أزمة الليبرالية
أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
2024 / 11 / 17 - 00:36
بقلم برابهات باتنايك
إن فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية يتوافق مع نمط يمكن ملاحظته حاليًا في جميع أنحاء العالم، ألا وهو انهيار الوسط الليبرالي ونمو الدعم إما لليسار، أو لليمين المتطرف، الفاشيين الجدد، في المواقف التي يكون فيها اليسار غائبًا أو ضعيفًا. كان هذا واضحًا في فرنسا حيث خسر حزب ماكرون بشكل كبير، ولم يتم منع صعود الفاشية الجديدة إلا من خلال تحالف يساري تم تشكيله على عجل؛ وهذا واضح أيضًا في منطقتنا، في سريلانكا، حيث ظهر مرشح يساري كرئيس من خلال زيادة مفاجئة وكبيرة في حصته من الأصوات، وهزم الرئيس الحالي الذي ينتمي إلى الوسط الليبرالي. إن هذا الانهيار الشامل للوسط الليبرالي، الذي يشير إلى أزمة الليبرالية، هو الظاهرة الأكثر لفتًا للانتباه في العصر الحديث؛ تكمن جذوره في حقيقة أن الليبرالية السياسية اليوم لا تزال مرتبطة بالليبرالية الجديدة الاقتصادية التي واجهت هي نفسها أزمة.
لقد كانت الفلسفة السياسية الليبرالية الكلاسيكية، التي وفرت الأساس للممارسة السياسية الليبرالية، مدعومة بتقليد طويل من الفكر الاقتصادي البرجوازي، الذي يمتد بين الاقتصاد السياسي الكلاسيكي والاقتصاد الكلاسيكي الجديد. وكان كلا التيارين يؤمن، على الرغم من الاختلافات الكبيرة بينهما، بفضائل السوق الحرة، التي كان لابد كأولوية من إزالة القيود التي تفرضها تدخلات الدولة.
ولقد كشفت الحرب العالمية الأولى (التي كانت جذورها الاقتصادية تكذب كل الادعاءات المتعلقة بفضائل السوق) عن خواء هذا الخط من التفكير، كما كشفت عنه أزمة الكساد الأعظم. فقد أظهر كينز أن رأسمالية عدم التدخل ، اذا نحينا جانبا "فترات الإثارة القصيرة"، كانت تعمل بشكل منهجي على إبقاء أعداد كبيرة من العمال عاطلين عن العمل رغماً عنهم، وأن السوق الحرة، بعيداً عن كونها المؤسسة المثالية التي صورت على أنها كذلك، كانت معيبة إلى الحد الذي جعل الرأسمالية عُرضة لخطر الإطاحة بها من قِبَل المد الاشتراكي المتصاعد. ولكن كونه ليبرالياً، وخائفاً من التهديد الاشتراكي إذا لم يتم تصحيح النظام، فقد اقترح نسخة جديدة من الليبرالية (التي أطلق عليها "الليبرالية الجديدة") تتسم بالتدخل الدائم من قِبَل الدولة لتعزيز الطلب الكلي وتحقيق معدلات تشغيل عالية، بدلاً من تجنبها كما كان السمة المميزة لليبرالية الكلاسيكية.
ولكن رأس المال المالي لم يقبل قط نظرية كينز. وكان كينز نفسه مفتوناً بهذا الأمر وعزا ذلك إلى عدم فهم نظريته. ولكن السبب الحقيقي كان أعمق من ذلك، وهو الخوف من أن يؤدي أي تدخل منهجي من جانب الدولة إلى نزع الشرعية عن الدور الاجتماعي الذي يلعبه الرأسماليون، وخاصة ذلك القطاع من الرأسماليين الذي كان يعمل في مجال التمويل والذي أطلق عليه كينز وصف "المستثمرين عديموا الوظائف ". وهذا الخوف قائم منذ أمد بعيد ولا يزال قائماً حتى يومنا هذا. ولم تتحول نظرية كينز إلى سياسة للدولة إلا بعد الحرب، لأن الحرب أضعفت رأس المال المالي وأدت إلى صعود الديمقراطية الاجتماعية التي تبنت نظرية كينز.
لقد شهدت فترة الطفرة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية في البلدان الرأسمالية المتقدمة توطيد رأس المال المالي وتوسع حجمه إلى الحد الذي جعله يصبح عالميًا بشكل متزايد. وفي الوقت نفسه، واجهت الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية، على الرغم من تكميلها بتدخل الدولة، نوعاً مختلفاً من الأزمات، وهي ليست أزمة ناجمة عن الطلب الكلي غير الكافي، بل أزمة ارتفاع التضخم الذي حدث في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات. وكانت جذور هذه الأزمة ترجع إلى الظاهرتين التوأم اللتين ميزتا الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية: ارتفاع معدلات التشغيل الذي أدى إلى تقليص جيش العمال الاحتياطي وإزالة "تأثيره المستقر" في الاقتصاد الرأسمالي، وإزالة الاستعمار الذي أزال آلية ضغط الطلب في العالم الثالث للحفاظ على أسعار السلع الأساسية منخفضة. وقد سمح ذلك لرأس المال المالي الدولي الجديد بتشويه سمعة نظام إدارة الطلب الكينزي (بمساعدة وتشجيع من إحياء الاقتصاد البرجوازي الاعتذاري الذي أعاد نشر فضائل السوق الحرة) وتعزيز الأنظمة الاقتصادية الليبرالية الجديدة في كل مكان. وبما أن الحفاظ على "ثقة المستثمرين" (أي منع هروب رأس المال من خلال الخضوع لمطالب رأس المال المالي الدولي) كان في الوضع الجديد الشغل الشاغل لسياسة الدولة، فقد كان لا بد من التخلص من "الليبرالية الجديدة" التي صاغها كينز؛ واصطف الوسط الليبرالي، ومعظم الديمقراطية الاجتماعية، وحتى قطاعات معينة من اليسار، خلف الليبرالية الجديدة.
ولكن الليبرالية الجديدة جلبت معاناة هائلة للطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية المتقدمة ومعاناة أعظم للعمال في العالم الثالث، حتى قبل أن تتعرض لأزمة؛ وزادت المعاناة بشكل كبير عندما تعرضت لأزمة. تباطأ معدل نمو الاقتصاد العالمي بشكل كبير في العصر النيوليبرالي مقارنة بفترة التوجيه ؛ وتباطأ أكثر في الفترة التي أعقبت عام 2008 عندما انفجرت آخر فقاعات أسعار الأصول في الولايات المتحدة. هذه الأزمة، نتيجة للطلب الكلي غير الكافي الناجم عن الزيادة الهائلة في عدم المساواة في الدخل في ظل الليبرالية الجديدة (التي تنتج دائمًا ميلًا نحو الإفراط في الإنتاج)، تأخرت فقط بسبب فقاعات أسعار الأصول في الولايات المتحدة التي حافظت على الطلب الكلي العالمي من خلال تأثير الثروة؛ تجلت الأزمة مع انفجار الفقاعة. لا يمكن التغلب عليها ضمن حدود الليبرالية الجديدة، لأن الليبرالية الجديدة تلغي نطاق إدارة الطلب الكينزية؛ ولكن من الواضح أن نشوء فقاعة جديدة و الذي قد يخفف إلى حد ما من شدتها أمر مستبعد، وذلك استناداً إلى تجربة الفقاعات السابقة التي جعلت الناس أكثر حذراً. والواقع أن السياسة النقدية التي تهدف إلى تحفيز فقاعة جديدة لم تنجح إلا في تحفيز التضخم من خلال زيادة هامش الربح حتى في خضم ركود الطلب، وهو ما يؤدي إلى تفاقم الأزمة إلى حد أكبر.
إن الليبرالية المعاصرة، باختصار، ملتزمة بالنظام النيوليبرالي، ولا تفعل الكثير، بل إنها في واقع الأمر لا تستطيع أن تفعل الكثير، لتخفيف محنة الناس. وليس من المستغرب أن يتحول الناس عنها نحو تشكيلات سياسية أخرى إلى اليمين واليسار. واليمين أيضاً لا يستطيع أن يفعل الكثير لتخفيف محنة الناس: ذلك أن خطابه قبل الانتخابات يتناقض دوماً مع سياسته بعد الانتخابات التي تتسم بالليبرالية الجديدة، كما أظهرت ميلوني في إيطاليا، وكما بدأ مرشح مارين لوبان لمنصب رئيس الوزراء، جوردان بارديلا، في إظهار ذلك حتى قبل الانتخابات من خلال التحول في موقف حزبه تجاه رأس المال المالي الدولي. ولكن اليمين يلجأ إلى خطاب ضد "الآخر"، عادة بعض الأقليات الدينية أو العرقية، أو المهاجرين، لإنتاج مظهر من مظاهر النشاط في مواجهة الأزمة، في حين لا يعترف الوسط الليبرالي بوجود الأزمة. في هذه الحالة، يحوّل رأس المال الاحتكاري دعمه نحو اليمين، أو الفاشيين الجدد، من أجل الحفاظ على هيمنته في مواجهة الأزمة، وهو سبب آخر لإضعاف الوسط الليبرالي وأزمة الليبرالية.
قد يزعم البعض أن ترامب لديه أجندة اقتصادية لحماية الاقتصاد الأميركي من الواردات ليس فقط من الصين بل وحتى من الاتحاد الأوروبي؛ ولا يمكن اتهامه بالالتزام بالنص النيوليبرالي القديم مثل ميلوني. ولكن هناك عدة نقاط يجب ملاحظتها هنا: أولاً، حتى أثناء الابتعاد عن التجارة الليبرالية إلى الحماية التجارية، لم يذكر ترامب قط فرض قيود على التدفق الحر عبر الحدود لرأس المال المالي الدولي، بحيث يظل جوهر الترتيب النيوليبرالي دون أي تحدٍ من جانبه حتى في خطابه قبل الانتخابات. ثانياً، الحماية التجارية ليست فكرة ترامب الأصلية؛ فقد بدأت حتى في عهد أوباما. فضلاً عن ذلك، فإن الحماية التجارية وحدها لن تنعش الاقتصاد الأميركي؛ فهي قد تشجع في أفضل الأحوال الإنتاج المحلي على حساب الواردات من الاقتصادات المنافسة، لكنها لا تستطيع في حد ذاتها توسيع حجم السوق المحلية، حيث يعد توسيع الإنفاق الحكومي، الممول إما من خلال العجز المالي أو من خلال الضرائب على الأغنياء، أمراً ضرورياً. ولكن مع ميله إلى خفض الضرائب على الشركات الذي كشف عنه خلال رئاسته الأخيرة، فإن ترامب لن يلجأ إلى زيادة الإنفاق الحكومي، بحيث يعود الاقتصاد الأميركي في أفضل الأحوال إلى الركود والأزمة بعد تباطؤ مؤقت ناجم عن زيادة الحماية.
وعلى الرغم من أن فوز ترامب كان متوقعا، كونه يتفق مع الظاهرة العالمية المتمثلة في انهيار الوسط الليبرالي، إلا أنه يظهر أن الناس لم يروا من خلال أجندته الاقتصادية، والالتزام بالمبادئ الأساسية لليبرالية الجديدة (بخلاف إدخال المزيد من الحمائية التي يمكن أن تؤدي في أفضل الأحوال إلى زيادة مؤقتة في الوظائف في حين تؤدي إلى تفاقم الوضع التضخمي بسبب غياب الواردات الرخيصة).
إن السياق الدولي، على ما يبدو، ملائم لتفوق اليسار، الذي وحده قادر على إنهاء الأزمة المستمرة من خلال إنهاء الليبرالية الجديدة، والذي وحده قادر على إنهاء الحروب الدائرة حالياً (والتي يتحمل الوسط الليبرالي المسؤولية عنها، وهو أمر سوف نناقشه في مناسبة لاحقة). ولكن يتعين على اليسار أن يكون مستعداً لهذه المهمة.
ديمقراطية الشعب
صحيفة الحزب الشيوعي الهندي الماركسي