اسمي نجيب سرور -1-


محمد فرحات
2024 / 11 / 20 - 02:39     

اسمي نجيب سرور
رواية مقترحة.
(1)
كيف أبدأ الحكاية، ومن أين أبدأ بالتحديد؟ فبمجرد أن أذكر اسمي سوف تتداعى على ذهن من يقرأ تلك الصفحات، قصص كثيره سمعها، وأهوالًا وحوادث وشخصيات وأعمالًا مسرحية وشعرية، وافتراءات ومبالغات، وحكايات منها الصحيح ومنها ما جانبه الكثير من الصحة.
حسنٌ سوف أبدأ من الاسم، فاسمي نجيب سرور، وقبل يوم 1 يونيو 1932 الذي هو يوم مولدي، بتسعة أشهر، حذر الطبيب أمي من تكرار الولادة، بعدما عاينت الموت مرارًا في الولادة السابقة، لم يكن يعلم الطبيب وقتها أني بالفعل بدأت أن أتخلق في رحمها منذ خمسة عشر يومًا بالتمام والكمال.
ولدت بالفعل، وكانت وللغرابة ولادة سهلة، على غير المتوقع، وصرت ابنًا لعائلة كبيرة من أب وأم وجد وإخوة وأعمام وعمات، ابنًا لأسرة من أسر الريف المصري في ذلك الوقت، بالتحديد قرية"إخطاب" مركز "أجا"، محافظة الدقهلية.
جدي لأبي يعمل بالفلاحة في قطعة أرض صغيرة لا تتعدى بضعة قراريط، وسط آلاف أفدنة الباشا، الباشا الذي يملك الأرض ومن عليها، ما تحتها وما فوقها. والأب محمد أفندي سرور معلم إلزامي، يعمل في إحدى مدارس القرى البعيدة، ويأتي على صهوة حمار إن حالفه الحظ حينًا، أو على قدميه أحيانًا كثيرة.
أمي هي عماد الدار وهي الشخصية المسيطرة، طبعًا في غياب أبي؛ تلك الشخصية الأسطورية القوية، بجسمه فارع الطول، والذي كان ينحني دائمًا، كيما يعبر عتبة الدار، ويضيف الطربوش عليه طولًا فوق طوله، فما يلبث أن يخلعه بمجرد عبوره عتبة الدار، فمن العيب طبعًا أن يسير هكذا عاري الرأس، بدون طربوش أو طاقية أو عمامة، ولما كان أبي أفنديًا، من الأفنديات المعدودين على أصابع اليد الواحدة في القرية وما جاورها من قرى كان يتحتم عليه لبس الطربوش على كراهة منه، وزهدٍ فيما سوف يضيفه على جسده العملاق من طول.
وأخوات ثلاث يكبرنني، وأخ واحد. نشأت في تلك الأسرة، على ما يزرعه جدي، وعلى مرتب أبي الذي كان وقتها معلمًا إلزاميًا بمرتب أربع جنيهات كل شهر، أبي الذي هرب للبندر منذ أعوام من القرية ومن أرض أبيه، ليلتحق بشهادته الابتدائية بمعهد المعلمين، ويحصل على دبلوم المعلمين، ليلتحق بطبقة الأفندية، بعدما أفسد خطط أبيه بتحويله لفلاح يرعى تلك القراريط الضئيلة الإنتاج.
كنا أسرة مستورة، بل ينظر إليها الفلاحون على أنها من أعلى فئات مجتمعهم الفقير سترًا بل ثراءً!! ربما كان عندهم بعض الحق في تصنيفهم الطبقي لنا، فنحن على أي حال لدينا دخل شهري من السيولة النقدية لا يتوفر لديهم، هم الذين لا تتوفر في أيديهم قروش معدودة، إلا بعد حصاد "القطن" ودفع مديونياتهم الباهظة للبقال من شاي وسكر ودخان، وضريبة ري وأرض، وربما مديونيات خاصة بالباشا، تلدها دفاتر صرافه سفاحًا كل عام، فكثيرًا ما كانوا يبصمون أوراقًا على بياض في دوار العمدة، حتى ينقذوا جلودهم من علق ساخنة في الفلكة، بأعواد الجريد الخضراء أو اليابسة، لأقل هفوة صدرت منهم، أو تخيلها الكبراء، أو لفقها الكبراء، فيجد الفلاحون أنفسهم مجردين حتى من تلك القروش، بالحجز على محصولهم لسداد ديونهم، أو ربما جردوا من الأرض نفسها بعد عرضها للبيع، ولن يشتريها طبعًا غير الباشا، فالسواد الأعظم من فلاحي قريتنا لا يملكون أرضًا، أو جردوا من ملكيتهم، أو على وشك أن يجردوا.
أما أسرتنا فتملك أرضًا، صحيح لا تتعدى القراريط الضئيلة، إلا أنها أرض لا تضطرنا للعمل أجراء عند الباشا، وكذلك مرتبًا شهريًا.
هذه نظرة الفلاحين لأسرتنا من الخارج، أما الحقيقة فكانت غير ذلك بالطبع، فإنتاج الأرض لا يكاد أن يغطي تكاليفه، هو يضمن فقط ما تحتاجه الأسرة من خضروات يومية طازجة، طمطماية أو خيارة أو قثائه أو بطيخة أو عود جرير أو سريرس مع بضعة أراديب من القمح شتاءً والذرة صيفًا، تخزن في الصومعة الطينية على سطح الدار، تضمن خبز عدة أرغفة يابسة أسبوعيًا على وقود من أعواد الذرة والقطن وأقراص الجلة، مع ما تجود به زلعة الدار من أي شئ يخزن في باطنها من جبن ومش وأصناف من ثمار الخيار والشطة وأي شئ يصلح أو لا يصلح للتخليل بالمش.
فالجبن القديمة والمخلل والخضروات وخبز القمح المخلوط في أغلبه بدقيق الذرة هو قوتنا اليومي ولشهور طويلة، تتخللها المواسم في رجب ورمضان وغيره، فنحظى بوجبة ساخنة عمادها بطة أو أوزة ربتها أمي ووالتها بالتزغيط اليومي قبل الموسم بمواسم! مع صنية الأرز المعمر، أو حلة الكوسكسي، ولكنه حدث سعيد لا يتكرر إلا بتكرار المواسم على مدار العام كأي أسرة من أسر الفلاحين التي تحيط بنا، وتنظر إلينا على أننا من ميسوري القرية وأثريائها!
ولكن نعيش أزمانًا قبل الزمن، أزمانًا بيضاء خالية من الأحداث، نسبة إلى ذواتنا، وقبل بدايات تكون الذاكرة، ولكن قبل هذه العصور البيضاء من الأحداث، كيف تكونت ذاكرتي، كيف نمت، ما هو السطر الأول من دفترها الطويل المكتظ بالأحداث، والتي أخشى أن يفلت زمام روايتها من يدي، فأنا كما تعرف مؤلفًا مسرحيًا، لم أكتب رواية من قبل، فمعذرة إن وقعت في خطأ تراه بعين الناقد، وتذكر عزيزي الناقد أنني ناقدٌ أيضًا مثلك وربما تفوقت عليك!
ما هو السطر الأول من ذاكرتي..؟! دعني أفكر قليلًا من فضلك...آه، كنت طفلًا لم يتعد الثلاث سنوات، أنام مستلقيًا على مرتبة قطنية، وفوقي قطعة من القماش تحول دون تكوم أسراب الذباب على وجهي، وجسدي، ملقًا في أحد زوايا الدار، أحوال جاهدًا أن أكشف وجهي، فأفلح في خلق فسحة أرى منها سقف الدار الخشبي، وأعواد الحطب المتراصة، وتلك الكوة التي يدخل منها ضوء الشمس، أرنو من خلالها إلى زرقة السماء، هذا أول مشهد تراءى لعيني الغريرة، ولكني لم أكن على ما يرام، فكل حين تأتي أمي لتكشف عن جسدي وتتمتم بأدعية وآيات من القرآن والرقى، وربما بللت وجهي بدمعة أو أكثر، سرعان ما تجففها، وتأتي عمتي، وتضع في يدي فطيرة ذرة بالسكر، أنحت منها بسنتين نبتتا في فمي، ما يستطيعه طفل تعلم الأكل على كره بعد مأساته الأولى من انفصامه عن ثدي أمه، ثم تضعني في سبت من الخوص، كنا نضع فيه خبزة الأسبوع، تحمل السبت على رأسها، وتذهب بي إلى البندر، فقد كنت مريضًا جدًا، ومهددًا بالموت من جراء الالتهاب الرئوي، والذي أعاني من آثاره وأنا أحدثك الآن.
وما أن يراني الطبيب، حتى يخبر عمتي بخطورة حالتي، وأنني على وشك الموت، وكثيرًا ما يموت من هم من هم في سني بأزماننا البعيدة تلك. ويوصي بصنف أو اثنين مما توفر في الوحدة الصحية بالبندر، والتي يتناولها الجميع بصرف النظر عن نوع مرضهم.
تحملني عمتي وتعيدني إلى السبت، ولكنها تقرر أن تكذب، تدخل الدار، مستبشرة ضاحكة منادية على أمي، تبشرها بأني على خير حال، فتشق زغاريط أمي صمت الدار وما حولها، بتلك الظهيرة، وتحتضنني بيديها وما بهما من بقايا عجين، وتضعني على المرتبة، وتعود للفرن قبل أن يحترق ما به من أرغفة، وتنتظر عمتي الخبر، خبر موتي من حين لآخر، بين تأنيب نفسها ورضاها عن كذبتها، هل مت كما توقع الطبيب، لا لم أمت لأنني أحدثك الآن، وأحاول أن أكتب روايتي الأولى وربما الأخيرة.