)
ومن أجل تحقيق ديمقرطية الاشتراكية يبرز غورباتشوف إلى المقدمة تكامل مهمتين.. الأولى:
(( خلق الآلية المرنة، والموثوقة التي تؤمن انضماماً حقيقياً لكل الجماهير في القرارات الإدارية والاجتماعية. ومهمتنا الثانية: تعليم الشعوب العيش في الظروف المعتمدة على الديمقراطية عملياً، ونشر حقوق الإنسان وتقويتها، وتقوية الثقافة السياسية الموجودة لدى الجماهير اليوم، أو بمعنى آخر تعلّم الديمقراطية )) ( المصدر السابق نفسه - ص32)
يستمر غورباتشوف، و كلما تكلم تظهر رؤاه أكثر. وفي النهاية تخرج الجوهرة من فمه:
(( مهمتنا (...) كإدارة شعبية، تطوير إدارة ذاتية يديرها الشعب من أجل مصالح الشعب )) ( المصدر السابق - ص33)
في هذه الحالة يتموضع مقترح غورباتشوف في محرق أساسي هو الإدارة الذاتية، ونستطيع تقيمها عنصراً أساسياً لمفهوم ديمقراطية الاشتراكية.
لو أذنا مصطلح الإدارة الذاتية بمعنى إدارة الكادحين للإنتاج فهذا ما عرفه ماركس: ((وحدة المنتجين الأحرار المتساوين))، ويمكننا القول إن هذا يناسب المجتمع اللاطبقي. يقول ماركس في رأس المال ( مركزية أدوات الانتاج على المستوى الوطني ستكون أساساً من أجل مجتمع هو عبارة عن وحدة المنتجين الأحرار المتساوين، المتحركين وفق برنامج عام ومنتظم وواع)). وحدة المنتجين الأحرار المتساوين، وقابلية عمل الكادحين في المجتمع بانتظام وتخطيط ووعي يعني وصول المجتمع إلى مرحلة لم يعد فيها بحاجة إلى الإدارة نتيجة مخزونه من الوعي الذي وصل إليه على الصعيد الاجتماعي . وفي هذا الإطار نستطيع أن نطلق تسمية الإدارة الذاتية على ماعرّفه ماركس (وحدة المنتجين الأحرار المتساوين)) وكما يُرى، فإن الإدارة الذاتية في الأدبيات الماركسية تعريف ينطبق على المجتمع اللاطبقي. إذا انتقل المجتمع الاشتراكي إلى الشيوعية، وخلقت علاقات اجتماعية لاتُشعر بالحاجة إلى الإدارة، فتكون القضية الأساسية في مجتمع كهذا هي إدارة الإنتاج. والإدارة في ظروف المجتمع اللاطبقي تعني المؤسسة التي توجه الإنتاج.
حَرَّفَ الإصلاحيون الرجعيون معنى الإدارة الذاتية عما وردت في الأدبيات الماركسية اللينينية، واقترحت ((دولة الشعب)) مرتبطة بالأطروحة الإصلاحية في ظروف الاشتراكية قبل مرحلة الانتقال إلى المجتمع اللاطبقي.
طرحت فكرة دولة الشعب في سبعينيات القرن التاسع عشر لأول مرة على شكل ( دولة الشعب الحر )) في برنامج الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان. لم يكن يفهم الاشتراكيون الديمقراطيون الألمان مصطلح ((دولة الشعب الحر)) الذي وضعوه في برنامجهم، وجاء هذا نتيجة عدم معرفة مفهوم للدولة سوى مفهوم ديمقراطية البرجوازية المتطورة. انطلاقاً من الانتقادات التي وجهها أنجلز للاشتراكيين الديمقراطيين الألمان، يقول لينين عن دولة الشعب الحر مايلي:
(( ... كل دولة (قوة قمع خاصة) موجهة ضد الشعب المسحوق. في هذه الحالة ليس ثمة دولة حرة، وليس ثمة دولة من أجل الشعب. وهذا ما قاله ماركس وأنجلز عام 187. لأصدقاء في الحزب بشكل متكرر)) (لينين - الدولة والثورة - ص25)
أما مفهوم (( دولة الشعب )) كما طرحها لأول مرة خريتشوف، على الرغم من حملها لتحريف مشابه، لكنه مختلف من ناحية المضمون عن مفهوم ((دولة الشعب الحر)). طرح ((دولة الشعب)) الخريتشوفي اقترح في ظروف وضع أسس البناء الاشتراكي، واستمرارية التنظيم الاشتراكي. الأمر الذي لم يشرحه خريتشوف، أو لم يرد رؤيته هو إذا كانت الآلية المقترحة دولة فكيف ستكون هذه الدولة لكل الشعب؟ وإذا كانت هذه الدولة خرجت من كونها أداة قمع فلماذا تسمى دولة؟ لايمكن أن تكون الدولة لكل الشعب، لأن العامل الذي يعطي الدولة خصوصيتها هو كونها أداة قمع على بقية الطبقات. وانطلاقاً من هذه الحقيقة فإما أن تكون الدولة ليست لكل الشعب، أو أنه لم يبق في المجتمع أو العالم طبقة مضطهدة، وفي هذه الحالة يلغى وجود الدولة.
بعد طرح هذه العموميات هنالك فائدة من استعراض الحقائق المادية المعاشة. بدأت الطاقة المصروفة بشكل غير عادي لتحرير الاتحاد السوفيتي مجدداً إثر حرب الاقتسام الثانية في عهد ستالين تعطي ثمارها اعتباراً من عام 195.، فقد قطعت مسافات طويلة على طريق بناء الاشتراكية، وتحققت انتصارات لايستهان بها في مرحلة خلق الإنسان الاشتراكي. وحتى لو كانت الطبقة المستغلة قد صفيت بشكل نهائي تقريباً، لم تخلق ظروف نشأة المجتمع اللاطبقي.وحتى لو كانت قد أزيلت نسبة كبيرة من التناقضات بين الجهد العضلي والجهد الفكري، وبين المدينة والقرية، وبين الملكية العامة وملكية المجموعة لكنها مستمرة بوجودها، ومازال قانون القيمة محافظاً على صلاحيته على الرغم من استخدامه لصالح الاشتراكية. ولم يعد يضر الاستهلاك الموروث عن الرأسمالية بالمجتمع الاشتراكي، حتى إنه على العكس يستمر متحملاً كونه دافعاً لحيوية الإنتاج النافعة في المجتمع الطبقي، وتعاون الإنسان الاشتراكي يرسم تطوراً سريعاً لصالح الإنسان الاشتراكي لكنه لم يصل إلى هدفه بعد. والأهم من هذا، فإن وجود الاشتراكية في مواجهة العدوانية الإمبريالية يفرض ضرورة المحافظة على الجيش لدرء الهجمات الخارجية. في النتيجة ثمة فائدة من نقل قول ستالين عن أهمية المحافظة على الدولة، أو بمعنى آخر ديكتاتورية البروليتاريا في ظروف كهذه:
((إن المهمة الجوهرية لدولتنا الآن هي تنظيم اقتصاد سلمي، والقيام بعمل ثقافي وتربوي. أصبح الرأس الحاد لجيشنا، وآلياتنا الجزائية، ومنظمتنا الاستخبارية غير موجه إلى الداخل، بل إلى الخارج، أي إلى الأعداء الخارجيين)) (ستالين - قضايا اللينينية - ص731)
نعم من أجل تنظيم اقتصاد سلمي في البلد، أي العبور من ملكية المجموعة إلى الملكية الاجتماعية بكل معنى الكلمة، ومع إزالة الإنتاج المادي تخلق ظروف إزالة كافة أشكال قانون القيمة، وتحويل التبادل المادي إلى تبادل بضائعي، وتصفية الملكية الصغيرة التي أصبحت مرتبطة بالاقتصاد الاشتراكي وليس لها أية خصوصية استغلالية .. إلخ. ومن جهة أخرى للقيام بعمل ثقافي وتربوي، أي من أجل إزالة البقايا الأيديولوجية الرأسمالية، والوقوف في وجه القصف الأيديولوجي الإمبريالي، وتعويض النقص الثقافي التربوي للإنسان الاشتراكي بمواجهة الهجمات الإمبريالية، وتنظيم اقتصاد سلمي، وعمل ثقافي وتربوي ستؤمن تطوراً نحو الهدف النهائي. في هذه المرحلة توسع سلطة البروليتاريا الحدود الديمقراطية، وتكاد توصلها إلى كافة أفراد الشعب تقريباً. ولكن في هذه المرحلة أيضاً، فإن العودة عن ديكتاتورية البروليتاريا التي تؤمن حماية الملكية الاشتراكية من لصوص القطاع العام، وتقمع الجواسيس الذين تدسهم الإمبريالية إلى البلد وعملائهم، أو رفض الأداة المركزية ( حتى لو ضاقت حدودها ) يعني إضعاف الاشتراكية في مواجهة البورجوازية والإمبريالية. في هذه الحالة يجب حماية الدولة ليس على شكل ((دولة الشعب)) أي الدولة التي نظمت رفض الصراع الطبقي، بل حمايتها على شكل ديكتاتورية البروليتاريا. مما لاشك فيه أنه كلما تطورت الاشتراكية من موقع إلى موقع، ستفقد فاعليتها تنظيمات مؤسسة ديكتاتورية البروليتاريا. ومع التطور والغنى ستولد ضرورة التصحيح وإعادة بناء السلطة البروليتارية حسب الظروف المستجدة. وكما ينطلي على الطبقات، فالبروليتاريا أيضاً تزيل نفسها بالنسبة التي تصل فيها إلى المجتمع اللاطبقي، وتذوب الدولة. ولكن هذا الأمر لايرتبط بالنية الشخصية لأي كان. وكما لايهمل المجتمع بعض المؤسسات التي أصبحت في حالة غير ضرورية، لايمكن إزالة المؤسسات الضرورية من زاوية مصالح البروليتاريا لأن فاعليتها انتهت. في الحالة الأولى تتولد البيروقراطية، وتغترب الجماهير عن سلطتها. وفي الثانية يهمل الصراع الطبقي وتبرز صعوبات كبيرة في تقوية سلطتها. وفي كلا الانحرافين ضرر للاشتراكية بقدر إيصال البورجوازية إلى النصر، وتسبب شروخ كبيرة في جبهة الاشتراكية.
إن مقترح خريتشوف ((دولة الشعب)) وفكرة غورباتشوف (الإدارة الذاتية)) المطورة عن الأولى تقابل الانحراف اليميني الذي ينكر النضال الطبقي.
الانحراف اليميني يرفض الصراع الطبقي في الاشتراكية، وهذا الرفض ليس بسبب زوال الطبقات، بل بني على فكرة اعتماد التعاون بدلاً من التضاد.
ليس هنالك ضرورة كون المرء كاهناً ليدرك أن الهدف الأساسي لرفض النضال الطبقي في الاشتراكية، واقتراح التصالح هو انحلال الشكل الأكثر حدة للنضال الطبقي ألا وهو ديكتاتورية البروليتاريا، وتفسخها وإبطال فاعليتها تدريجياً.
لقد برهنا أن مفهوم ((دولة الشعب)) الخريتشوفي يوافق الخط المناهض للماركسية اللينينية المهمل للصراع الطبقي. والآن لنعمل على تحليل الإدارة الذاتية الغورباتشوفية باختصار.
لقد رسخ غورباتشوف في محرق أفكاره ورؤاه رفضه لديكتاتورية البروليتاريا في معرض نقده لستالين وبالتالي سياسته التي شوهت اللينينية على الرغم من ادعائه أنه يعتبرها مصدر إلهام، وانتقل إلى نقد خريتشوف الذي لم يضعف ديكتاتورية البروليتاريا بما فيه الكفاية. بعد أن يرصف مجموعة مدائح لخريتشوف يقول:
(( ولكن السبب الرئيسي لعدم نجاح الإصلاحات في تلك الفترة هو عدم دعمها بحركة ديمقراطية واسعة )) (غورباتشوف - طريقنا طريق أكتوبر، طريق الطليعة - ص27)
وكما يُرى فإن غورباتشوف يريد تطبيق الاشتراكية من وراء كلمات ((مرحلة ديمقراطية)) مزركشة. لأن الماركسيين اللينينين ومنذ سنوات طويلة يفندون المقصود من إصلاحات خريتشوف. ولم تعد هذه الحقيقة سراً على أحد اليوم.
ما يفهمه غورباتشوف من الديمقراطية كما بينا أعلاه هو تأسيس الإدارة الذاتية، وهذه الإدارة تصلح للمجتمع الطبقي، إذ يكون قد خرج توجيه الإنسان من ضرورته، وهي تنظيمات تدير الإنتاج. عندما يقترح غورباتشوف الإدارة الذاتية هل يريد القول إنه لم يبق طبقات في الاتحاد السوفيتي وتم الإنتقال إلى الشيوعية؟ في عهدي لينين وستالين صُرف جهد كبير لتأسيس الاشتراكية وتطويرها، وأثر مجيء الإصلاحية الغورباتشوفية إلى قيادة الحزب بدأ الحزب بفقدان الآلية الجميلة القديمة حتى سنة 1956. وهذا يعني إضعاف ديكتاتورية البروليتاريا، وتناثر تنظيم الإشتراكية وإن لم يكن تماماً. بين عامي 1956-1986، أي خلال ثلاثين عاماً عمل الكثير من الأشياء التي كان يجب أن لا تعمل باسم الاشتراكية. كلما قويت الإصلاحات ، تسرعت عودة للاشتراكية إلى الوراء، وتأسست قواعد الإصلاحات الرأسمالية. أول عهد ستالين ذُوِّب وفُسِخَ مخزون أربعين عاماً من الاشتراكية. وبدأت العلاقات الاجتماعية بالانحلال، وغورباتشوف يرى هذه الحقائق ويحكي ويكتب عنها:
((وبهدف المصلحية طرق باب اللعب على أرقام الحسابات ، وكتابة أرقام أكبر مما هي عليه (...) وكبر عدد الذين يعدون الرفاه المادي والغنى الهدف الوحيد من الحياة ، وهذا كان بين الشباب بشكل خاص . (...) وكان لتشجيع عدم احترام القوانين والمخاتلة والرشوة والمراءاة تأثير هدام على الجو المعنوي في المجتمع )) ( غور باتشوف - التجديد وسياسة الكوادر - ص 17 )
غورباتشوف أيضاً يرى السلبيات المعاشة في الاتحاد السوفيتي ، ولكنه لايشير إلى مصدرها ولاينتج سياسة مناسبة لإزالتها ، ولا يلتقط الخطوط المؤدية إلى هذا . إذا إعتبرنا السلبيات حدث لامفر منه في الاشتراكية ، ولم تترك السياسة الإصلاحية المطبقة في الماضي ، ولم يتبن النهج الماركسي اللينيني فليس ثمة مخرج أخر . يقيّم ألكسندر ياكوفليف أحد المدافعين عن نهج غورباتشوف سكرتير وعضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي (ترك عضوية المكتب السياسي في الموتمر الثامن والعشرين للحزب الشيوعي السوفيتي) السلبيات المعاشة على أنها سلبيات حتمية للاشتراكية ، مبرئاً الإصلاحية ، فيقول:
(( إن الرأي الساذج والمتطرف بأن الاشتراكية نظام أكثر تقدماً ، وأنه الوحيد صاحب إمكانية التقدم إلى الأمام فقط يتلاشى تدريجياً بشكل طبيعي . واليوم مع المعطيات الحالية من الواضح أن الاشتراكية تتعثر وتتراجع )) ((ياكوفلوف - نظرة إلى العالم -ج12-ص6 )) .
لأن غورباتشوف يرى السلبيات المعاشة أحداث لامفر منها في مرحلة التنظيم الاشتراكي فمهما أظهرها لايقدم على نقد المسبب لها، ونقد السياسة الإصلاحية التي حضرت قاعدتها . لأنه بالنسبة لغورباتشوف فإن التفسخ والانحلال الملاحظ في المجتمع ليس من نتائج السياسة الإصلاحية بل هو من ضرورات الاشتراكية الطبيعية .
نعتقد أن التذكير ينفع الذين سقطوا مغلوبين منذ البداية لأنهم غير مؤمنين بالاشتراكية أمثال غورباتشوف . بناء الاشتراكية وتطويرها يتطلب منذ البداية مرحلة إرادية بقيادة الحزب . إن انتصار الانحرافات المناهضة للماركسية اللينينية التي تظهر خلال مرحلة التنظيم الاشتراكي تضعف دور الإنتاج، وقوة التدخل والتحويل للحزب الذي يقوم بدور رأس القطار للمجتمع الذي يحمله إلى الأمام . وهذا يقدم الوسط المناسب مباشرة للعناصر البورجوازية التي على شكل فتات، وتتحين الفرصة لتقوى وتبذل جهداً في هذا السبيل .وهذا الوسط، لن تجد البورجوازية الإمبريالية له مثيلاً مهما حاولت. مع أنه لولا الانحرافات عن النهج الماركسي اللينيني في مرحلة التنظيم الاشتراكي فلن تجد فتات البورجوازية وعملاء الإمبريالية وسطاً مناسباً كهذا لتتطور وتهاجم الاشتراكية. ويجب ألا نستنتج من قولنا هذا أن الاشتراكية خالية من الأخطاء. ولكن إذا أنتج الحزب الماركسي اللينيني سياسة تتعارض مع المرحلة ويمتلك آلية التصحيح فسيتجاوزها خلال فترة قصيرة. وباختصار لأن مرحلة تنظيم الاشتراكية في البداية ترتبط بنسبة كبيرة بسياسة الحزب فهي إرادية وليست تلقائية. لهذا السبب فالمسؤول الأول عن المشاكل التي تظهر هو الحزب بشكل غير مباشر. وهنا لأن نهج غورباتشوف ربط مسؤولية المشاكل البارزة بطبيعة الاشتراكية، يكون قد عمل على تبرئة سياسته من سلبيات يفترض وقوعها .
إن اقتراح الإدارة الذاتية في مفصل تاريخي تعيش فيه العلاقات الاجتماعية مواجهة للتفسخ يتجلى بتشجيع ((الخداع، والرشوة، والمراءاة، والزئبقية، واعتبار الرفاه المادي والغنى الهدف الأساسي للحياة )) وهو يعني الدفاع عن هذه السلبيات. مع غياب الحافزية إذا دوفع عن الإدارة الذاتية باسم الديمقراطية حسب تعبير غورباتشوف سيكون قدر الاشتراكية متروكاً لعدالة المرتشين والعاملين على الغنى الفردي، والمرائين، والمخاتلين. وهل لأمثال هؤلاء عدالة ؟من يعرف أن لأمثال هؤلاء عدالة أكثر من أبناء دولة عاشوا كافة قذارات المرحلة العنصرية ورفضوها، وفجروا عام 1917 ثورة أكتوبر العظيمة؟ هل يمكن أن تكون عدالة هؤلاء سوى ترميم الرأسمالية، والهجوم على قيم الاشتراكية، ونشر الانحلال في أرجاء البلد ؟ في هذا الوضع يقف غورباتشوف إلى جانب اللاحافزية والإصلاحات الرأسمالية على الرغم من إظهاره لها أنها ضد المصلحة بدفاعه عن ((الإدارة الذاتية)) ورفضه لديكتاتورية البورليتاريا.
لن نقترح الجلوس، والانتظار لرؤية النتائج إزاء الاعتراضات البارزة. لأنه لا حاجة لهذا. سنذكر فقط أن ((الإدارة الذاتية)) ليست اكتشافاً خارقاً (!) لغورباتشوف، و سنقدم يوغسلافيا مثالا فاشلاً لتطبيق هذا النموذج. من أجل فهم الموضوع بشكل أفضل ثمة ضرورة للتوقف عند تجربة ((الإدارة الذاتية)) في يوغسلافيا .
إثر النصر الذي حققه الحزب الشيوعي اليوغسلافي في حرب الاقتسام الثانية كسب احترام الشعب و وصل إلى السلطة بحصوله على 96% من أصوات المنتخبين في 27/11/1945. وفي 29/11/1945 أزال المونارشيه، وأسس جمهورية يوغسلافيا الشعبية الفدرالية. هذه الجمهورية الجديدة بقيادة تيتو والحزب الشيوعي اتبعت نهجاً يمينياً خاصة في التعاون الزراعي على الرغم من تطبيقها سياسة قريبة من الاتحاد السوفيتي في البداية. وانتقد الحزب الشيوعي السوفيتي هذا الإهمال. وازدادت الانتقادات مع تعميق الانحراف الذي سقط فيه الحزب الشيوعي اليوغسلافي. وأخيراً، أي في 28 حزيران 1948 طرد الحزب الشيوعي اليوغسلافي من الكومينفورم. بعد الطرد دخل هذا الحزب حالة انتظار انقلاب ينظمه الاتحاد السوفيتي، والدول الاشتراكية الأوربية في بلده فبدأ حملة اعتقالات طالت مؤيدي الكومينفورم والحزب الشيوعي السوفيتي. وهكذا توترت العلاقات أكثر، ودخلت يوغسلافيا مرحلة العزلة عن العالم الاشتراكي. وإثر انقطاع تيتو والحزب الشيوعي اليوغسلافي عن النظام الاشتراكي، نشر الكومينفورم دعوة لقلب نظام تيتو، وتخبط تيتو والحزب الشيوعي اليوغسلافي في فترة بعد الانقطاع النهائي عن النظام الاشتراكي بفتح أبوابه تماماً للإمبريالية ووصلت العلاقات إلى نقطة هامة بواسطة ((القروض)) و ((المساعدات)) من الولايات المتحدة الأمريكية، ومداخلات (ترومان). من الطبيعي أن ((المساعدات)) و ((القروض)) لا تكون بدون مقابل. فقد طورت الإمبريالية استثمارات مناسبة لمصالحها. وهكذا بدأت يوغسلافيا نهجاً إيديولوجياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً تحت تأثير إمبريالي.
ها هي ((الإدارة الذاتية)) المطبقة في يوغسلافيا ليست مستقلة عن هذا التطور، بل على العكس هي تجربة فرضتها العلاقات القائمة. في المرحلة الأولى كان نظام تيتو صاحب خصوصية دفاعية في أثناء انتظار الكومينفورم ليسقطه، وفي المرحلة المتقدمة دخل النظام شخصية اقتصادية يمينية. وسيدرك جيداً أن فتح الأبواب للإمبريالية ليس نتيجة مباشرة للطرد من الكومينفورم، على العكس، إن الطرد من الكومينفورم، وفتح الأبواب للإمبريالية هو المفهوم الاقتصادي اليميني الذي وصل إليه تدريجياً النهج السياسي الليبرالي البورجوازي للحزب الشيوعي. لهذا تقييم ((الإدارة الذاتية)) مهما كان مظهرها نتيجة مباشرة للنهج السياسي الليبرالي. والتقييم العكسي لايخلصنا من الوصول إلى نهج مثالي ينكر أن التناقض في ذروة المادة يعطيها حيويتها.
إن الخطوات المترددة في التعاون، والانقطاع عن النظام الاشتراكي، والاعتراف بالحقوق الواسعة للملكية الخاصة نتيجة الانفتاح على الغرب هي من خصوصية النهج السياسي المتبع. يحكم الإنتاج في الساحات الريفية الإملاكيات الصغيرة والمتوسطة. العامل الأساسي المحدد للإنتاج على صعيد البلد ككل ليس التخطيط المركزي، بل ((شروط السوق)). ونتيجة للعلاقات التي أقيمت مع الإمبريالية الأمريكية وصندوق النقد الدولي حصلت الاحتكارات العالمية على 49.99% من مؤسساتها وضمنت حقها فيها. ولأن الإدارة الذاتية تستند إلى ملكية المجموعة غالباً، فهي تمتلك إمكانية التنافس فيما بينها والوصول إلى الاحتكار في النهاية. والقوانين أصلاً تضمن حق الملكية الفردية ومواقع العمل. ومهما كانت الإدارات الذاتية تعرف أنها ((تنظيمات العمل المتحدة والحرة)) هنالك في الإدارات الذاتية العمال الأرستقراطيين والتكنوراطيين أصحاب حق بالكلام أكثر من غيرهم لعدم تدخل هذه الإدارات بنشر الثقافة الاشتراكية وخلق الإنسان الاشتراكي. جلبت الجوانب الاحتكارية الظاهرة إلى الإدارة بشكل لامناص منه موقعية المدير / الإداري الذي يُرى في المؤسسات الرأسمالية.
إذا كان ثمة ضرورة للملمة الموضوع واختصاره، فإن الإدارة الذاتية في يوغسلافيا ليست خطوات نحو المجتمع اللاطبقي كما ادعي، بل تنتج الرأسمالية. وهذا لاينبع من نهج سياسة خاطئة في الإدارة الذاتية، بل على العكس، قبيل تكوين مخزون علاقات الإنتاج الاشتراكية، ولما زال تأثير مواقع العمل الصغيرة والمتوسطة في البلد بالغ حده الأقصى، وانتشار ((قوة التعدد)) المتبقية من الاشتراكية في المجتمع، وامتلاكها شخصيتها، فإن تطبيق المركزية العدمية، وإهمال جانب الدولة وأهمية الدور السياسي ينتج سيطرة الديمقراطية البورجوازية على المرحلة، وهذا ليس سوى تكرار للفظة ((الإدارة الذاتية)) والوقوع في سحرها. أو بمعنى آخر: إن الدفاع عن الإدارة الذاتية في الظروف المبينة أعلاه يعني دعوة الرأسمالية. ويوغسلافيا أصدرت هذه الدعوة منذ زمن طويل.
إن الأمثلة المعاشة واضحة وشاخصة بحيث لاتترك شبهة عند أحد. إن الدفاع عن ((الإدارة الذاتية)) في ظروف الاشتراكية المحافظة على استمرار الطبقات فيها مهما كانت الضرورات التي يستند إليها يناسب مفهوم مناهضة الاشتراكية، لأنه سينتهي إلى الرأسمالية. لايستطيع أي مسافر على طريق الرأسمالية مقنع بالاشتراكية حتى لو كان غورباتشوف تشويه هذه الحقيقة أو تغييرها.
ليس صحيحاً استنتاج أن غورباتشوف المدافع عن الإدارة الذاتية اختار النموذج اليوغسلافي مثلاً. لأن الظروف المعاشة في يوغسلافيا مختلفة عنها في الاتحاد السوفيتي. وغورباتشوف أيضاً يعي هذه الحقيقة. المهم، انطلاقاً من التجارب المادية المعاشة، فإن الدفاع عن الإدارة الذاتية لايمنعنا من قول إن الاتحاد السوفيتي اختار الرأسمالية. لأن غورباتشوف مثل كل المدافعين عن الإدارة الذاتية يريد تحضير قاعدة لنشر ((التعددية السياسية))، و ((الملكية الخاصة)) وهذا ليس أكثر من ليبرالية بورجوازية، وتوجه نحو الاشتراكية الديمقراطية.
من جهة أخرى هجوم غورباتشوف على ديكتاتورية البروليتاريا بصيحاته الديمقراطية، وعدّه للإدارة الذاتية كالاشتراكية الديمقراطية تشير تماماً إلى وجود العنصر الذاتي. وكما أسلفنا فإن الإدارة الذاتية هي الوحدات التي تدير الإنتاج في المجتمع اللاطبقي. ولعدم وجود طبقات في هذا المجتمع فليس هنالك طبقة مقوقعة ووجود الدولة يعني عدم وجود الديمقراطية. أي لاتوجد الإدارة الذاتية مع ديمقراطية الاشتراكية في آن واحد. كما أن الدفاع عن ديمقراطية الاشتراكية لايعني رفض ديكتاتورية البروليتاريا، بل على العكس، وجود الديمقراطية والديكتاتورية معاً ضرورة. وكما في كافة المجتمعات الطبقية، في المجتمع الاشتراكي أيضاً لاتتغيّر هذه الحقيقة مهما كانت النيات الشخصية. والأكثر من هذا، لو فكرنا بأن إزالة القوى المناهضة للاشتراكية في مرحلة التنظيم الاشتراكي يمر عبر الأساليب السلمية أو العنف تبرز ديكتاورية البروليتاريا. أما توسع حدود ديمقراطية الاشتراكية فمرتبطة على مستوى تكامل الاشتراكية العلمية مع الجماهير. وتأمين هذا يمر من خوض غمار خلق الإنسان الاشتراكي على الصعيد التربوي والثقافي، وتأسيس العلاقات الاشتراكية وحمايتها، وتقويتها، وهكذا تدخل إلى الحياة حقيقة علاقات العيش التعاوني. باختصار إذا أهملت ديكتاتورية البروليتاريا فلا اشتراكية تنتظم، ولاديمقراطية اشتراكية. والنتيجة الواضحة المستنتجة من هنا: على الرغم من عباراته المزركشة فإن غورباتشوف المدافع عن الإدارة الذاتية لايريد تطوير الاشتراكية بمعناها الحقيقي، وإنما يذهب بالمنفاخ إلى الحريق الذي لف كافة الدول الاشتراكية بهذه النسبة أو تلك.
يكوّن مطلب غورباتشوف بالإدارة الذاتية جانباً واحداً من جوانب المفهوم الذي يدافع عنه باسم ((الاشتراكية الديمقراطية))، واتضح هذا المفهوم أكثر في النقطة التي تم الوصول إليها.
لايريد غورباتشوف تحقيق الإدارة الذاتية فقط في الاتحاد السوفيتي حيث يُعاش وبشكل واسع الانحلال والتفسخ، ومن جهة أخرى تكشف الخطوات العملية التي خطاها باسم الديمقراطية هويته الاشتراكية الديمقراطية.
أظهرت قرارت القاعدة قبيل المؤتمر الثامن والعشرين للحزب الشيوعي السوفيتي، والتي عكستها الصحافة البورجوازية تحت اسم ((ثورة 7 شباط)) بشكل واضح لايقبل الجدل أن غورباتشوف لايدافع عن ((ديمقراطية الاشتراكية)) بل يدافع عن الاشتراكية الديمقراطية، وديمقراطية البورجوازية.
ما ((الحملة التاريخية)) التي حققها غورباتشوف بتاريخ 7 شباط 1990.؟ نعتقد أن ثمة فائدة في التوقف عند هذا الأمر.
بينّا أن سياسة الغلاسنوست في حقيقتها تخدم تقوية التيارات البورجوازية، بينما تهدف البروريسترايكا إلى ترسيخ هذه التيارات. وبعد وصول الخطوات المقطوعة على هذا النهج إلى تكوين معين قدم غورباتشوف إلى بلونوم الهيئة المركزية قبيل المؤتمر الثامن والعشرين للحزب الشوعي السوفيتي افتراحاً على درجة من الأهمية بحيث سيحدد مصير الاتحاد السوفيتي خاصة بجوانبه هذه:
الأول: إلغاء المادة السادسة من دستور الاتحاد السوفيتي، والتي تضمن حق الدور الطليعي للحزب في المجتمع. الثاني: الاعتراف بحرية تأسيس أحزاب للتيارات السياسية المختلفة، والعبور إلى حياة التعددية الحزبية. والجانب الذي يكمل كلا المقترحين: أخذ شكل الديمقراطية البورجوازية. وإثر المناقشات في اجتماع الهيئة المركزية قبلت بالإجماع إذا ما استبعدنا صوت بوريس يالتسن الرافض، مطالباً بليبرالية أكثر .
يُبرز هذا التطور حقيقتين أساسيتين. إحداهما تعكس الاعتراف بحق التيارات السياسية البورجوازية بتأسيس أحزاب، وبالتنظيم والوصول إلى الحكم بالانتخابات، وهذا يبين تفسخ الحزب الشيوعي السوفيتي لعدم وجود قوة تتبنى الاشتراكية فيه، وإن حزباً شيوعياً يسمح بالليبرالية البورجوازية في المجتمع ويؤسسها لن يستطيع تحقيق دوره الطليعي في تنظيم الاشتراكية.
على الرغم من كافة الأقوال الديماغوجية فقد ثبت أن قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي لم تدافع عن ديمقراطية الاشتراكية.
يقول سوباتوسلوف فيدوروف عضو الهيئة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي: ((المادة السادسة ستلغى، ويتأسس نظام التعددية البورجوازية الحزبية، وتعمل الديمقراطية العادية)) (الجمهورية - 8/2/1990.) ويعني ((بالديمقراطية العادية)) الديمقراطية البورجوازية ولاشيء آخر، لأن ديمقراطية الاشتراكية لايمكن أن تكون رفاس قفز لكل التيارات، وبالتالي لانتشار الأيديولوجية البورجوازية. تكسب ديمقراطية الاشتراكية معناها من خلال زيادة التكوين الأيديولوجي للبروليتاريا، والاعتراف بالحريات لها، وتوسيع حدود هذه الحريات بالمستوى الثقافي المرتفع الذي تكسبهم إياه، وتطوير مواهبهم الإدارية. كل حريات ديمقراطية الاشتراكية من أجل الكادحين. أما الاشتراكية الديمقراطية الغورباتشوفية فتعني مثالية مجردة، ومعنى لاأصل له، وتسميتها ((ديمقراطية اشتراكية)) تضحك حتى الغربان. هل يمكن أن يكون مفهوم الديمقراطية اشتراكياً لحزب شيوعي يعترف للتيارات البورجوازية بحق تأسيس الأحزاب والانتخاب؟ هل يمكن أن يكون مفهوم الحرية اشتراكياً لحزب شيوعي يصدر عفواً عن 2.. مناهض للثورة أمثال سخاروف المتكىء إلى الإمبريالية؟ هل يمكن أن يكون تناول العلاقات الاجتماعية اشتراكياً لحزب شيوعي ينتج الفردي باسم تطوير الغنى الداخلي الفردي في المجتمع؟
لهذا السبب فإن مفهوم الحرية والديمقراطية للنهج الغورباتشوفي الذي لايتفق مع الاشتراكية لا من بعيد ولا من قريب يرسل غورباتشوف إلى صفوف الديمقراطية البورجوازية، ويعلق في رقبته لوحة الاشتراكية الديمقراطية.
باختصار، إن((الديمقراطية الاشتراكية)) الغورباتشوفية مفهوم بورجوازي ومثالي يستنكر ديكتاتورية البروليتاريا، ويعمق الفردية والاحافزية والتفسخ، ويسمح بتطوير التيارات الأيديولوجية البورجوازية وتنظيمها وتأسيسها أحزاباً ووصولها إلى السلطة، ويؤيدها.
وكما بينّا أعلاه، يناسب هذا المفهوم تأسيس نظام سياسي اشتراكي ديمقراطي يشبه النموذج السويدي في الاتحاد السوفيتي. ليس لأي حزب ماركسي لينيني، وتحت أية ظروف((حجة مشروعة)) لتغذية البورجوازية التي أسقطها بثورة، و تقويتها. لكي يعترف بحق البورجوازية بالتنظيم و الوصول إلى السلطة مرة أخرى يجب أن يكون قد فقد الإيمان بالرؤية العلمية الماركسية بالوصول إلى هدف المجتمع اللاطبقي، و إزالة الرأسمالية .
في هذه النقطة تماماً يفصح النهج الاشتراكي الديمقراطي عن نفسه .
تنفصل الاشتراكية الديمقراطية عن الماركسية قبل كل شيء عند نقطة فقدان الإيمان بزوال الرأسمالية و العبور إلى المجتمع اللاطبقي. و في هذا الإطار يبالغ في قوة الرأسمالية تكتيكياً، و يرسخ عدم إمكانية هزمها استراتيجياً. و ستصل هذه الرؤية بشكل طبيعي إلى عيش الطبقة العاملة مع البورجوازية، و التصالح بينهما يكون -حسب رؤيتها-لصالح الطبقة العاملة. و هكذا لا تدخل الاشتراكية الديمقراطية في عملية هدم الرأسمالية غير الممكنة بالنسبة إليها من جهة، و تنتج سياسة تصفها الأنفع بالنسبة للطبقة العاملة، أي أنه نهج سياسي لا يتجاوز حدود النظام، و يتأطر في الإصلاحية .
عدم الإيمان بزوال الرأسمالية أدى إلى جعل الاشتراكيين الديمقراطيين يقدمون نظرية الصالح مع نقيضهم، وحسب هذا :
((مثلاً “خيار الديمقراطية” (الديمقراطية البورجوازية) ليس خياراً اضطرارياً، و لا “مرحلة انتقالية” أو “وسيطة”. اختارت الاشتراكية الديمقراطية هذا الخيار لأنها ترى مصلحة الطبقة الاجتماعية التي تمثلها في استمرار التعددية. و بالشكل نفسه، قبول الوجود الديمقراطي للطبقة الرأسمالية و حريتها و إستمراريتها، وعدم رفض اقتصاد السوق و الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج ليست تنازلات اضطرارية يتحملها الاشتراكيون الديمقراطيون. اختارت الاشتراكية الديمقراطية هذا لأنها تجد الإطار الذي ستوجد فيه الطبقة المناقضة لها بحرية هو الأفيد بالنسبة للحركة العمالية.)) (إسماعيل جم* -ما هي الاشتراكية الديمقراطية، و ما ليست هي -ص38-39) .
مايفهم من هذا أن تصالحية الاشتراكيين الديمقراطيين و اختيارهم للديمقراطية البورجوازية لاينعكس من موقف اضطراري، بل على العكس، هذا الترجيح يبين خياراً واعياً للأريستوقراطية ضمن الطبقة العاملة. عمل حكم الاشتراكيين في السويد على مدى أربعة و أربعين عاماً على التصالح بين الطبقة العاملة، و البورجوازية، و حماية أحجار الأساس للنظام. و كان الرفاه الاجتماعي سبباً لرفع مقاييس الحياة للطبقة العاملة، ولكن هذا بسبب حماية السلطة لآلية الاستغلال البورجوازية، فأخذت شكل هذه الآلية. لهذا السبب فالنظر عبر نافذة الرفاه النسبي الذي حصل عليه العمال داخل حدود النظام لا يعني إلا إهمال النضال المتوجب خوضه ضد الرأسمالية و تقوية نظامها، و هذه خدمة طوعية للبورجوازية .
من المعروف جيداً أن مفهوم الديمقراطية في آراء برنشتاين المؤثرة بعمق على كافة الاشتراكيين الديمقراطيين مجرد، و بعيد عن الرؤية الطبقية. يقول برنشتاين :
((.... الديمقراطية أداة و هدف في الوقت نفسه. هي أسلوب لتأسيس الاشتراكية من جهة و شكل لتحقيقها من جهة أخرى (...) الديمقراطية مدرسة للتصالح (...) الأداة الأفضل للاشتراكيين الديمقراطيين من أجل التحضير للمرحلة الديمقراطية أخذ مكان لهم في توزيع الأصوات العام نظرياً وعلمياً، وقبول كافة النتائج التي سيسجلها تكتيتياً.)) (فرضيات الاشتراكية-الناقل: اسماعيل جم.ص75). يصف برنشتاين الديمقراطية أنها مدرسة للتصالح من جهة، وأسلوب لتأسيس الاشتراكية من جهة أخرى. أو بمعنى آخر: يحقق الانتخاب العام التصالح من جهة، وتخدم تأسيس الاشتراكية وتحقيقها من جهة أخرى. وهذه النتائج مصدر إلهام كافة الاشتراكيين الديمقراطيين، وأمثال غورباتشوف أيضاً.
أولاً: بالنسبة إلى برنشتاين فالديمقراطية مدرسة تصالح. ويظهر هذا في النموذج السويدي، ويُعبر عنه بأنه حماية البورجوازية لمصلحة الطبقة العاملة. والذي فهمه غورباتشوف من((ديمقراطية الاشتراكية)) في الاتحاد السوفيتي هو منح البورجوازية إمكانية التنظيم. غذى غورباتشوف خصوم الطبقة العاملة، وصالحهم معها، ولا يخجل من خلق طبقة عمالية أريستوقراطية، وجعل هذه الطبقة تؤيد ((الديمقراطية البورجوازية)) على أنها الديمقراطية.
ثانياً: تتحدد الديمقراطية لدى برنشتاين عبر ((التصويت العام)) ومن هذا المنطق، يجب ضمان التنظيم البورجوازي ليكون الانتخاب العام سلطة مستمرة. رددت السلطة الاشتراكية الديمقراطية خلال أربعة وأربعين عاماً في السويد قول: ((سيتم الوصول إلى الهدف الاشتراكي عن طريق الديمقراطية)) ولم تحقق الطبقة العاملة سوى الكينونة مفصلاً للرأسمالية. لكن غورباتشوف يرى تحقيق الديمقراطية يتم بالدخول مع الطبقة المناقضة بسباق التصويت العام، وباسم الدفاع عن الاشتراكية يطور البورجوازية، وهكذا يتحقق النهج الأساسي الآخر للاشتراكية الديمقراطية.
ثالثاً: قبول النتائج العملية التي سيجلبها التصويت العام ضرورة من ضروريات الديمقراطية بالنسبة لبرنشتاين، وغورباتشوف أيضاً قَبِلَ كافة النتائج التي تتمخض عن إلغاء الدور الريادي للحزب، وإنهاء ديكتاتورية البروليتاريا، والاعتراف بإمكانية التنظيم للبورجوازية، وبدأ برؤية إمكانية وصول البورجوازية إلى السلطة باعتبارها ضرورة للديمقراطية التعددية، وهذا عرض أمام العيون خروجه على الاشتراكية وقبوله بالاشتراكية الديمقراطية.
من جهة أخرى في أثناء رَفْضِ ديكتاتورية البروليتاريا واتباعه نهجاً مناهضاً للماركسية اللينينية في نقد ستالين عَرَضَ غورباتشوف مفهوم ((الديمقراطية)) الذي يتبناه معترفاً بالحرية للبورجوازية التي بقيت في المعارضة، وطرح كينونتها مستمراً بالنهج الاشتراكي الديمقراطي الكاوتسكي. بالنسبة إلى كاوتسكي تعترف البروليتاريا بالحرية للبورجوازية ثم تتوجه لإزالتها، ومع الزمن تفتح التطبيقات الكيفية الطريق أمام هذا العمل. انطلاقاً من هذه الرؤى يقول كاوتسكي: ((كل أنواع المعارضة مهما كان منبع بناها وشخصياتها سترى يوماً خصوصيتها المعادية للديمقراطية، وتقمع بالعنف)) (المصدر السابق - ص9) وأكثر من هذا، يرى كاوتسكي عدم توقف العنف بسحق المناهضين، وستتوجه السلطة إلى ذاتها لتولد المتناقضات، وتعمل على سحقها، وهكذا تخلق ((مرحلة جهنمية)). إنطلاقاً من هذه النقطة يصل كاوتسكي إلى إهمال ديكتاتورية البروليتاريا الشكل الأوحد للنضال الطبقي، كما يصل إلى مفهوم ((ديمقراطية)) مجردة تغذي البورجوازية وتطويرها.
من الملفت للنظر تشابه انتقادات غورباتشوف لمرحلة تطبيق ديكتاتورية البروليتاريا في الاتحاد السوفيتي مع آراء كاوتسكي. وكذلك النتائج التي توصل إليها تتطابق تماماً مع النتائج التي كان قد توصل إليها كاوتسكي.
وهكذا فنهج غورباتشوف على الصعيد السياسي ينبع من توقه لنظام يشبه النموذج السويدي، وخطواته المناسبة للاشتراكية الديمقراطية في هذا الاتجاه هي دفاعه عن ديمقراطية ذات شخصية بورجوازية، وحرية التنظيم البورجوازي، و((التسابق مع الضد)) بأسلوب التصويت العام، وإهمال العنف ضد الطبقة الضد، وديكتاتورية البروليتاريا. هذه الحقائق تبين أن غورباتشوف سياسياً يقود الخط الاشتراكي الديمقراطي، والتوق إليه، ويكون رؤوس الخيوط لنظام سياسي يشبه النموذج السويدي.
مما لاشك فيه أن القضية لاتنتهي هنا. فسياسة غورباتشوف الاقتصادية وخياراته الفكرية وحدة متكاملة تتمم النهج الاشتراكي الديمقراطي.
* أحد قادة حزب الشعب الجمهوري في تركيا سابقاً، و حزب اليسار الديمقراطي حالياً .
يتبع