الأهمية التاريخية لثورة أكتوبر الاشتراكية الكبرى
خليل اندراوس
2024 / 11 / 17 - 10:48
يعرف التاريخ كثيرا من الثورات. بيد ليس هناك واحدة منها يمكن أن تُداني ثورة أكتوبر الاشتراكية، وليس هناك حدث تاريخي واحد يمكن أن يقارن بها من حيث قوة تأثيرها على كل البلاد وكل الشعوب من حيث التغيرات الجبارة في مصائر الشعب الروسي وشعوب العالم أجمع.
الثورة البلشفية أو ثورة أكتوبر التي انتصرت بتاريخ 25 أكتوبر او 7 نوفمبر بالتقويم الجديد، كانت المرحلة الثانية من الثورة الروسية عام 1917 والتي قادها البلاشفة بقيادة فلاديمير لينين والحزب البلشفي والطبقة العاملة والفلاحين الروس بناء على أفكار كارل ماركس وفريدريك انجلز وتطوير فلاديمير لينين لهذه الفلسفة.
كان كارل ماركس وانجلز هما وحدهما من حولا الاشتراكية من طوباوية الى علم وأجابا على السؤال المطروح من قبل الفكر الطليعي للبشرية. نعم، ان المجتمع المبني على استغلال الانسان للإنسان لا يدوم الى الابد وهو لا بد ان يسقط. ويأتي محله نظام اجتماعي جديد تتجسد فيه أفضل المثل العليا للبشرية. ان مثل هذا التبدل محتم وطبيعي تماما مثل مجيء النهار بعد الليل.
وبهذا التبدل بالذات يبدأ عصر جديد وتنتهي مقدمة التاريخ ويبدأ التاريخ الحقيقي نفسه للبشرية في أسمى معاني هذه الكلمة. ومن أجل تغيير العالم كان ينبغي العثور في المجتمع نفسه على قوى تستطيع، بل يتوجب عليها بالنظر لوضعها، ان تُشكل القوة القادرة على اكتساح القديم وخلق الجديد، ومن ثم تنويرها وتنظيمها لغرض النضال. وهذه القوة هي الطبقة العاملة أي البروليتاريا.
كانت روسيا مركزا للتناقضات الامبريالية، وهذا الواقع طرح امام الطبقة العاملة الروسية، أكثر المسائل ثورية. وفي روسيا تأسس حزب الطبقة العاملة الثوري الذي هو قادر على تقييم الوضع على نحو صائب وتملؤه العزيمة على إيصال النضال الطبقي الثوري الى نهايته الظافرة. وهذا الحزب، الحزب البلشفي كان يرتبط ارتباطا وثيقا بالجماهير وعبر عن آمالها وتطلعاتها والذي تبنى ومارس على أرض الواقع الفلسفة الماركسية اللينينية بإتقان.
وفي روسيا عاش وعمل في ذلك الوقت لينين القائد والفيلسوف العبقري الحقيقي الذي لا يضاهيه أحد في المجال الثوري النظري والعملي، والتنظيمي. وهذا ما سلكته روسيا قبل غيرها من البلدان طريق بناء الاشتراكية وفتحت الأبواب الى عهد جديد أمام جميع البلدان والشعوب.
ان ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى لم تكن قد جلبت وحسب الحرية للعمال والفلاحين وحلت المشاكل القومية والمسائل الديمقراطية العامة لروسيا وأخرجت البلاد من الحرب الامبريالية المُضنية – الحرب العالمية الأولى، وأنقذتها من خطر الانقسام والاستعباد الاستعماري الامبريالي. انما هي قضت، وفي ذلك ميزتها الرئيسية، في بلاد شاسعة تشغل سدس المعمورة على الظلم الطبقي واستغلال الانسان للإنسان، وفتحت عهد إقامة المجتمع اللاطبقي.
وثورة أكتوبر الاشتراكية بدأت فترة جديدة أيضا في تاريخ حركة التحرر الوطني لشعوب البلدان المُستعمرة في ذلك الوقت. وكما كتب فيما بعد رجل الدولة الهندي اللامع جواهر لال نهرو :"فان الثورة السوفييتية قد قدمت كثيرا الى الأمام المجتمع البشري وأشعلت نارا ساطعة لا يمكن ان تنطفئ، انها ارست أساس تلك الحضارة الجديدة التي يمكن للعالم ان يتحرك نحوها".
ولقد أثارت ثورة أكتوبر الاشتراكية في ذلك الوقت موجة عاتية من التضامن مع روسيا السوفييتية في جميع انحاء العالم. وهنا اريد ان اذكر بأن تأثير ثورة أكتوبر على الصين كان عظيما. فقد رحب بحرارة الجزء الطليعي من المثقفين الصينيين والعمال بالثورة السوفييتية كأعظم حدث في التاريخ. وعبر الثوري الصيني العظيم صن يات – صن في برقية أرسل بها الى رئيس الحكومة السوفييتية لينين عن "احترامه البالغ للنضال العصيب والرائع" للحزب الشيوعي وعن أمله " في اتحاد الأحزاب الثورية في الصين وروسيا كي تخوض سوية النضال". وكاتب هذه السطور يقول لو تحقق هذا الحلم، بالإضافة الى منع العديد من الإخفاقات اللاحقة في المجتمع السوفييتي، وأهمها الفشل الاقتصادي، وهنا أذكر ما قاله لينين "بأن الاشتراكية لا يمكن ان تنتصر على الرأسمالية الا إذا أصبحت إنتاجية المجتمع الاشتراكي ضعف إنتاجية المجتمع الرأسمالي".
وهنا كان الفشل، ولما كان الانقسام والتمزق بين الأحزاب الثورية حتى على مستوى عالمي. لقد كانت رسالة ثورة أكتوبر الاشتراكية تحقيق المساواة بين فئات الشعب الروسي من جميع النواحي والقضاء على الرأسمالية والاقطاعية وتحقيق بناء المجتمع الاشتراكي، وكان البرنامج البلشفي الذي صاغه لينين العمل على تحقيق السلام، وإعطاء الأراضي للفلاحين والسلطة للعمال.
ومن المعروف تاريخيا بأنه بعد انتصار ثورة أكتوبر رفضت الحكومة السوفييتية طواعية الاتفاقيات غير المتكافئة والتي عقدتها الحكومة القيصرية مع البلدان الشرقية. وكان لذلك أهمية عظمى بالنسبة لجماهير الشعب. فقد وجدت شعوب البلاد الشرقية المُستعمرة سابقا من قبل الإمبراطورية الروسية القيصرية، بروسيا السوفييتية صديقا أمينا ونصيرا لمصالحها. وإذا تخطت القوى التقدمية في الشرق القصور القومي فقد أخذت تدرك العلاقة المتينة بين نضال البلدان المستعمرة والتابعة في سبيل الحرية ونضال الفصائل الثورية في الدول الغربية ضد عدو الكادحين المشترك – ضد الامبريالية العالمية.
في نهاية عام 1918 زار ممثلو الصين موسكو حيث استقبلهم وبعد أن حدّث المندوبون رئيس الحكومة السوفييتية عن الوضع في الصين وعن تزايد الاحداث الثورية في جنوب البلاد أعلنوا ان" قيام روسيا السوفييتية يعني لكل الشرق موضوع حياة أو موت". وانتصار ثورة أكتوبر وصلت الى الهند لتؤثر على الأوساط الهندية تأثيرا بالغا. وكتب جواهر لال نهرو في هذا الصدد يقول:" لقد بدأنا نحن في الهند مرحلة جديدة من كفاحنا في سبيل الحرية ... لقد اعجبنا بلينين وأثر مثاله علينا تأثيرا كبيرا".
وفي ذلك الوقت وافقت الرابطة القومية الإسلامية في دلهي على نص رسالة شعوب الهند الى روسيا السوفييتية. وقد نشرت الصحف السرية في ذلك الوقت هذه الوثيقة المؤثرة في يناير عام 1918. وقد جاء في الرسالة:" يا زعماء الثورة الروسية ان الهند لتهنئكم بالنصر العظيم الذي حففتموه لصالح الديمقراطية في كل انحاء العالم". وفي 23 نوفمبر عام 1918 استقبل لينين الوفد الهندي حيث جرت أحاديث طويلة.
وساهمت روسيا السوفييتية في ضمان استقلال تركيا. فقد تراجعت الحكومة السوفييتية نهائيا عن الاتفاقيات والصفقات التي عقدتها الحكومة القيصرية، والموجهة لمناهضة مصالح تركيا. وعبر الكادحون الاتراك عن تعاطفهم الشديد مع الشعب الروسي الذي أقام السلطة السوفييتية، ومع زعيم الثورة الروسية والبروليتاريا العالمية لينين. وكانت الواقعة التالية ذات دلالة عميقة، عند مناقشة موضوع منح جائزة نوبل عام 1918 في الجامعة القسطنطينية، اتخذ قرار بمنحها الى لينين. وبعد انتصار ثورة أكتوبر غدت الدولة السوفييتية قريبة وعزيزة بنفس الدرجة لدى شعوب الشرق العربي. وجاء في احدى وثائق " لجنة وحدة العرب" (التي شكلت سوريا): " ان العرب يعتبرون حكومة لينين ورفاقه وثورتهم العظيمة لتحرير الشرق من نير الطغاة الأوروبيين، قوة عظيمة قادرة على منحهم السعادة والرفاهية.
ان سعادة واستقرار كل العالم يتوقف على التحالف بين العرب والبلاشفة وأعطت ثورة أكتوبر دفعة قوية لتطور النضال التحرري للشعوب العربية. واعتبر كادحو إيران في ذلك الوقت، بعد أن قامت الحكومة السوفييتية بإلغاء كل الاتفاقيات التي كانت موجهة ضد استقلال إيران، بأن لينين محررهم من جور القيصرية الروسية وانجلترا. وعملت اللقاءات والمظاهرات التي عمت إيران في ذلك الوقت على تشكيل الاتحادات النقابية ومنظمات الكادحين الديمقراطية الأخرى.
وانتصار ثورة أكتوبر فتحت صفحة جديدة في تاريخ شعوب الشرق بأجمعه. فقد وضعت بداية انهيار النظام الاستعماري، ومهدت عصر الثورات التحررية الوطنية في البلدان المُستعمرة والتابعة. ولم تكن حركة التحرر الوطني في هذه المنطقة تحمل طيلة تاريخها مثل هذا الطابع الجماهيري. حول هذا الموضوع كتب لينين:" نحن نعلم أن الجماهير الشعبية في الشرق ستنهض بوصفها مشتركة مستقلة في الحياة الجديدة، بوصفها صانعة للحياة الجديدة، لأن مئات الملايين من سكان الشرق تنتسب الى الأمم التابعة والمهضومة الحقوق التي كانت حتى اليوم موضوعا لسياسة الامبريالية الدولية، والتي كانت بالنسبة للحضارة والمدنية الرأسماليتين مجرد سماد. ونحن نعلم حق العلم انهم عندما يتحدثون عن توزيع الانتدابات على المستعمرات، فإنما يعنون توزيع الانتدابات للسلب والنهب وتخويل أقلية ضئيلة من سكان الأرض حق استثمار الأكثرية من سكان الكرة الأرضية". (لينين – حركة شعوب الشرق التحررية الوطنية).
فثورة أكتوبر أعطت نموذجا لتقرير المسألة القومية والقضاء على الاضطهاد القومي وإقامة المساواة والصداقة الأخوية بين الشعوب. وهنا اريد ان اذكر بأن الدولة السوفييتية بعد انتصار ثورة أكتوبر حددت سياستها المُحبة للسلام وأول وثيقة أصدرتها السلطة السوفييتية في مجال السياسة الخارجية كان مرسوم السلام.
انتصار ثورة أكتوبر حول رويا من بلد زراعي مُتخلف الى دولة صناعية كولخوزية عُظمى، والى دولة مزدهرة علميا وثقافيا واجتماعيا. وفي عصرنا الحاضر يحاول المفكرون البرجوازيون خوفا من تأثير ثورة أكتوبر على شعوب العالم، انكار أهميتها التاريخية العالمية. ان فشل تجربة بناء الاشتراكية، لا يعني انكار أهميتها التاريخية، فتجربة بناء الاشتراكية قد تفشل مرة او مرتين او أكثر ولكن هذا لا يعني حتمية انتصار الاشتراكية مستقبلا، فكما كتب كارل ماركس وانجلز مُؤسسا الشيوعية العلمية، انه من المحتم ان تصبح الاشتراكية بديلا ثوريا للرأسمالية. وذكرا في " بيان الحزب الشيوعي" أن كلا من نهاية البرجوازية وانتصار البروليتاريا أمر حتمي لا محيد عنه. ذلك، لان الرأسمالية هي آخر نظام استغلالي يشهده التاريخ.
ويجري خلال تطورها التمهيد للظروف الموضوعية المُؤدية للانتقال الى درجة أعلى في حياة البشرية: الى الشيوعية. وعلينا ان نذكر ونُذكر ما كتبه لينين في مقال: مسألة السلام. "ان شعار حق الأمم في تقرير المصير ينبغي ان يُطرح أيضا بالاتصال مع عصر الرأسمالية الامبريالي، فنحن لسنا الى جانب الوضع الراهن، ولسنا الى جانب الوهم البرجوازي الصغير القائل بالبقاء بمعزل عن الحروب الكبرى.
نحن من مُؤيدي النضال الثوري ضد الامبريالية، أي ضد الرأسمالية.
فالإمبريالية هي على وجه الدقة نزوع الأمم التي تظلم عددا من الأمم الأخرى الى توسيع وتوطيد هذا الظلم، والى إعادة اقتسام المستعمرات. ولذلك فان بيت القصيد في مسألة حق الأمم في تقرير مصيرها هو في عصرنا سلوك الاشتراكيين من أبناء الأمم الظالمة. فالاشتراكي من أبناء الأمم الظالمة (إنجلترا، فرنسا، المانيا، اليابان، روسيا، الولايات المتحدة.. الخ). الذي لا يعترف بحق الأمم المظلومة في تقرير المصير ولا يذوذ عن هذا الحق (أي عن حقها في الانفصال الحر) ليس في الواقع باشتراكي، انما هو شوفيني".
"ان وجهة النظر هذه هي وجهة النظر الوحيدة التي تطبق باستقامة مبدأ النضال ضد كل مظهر من مظاهر ظلم الأمم، وتزيل عدم الثقة من جو العلاقات بين بروليتاريا الأمم الظالمة والأمم المظلومة، وتفضي الى التضامن والنضال الأممي من أجل الثورة الاشتراكية (أي من أجل النظام الوحيد الذي يمكن تحقيق نظام غيره لضمان المساواة الكاملة بين الأمم)، لا من اجل الوهم البرجوازي الصغير القائل بحرية جميع الدول الصغيرة بوجه عام في ظل الرأسمالية) – (لينين – مقال مسألة السلام كتاب حرية شعوب الشرق التحررية الوطنية ص 124).
/مراجع المقال:
-عشرة أيام هزت العالم – جون ريد.
-تاريخ ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى – اصدار دار التقدم – موسكو عام 1977.
-حركة شعوب الشرق التحررية الوطنية – لينين.
-الاتحاد السوفييتي لمحة تاريخية موجزة – اصدار دار التقدم موسكو عام 1977 – غوسيف ونعوموف.