فوز ترامب: ركلة في وجه الإدارة الأمريكية


آلان وودز
2024 / 11 / 9 - 08:47     



إن النتيجة الصادمة للانتخابات الرئاسية الأمريكية تقدم مثالا آخر على نوع التغيرات المفاجئة والحادة التي يحبل بها الوضع. فحتى اللحظة الأخيرة، كان خبراء وسائل الإعلام يبذلون كل مجهوداتهم لإثبات أن استطلاعات الرأي تفيد بفوز هاريس، وإن بهامش ضئيل.

لكنهم كانوا مخطئين.

لقد تحطم ذلك الوهم في الصباح الباكر من يوم 06 نوفمبر 2024، عندما اقترب دونالد ترامب من عتبة 270 صوتا في المجمع الانتخابي ليصبح بذلك رئيسا للولايات المتحدة. فمرة أخرى، خرج الملايين من الأمريكيين للتصويت لصالحه.

لم يكن من المفترض أن يحدث هذا. فقد كانت الطبقة السائدة في أمريكا -بدعم قوي من حكومات أوروبا-عازمة على إبعاده من المنصب، سواء بوسائل مشروعة أو غير مشروعة. وبعد الإطاحة به في انتخابات عام 2020، تم القيام بكل شيء من أجل منعه من الترشح مرة أخرى.

لقد حاولوا إبعاده عن الاقتراع في العديد من الولايات. وأدين بـ 34 تهمة جنائية، مع أكثر من 50 تهمة معلقة. وتم الحكم عليه بدفع مئات الملايين من الدولارات في قضايا مدنية تتعلق بالاحتيال التجاري ودعوى تشهير ناشئة عن تهمة بالاغتصاب.

لكن كل التهم الجنائية التي وجهت إليه لم تؤد إلا إلى زيادة الدعم الذي يتمتع به. لقد ارتدت الاتهامات عنه ببساطة. ومع كل قضية في المحكمة، كان دعمه يرتفع في استطلاعات الرأي.

ارتدت جميع الهجمات العديدة ضده وتحولت ضد أولئك الذين يُنظر إليهم -بحق- على أنهم متورطون في مؤامرة لمنعه من العودة إلى البيت الأبيض.

كل السهام كانت موجهة ضده. كانت وسائل الإعلام متحدة تقريبا في معارضته. فيما يلي قائمة بعدد الصحف والمجلات الرئيسية وموقفها فيما يتعلق بالمرشحين:

199 صحيفة مع كامالا هاريس

16 صحيفة مع ترامب

28 صحيفة لا تؤيد أيا من المرشحين

01 صحيفة تؤيد مرشحين آخرين

المجموع 244

نرى من هذا أن جميع وسائل الإعلام تقريبا كانت ضده. كانت النخبة الحاكمة تعزي نفسها بفكرة “أنه لن ينجح أبدا”. لقد زعموا أن ذلك “المجرم المدان” لا يمكنه أبدا الفوز بالرئاسة. لكن ذلك ما حدث.

وهذا ما يفسر الصدمة العميقة التي أحدثتها نتيجة الانتخابات للطبقة السائدة الأمريكية.

الحيرة
قال تروتسكي ذات يوم إن النظرية هي تفوق التوقع على الدهشة. وقد خطرت هذه الملاحظة في ذهني هذا الصباح، عندما قرأت تعليقا مثيرا للاهتمام لمراسل بي بي سي قال فيه:

“بعث أحد العاملين السياسيين في الحزب الديمقراطي في واشنطن رسالة نصية يقول فيها إن الحزب “يحتاج من أجل بداية جديدة إلى التخلص من المتغطرسين النخبويين في واشنطن”.

“وقد أخبرني آخرون بنفس الشيء، وإن بشكل أقل صراحة، فبينما يشيدون بجهود الحملة، فإنهم يشعرون بأن الحزب ككل يعاني من “مشكلة صورة” في وقت أصبحت الأشياء الأساسية اليومية مثل تكلفة المعيشة على رأس اهتمامات معظم الناخبين.

“يذكرني هذا اليأس السائد داخل الحزب الديمقراطي بمحادثة أجريتها مع جمهوري في أحد تجمعات ترامب الذي قال إن مرشحهم “غير” الحزب الجمهوري بالكامل من الصورة النمطية لناخبي النوادي الريفية، إلى جذب أسر الطبقة العاملة، في حين أصبح الديمقراطيون “حزب هوليوود”.

“هذه تعميمات كبيرة، لكنها أفكار يتشاركها الآن الجمهوريون علنا، وكذلك بعض الديمقراطيين في المجالس الخاصة”.

منظرو رأس المال، بسبب جهلهم بأبسط أبجديات الديالكتيك، ينظرون دائما إلى سطح المجتمع، غير مدركين نهائيا للغضب الذي يتراكم تحت أقدامهم.

لقد فشلوا في فهم الأسباب الكامنة وراء ما يسمى بحركة ترامب. يبدو الأمر ظاهريا وكأنه يتعلق بـ”الصورة”. لكن المشكلة هي أن صورة الحزب الديمقراطي تعكس بشكل دقيق الواقع العميق.

هناك هوة سحيقة الآن تفصل بين النخبة في واشنطن وبين جماهير الشعب: كان هذا نوعا من “ثورة الفلاحين”، تمرد للعوام وتصويت ساحق بعدم الثقة في النظام القائم.

حركة متناقضة
كثيرا ما سمعت من أناس على اليسار يقولون إن ترامب وهاريس “كلاهما نفس الشيء”. هذا صحيح وخاطئ في نفس الوقت. من الواضح أن دونالد ترامب ملياردير وبالتالي فهو يدافع عن مصالح الأثرياء وأصحاب السلطة.


إن القول بأن هاريس وترامب كلاهما سياسيان برجوازيان رجعيان وأن الفرق بينهما ضئيل للغاية، هذا إن وجد أصلا، هو في الحقيقة قول بديهي. لكن هذا القول لا يجيب عن السؤال الذي ينشأ حتما: كيف نفسر الدعم الحماسي الذي نجح ترامب في الحصول عليه بين ملايين العمال الأمريكيين؟

إنها لمفارقة غريبة أن يتمكن ملياردير مثل ترامب من التظاهر بنجاح بأنه بطل في خدمة مصالح الطبقة العاملة. إنه بالطبع ممثل مخلص لطبقته، طبقة الواحد في المائة من الأمريكيين فاحشي الثراء الذين يمتلكون الأمة ويسيطرون عليها.

كان الديمقراطيون لفترة طويلة قادرين على التظاهر بأنهم الممثلون السياسيون للطبقة العاملة. ولكن عقودا من التجارب المريرة أقنعت ملايين العمال بأن هذا مجرد كذب.

إن العمال يبحثون عن بديل جذري. وقد كان من الممكن لساندرز أن يوفر ذلك البديل لو أنه قرر الانفصال عن الديمقراطيين والترشح كمستقل. لكنه استسلم لمؤسسة الحزب الديمقراطي، وهذا ما أصاب قاعدته بخيبة الأمل.

وقد ترك هذا الطريق مفتوحا أمام ديماغوجي يميني مثل ترامب، الذي اغتنم الفرصة بكلتا يديه. في عام 2015، أخبر ترامب أستاذ كلية إدارة الأعمال بجامعة ييل، جيفري سونينفيلد، أنه نسخ عمدا الرسالة المناهضة للشركات التي أظهرت حملة بيرني ساندرز أنها فعالة.

وفي غياب مرشح يساري فعال، استغل ملايين الناس، الذين يشعرون بالاغتراب والحرمان السياسي، الفرصة لتوجيه ركلة قوية ضد الإدارة الأمريكية.

الحقيقة هي أن الطبقة العاملة في أمريكا تشعر بالخيانة من قبل الديمقراطيين وبالانفصال التام عن الأحزاب السياسية القائمة. بدا ترامب، بالنسبة لهم، وكأنه يقدم بديلا، فتجمعوا لدعمه.

في نوفمبر 2016، أشارت مقابلة في صحيفة إيفيننغ ستاندارد إلى أن:

“الأمريكيين من الطبقة العاملة يخرجون بأعداد قياسية. هذه ثورة للطبقة العاملة لم يرها أحد قادمة. بينما النخب في وسائل الإعلام يأكلون الجبن ويشربون الشمبانيا، ولا يتحدثون أبدا إلى الناخبين الحقيقيين. لقد تم اهمال الأمريكيين من الطبقة العاملة من قبل المؤسسة، من قبل طبقة مالكي العبيد في وول ستريت، فبرز دونالد ترامب كمدافع عنهم”.

من المعروف أنه قبل أن يبدأ ترامب في تناول هذه المسألة، نادرا ما كان يتم ذكر الطبقة العاملة في السياسة الأمريكية. حتى الديمقراطيين الأكثر “يسارية” كانوا يشيرون فقط إلى الطبقة المتوسطة. لقد تم تجاهل الطبقة العاملة تماما. لم تدخل حتى مجال رؤيتهم. ومع ذلك، فإن الطبقة العاملة موجودة، وهي الآن تفرض عليهم أن يروها.

في زمن الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، كتب الأب سييس نصا شهيرا بعنوان “ما هي الهيئة الثالثة؟” نقرأ فيه ما يلي:

“ما هي الهيئة الثالثة؟ إنها كل شيء. ما الذي تمثله حتى الآن في النظام السياسي؟ لا شيء. ماذا تريد أن تكون؟ تريد أن تصبح شيئا ما”.

يمكن اعتبار هذه الأسطر الشهيرة وصفا لوضع الطبقة العاملة في الولايات المتحدة اليوم. ودونالد ترامب، مهما كان رأيكم فيه، فلا بد من الاعتراف بأنه قد لعب، لأسبابه الخاصة، دورا بالغ الأهمية في وضع الطبقة العاملة في قلب السياسة الأمريكية، وذلك لأول مرة منذ عقود.

الهاوية بين الطبقات
هذه الحقيقة ليست مصادفة. إنها انعكاس لواقع اجتماعي واضح. لقد اتسعت الهوة التي تفصل بين الأغنياء والفقراء إلى هاوية لا يمكن ردمها. وهذا يعمق الاستقطاب الاجتماعي والسياسي. إنه يخلق مزاجا متفجرا من الغضب في المجتمع.

أينما نظرت، في جميع البلدان، هناك كراهية ملتهبة ضد الأثرياء والأقوياء: أصحاب المصارف، ووول ستريت، والمؤسسة بشكل عام. وقد استغل دونالد ترامب هذه الكراهية بذكاء. وهذا ما أرعب ممثلي رأس المال الجديين.


لقد نظروا بحق إلى دونالد ترامب باعتباره تهديدا، لأنه يتسبب بشكل متعمد في تفجير أسس الإجماع، وكل السياسات الوسطية التي بنوها بشق الأنفس طيلة عقود من الزمن.

سوق الأسهم الأمريكية يزدهر، والدولار يرتفع في أسواق العملات، والاقتصاد الأمريكي ينمو بنحو 2.5%، والبطالة لا تزيد عن 4.1%. ومع ذلك فإن تقارير القائمين على حملات الدعاية الانتخابية تظهر بوضوح أن معظم الناس لا يشعرون بتحسن أوضاعهم، بل العكس تماما في الواقع:

“أخبرني القائمون على حملات الدعاية الانتخابية في Make the Road Pennsylvania أن العديد من الأشخاص الذين التقوا بهم أعربوا عن شكوكهم في أن يؤدي التصويت إلى تحسين ظروف حياتهم. قالت إحدى القائمات على حملات الدعاية إنها كثيرا ما قيل لها عن السياسيين: “إنهم يريدون صوتنا فقط، ثم ينسوننا”. وأخبرني مانويل غوزمان، ممثل الولاية الذي تضم دائرته أحياء في ريدينغ، تصطف على جانبيها منازل متواضعة يسكنها في الغالب مهاجرون لاتينيون، أنه كان على دراية بهذا النوع من تشكك الناخبين. كان غوزمان، الذي هو نصف دومينيكاني ونصف بورتوريكي، واثقا من أن الديمقراطيين سيفوزون في ريدينغ في نوفمبر. لكنه كان قلقا من أن هامش النصر سيكون مخيبا للآمال، وذلك نظرا للانفصال بين ما يشغل الديمقراطيين في واشنطن العاصمة وبين ما كان يسمعه من ناخبيه، الذين يحتاج العديد منهم إلى العمل في وظائف متعددة للهروب من الفقر الذي يصيب ثلث سكان ريدينغ. قال: “لقد أصبحنا كحزب وطني مركزين للغاية على إنقاذ الديمقراطية. سأكون صادقا معك، لم أسمع ولو شخصا واحدا في مدينة ريدينغ يتحدث معي عن الديمقراطية! ما يقولونه لي هو: “ماني، لماذا سعر البنزين مرتفع جدا؟” “لماذا إيجاري مرتفع جدا؟” لا أحد يتحدث بما فيه الكفاية عن هذه القضايا”.

الأمريكيون على دراية تامة بالتكاليف التي تتجاهلها المؤشرات الرسمية والخبراء الاقتصاديون. وصلت أسعار الرهن العقاري إلى أعلى مستوى لها في 20 عاما، وارتفعت أسعار المساكن إلى مستويات قياسية. كما ارتفعت أقساط التأمين على السيارات والصحة بشكل كبير.

في شهر دجنبر، أجرت مؤسسة هاريس بول استطلاعا للرأي لصالح وكالة بلومبرغ نيوز، قال فيه ما يقرب من 40% من الأمريكيين إن أسرهم تعتمد مؤخرا على دخل إضافي لتغطية نفقاتها. ومن بين هؤلاء، قال 38% إن المال الإضافي بالكاد يغطي نفقاتهم الشهرية ولا يتبقى لهم شيء، وقال 23% إنه لا يكفيهم لدفع فواتيرهم.

والواقع أن التفاوت في الدخل والثروات في الولايات المتحدة، والذي هو من بين أعلى المعدلات في العالم، يزداد تفاقما. إذ يستحوذ أعلى 01% من الأمريكيين على 21% من إجمالي الدخول الشخصية، وهو ما يزيد عن ضعف حصة أدنى 50% من الأمريكيين! ويمتلك أعلى 01% من الأمريكيين 35% من إجمالي الثروة الشخصية، في حين يمتلك 10% من الأمريكيين 71%؛ ومع ذلك فإن أدنى 50% من الأمريكيين لا يمتلكون سوى 01% فقط!

إن المستويات المتطرفة من التفاوت، والفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء، والشعور المتزايد بانفصال الساسة في واشنطن عن مشاكل الناس العاديين، تكمن في صلب الوضع الحالي. وهنا نجد التفسير الحقيقي لشعبية دونالد ترامب ونتيجة الانتخابات الحالية.

انهيار الوسط
لا تقتصر هذه الظاهرة على الولايات المتحدة وحدها. إن ما نراه في كل مكان هو انهيار الوسط السياسي، الذي هو الاسمنت الذي يجمع المجتمع معا.

هذا تعبير واضح عن التوتر المتزايد بين الطبقات -الانقسام بين اليسار واليمين- والذي يتعمق طوال الوقت.

ومن المفارقات أن ظاهرة حركة ترامب هي انعكاس لهذه الحقيقة.


تنعكس هذه الظاهرة في الوقت الحاضر في نمو الميول اليمينية الشعبوية الغريبة في مختلف البلدان. لكن قوانين الميكانيكا تخبرنا أن لكل فعل رد فعل معاكس له في الاتجاه ومساو له في المقدار. وسيتم التعبير عن ذلك، مستقبلا، على شكل تحول حاد في اتجاه اليسار.

إن خطر ترامب، من وجهة نظر الطبقة السائدة، هو على وجه التحديد أنه من خلال مناشدته للعمال من أجل تحقيق أهدافه الخاصة، يغذي مزاج التجذر الذي يشكل سابقة خطيرة للمستقبل. وهذا ما يفسر مشاعر الخوف والغضب العميقة التي يظهرونها تجاهه باستمرار.

تعمل الطبقة السائدة بشكل يائس لمنع هذا الاستقطاب، وإعادة تجميع الوسط مجددا. لكن كل الظروف الموضوعية تسير ضد مخططاتها.

الأغنياء والفقراء
قال بيل كلينتون ذات مرة: “إنه الاقتصاد، يا غبي”. وقد كان محقا. ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أن:

“الاقتصاد كان هو القضية الأولى بالنسبة للناخبين، حيث أشار 39% إلى أنه “القضية الأكثر أهمية التي تواجه البلاد […] وقال أكثر من ستة من كل 10 -63%- إن الاقتصاد “ليس جيدا” أو إنه “سيء”. […]

“أشار الناخبون إلى ضغوط محددة، بما في ذلك فواتير البقالة، وسعر المساكن والخوف من الحرب، لكن العديد منهم أشاروا أيضا إلى مخاوف وجودية أكبر بشأن مصير أمريكا”.

خلال الانتخابات السابقة، عندما وقف ترامب ضد هيلاري كلينتون، اعترفت صحيفة الإيكونوميست، التي كانت تدعم كلينتون، بأنه:

“قد تم حمل السيد ترامب إلى منصبه على موجة من الغضب الشعبي. ويرجع هذا جزئيا إلى حقيقة مفادها أن الأمريكيين العاديين لم يستفيدوا من ازدهار بلادهم. والواقع هو أن متوسط ​​دخل العامل ما يزال أقل مما كان عليه في سبعينيات القرن العشرين.

“في السنوات الخمسين الماضية، باستثناء التوسع في تسعينيات القرن العشرين، استغرقت الأسر ذات المرتبة المتوسطة وقتا أطول لاستعادة الدخل المفقود مع كل ركود. والحراك الاجتماعي منخفض للغاية بحيث لا يفي بالوعد بشيء أفضل. ولا تؤدي الزيادات الهزيلة في الأجور إلى تحييد الاحساس بخسارة احترام الذات”.

لم تتغير الأمور بشكل كبير منذ ذلك الحين. والاقتصاد الأمريكي ليس في حالة جيدة. ويتضح هذا من خلال المستويات غير المسبوقة من الديون التي زادت باطراد في ظل إدارة بايدن. وفي الوقت الحاضر، تقدر ديون القطاع العام في أميركا بنحو 35 تريليون دولار، أو نحو 100% من الناتج المحلي الإجمالي.

يزداد المبلغ بمقدار تريليون دولار كل ثلاثة أشهر. ولا يوجد أمامه سوى طريق واحد: وهو الاتجاه إلى أعلى.

هذا مؤشر واضح على أن حتى أقوى وأغنى أمة على وجه الأرض قد تجاوزت حدودها.

إنه وضع غير قابل للاستمرار في نهاية المطاف.

الانعزالية
دونالد ترامب ليس خبيرا اقتصاديا وليس فيلسوفا أو مؤرخا، بل إنه ليس حتى سياسيا، بمعنى امتلاك أيديولوجية واستراتيجية مدروسة. إنه انتهازي في الأساس ومتعصب للنزعة التجريبية بالمعنى الضيق للكلمة.


لكنه يعتبر نفسه تكتيكيا رفيع المستوى، رجلا عمليا يبحث دوما عن حلول عملية قصيرة الأجل لكل مشكلة تنشأ. إنه يبحث دوما عما يسميه “صفقة”.

وهذا يعني أنه يتمتع بعقلية التاجر الصغير الماهر في فن المساومة في الأسواق. وهذه المهارة صالحة بطبيعة الحال ضمن حدود معينة. لكن ما هو صالح في السوق سرعان ما يجد نفسه في ورطة في شبكة العنكبوت المعقدة للسياسة والدبلوماسية العالمية.

إن ميله في الجوهر هو نحو الانعزالية. وهو يعارض أي فكرة قد تدفع أمريكا إلى التورط في تحالفات خارجية من أي نوع، سواء كانت الأمم المتحدة، أو منظمة التجارة العالمية، أو حلف شمال الأطلسي نفسه.

إن سياسته يمكن تلخيصها بسهولة في شعار: “أميركا أولا”. لكن هذا الشعار يعني أن بقية العالم تأتي في المرتبة الأخيرة! وهذا يجلب العديد من المشاكل.

لو كان الأمر بيده، لقطعت أمريكا على الفور جميع روابطها مع تلك المنظمات الغريبة، وكرست نفسها حصريا لشؤونها الخاصة.

لكن ومهما كانت هذه الفكرة جذابة، فإنها مستحيلة تماما في العالم الحديث. فمصير أمريكا مرتبط بشكل لا ينفصم بألف رابط يربطها ببقية الكرة الأرضية.

وهو ما تأكد منه دونالد ترامب بتجربته الخاصة خلال تعاملاته مع كوريا الشمالية.

انفضاح حدود القوة الأمريكية
يعيش الوضع العالمي حالة هائلة من الاضطرابات في العلاقات العالمية. وهذه هي نتيجة الصراع على الهيمنة العالمية بين الولايات المتحدة، البلد الإمبريالي الأكثر قوة في العالم، والذي يعاني من انحدار نسبي، وبين الصين، القوة الصاعدة الأصغر لكن الأكثر دينامية، والتي تصل مع ذلك إلى حدودها.

إننا نشهد تحولات شديدة، وكما هو الحال مع حركة الصفائح التكتونية على قشرة الأرض، فإن مثل هذه التحولات تأتي مصحوبة بانفجارات من جميع الأنواع.

وفضلا عن النظر إلى الوضع الحالي، من المهم للغاية تحليل المسار. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم. لم تكن هناك أية معارضة تقريبا لهيمنتها.

يبدو الوضع مختلفا تماما الآن. لقد غرقت الإمبريالية الأمريكية طيلة 15 عاما في حربين لم يكن من الممكن كسبهما في العراق وأفغانستان، وذلك بتكلفة كبيرة بالنسبة لها من حيث الخسائر المادية والبشرية.

وفي غشت 2021، أُجبرت على الانسحاب المهين من أفغانستان.


أدى ذلك إلى فقدان الشعب الأمريكي لأي رغبة في المغامرات العسكرية الخارجية، وجعل الطبقة السائدة الأمريكية متخوفة للغاية من إرسال قوات برية إلى الخارج. ومع ذلك فإن الإمبريالية الأمريكية لم تتعلم شيئا من التجربة.

فبسبب رفضها الاعتراف بميزان القوى الجديد ومحاولتها الحفاظ على هيمنتها، تورطت في سلسلة كاملة من الصراعات التي لا يمكنها الفوز بها. وقد لعبت إدارة بايدن دورا خطيرا بشكل خاص في هذا الصدد.

إن موقف الولايات المتحدة باعتبارها قوة عالمية لها حضور في كل مكان في العالم، يشكل في حد ذاته مصدر ضعف كبير. فالحاجة إلى الدفاع عن مصالحها على نطاق عالمي تفرض ضغطا هائلا.

لكن إدارة بايدن لم تتعلم أي درس. لقد أغرقت الولايات المتحدة في حرب لا معنى لها مع روسيا بشأن أوكرانيا. تمثل الحرب في أوكرانيا استنزافا هائلا لموارد حتى أغنى بلد في العالم. لقد استنفد مخزون الأسلحة الأمريكي بشدة بسبب مطالب زيلينسكي، والتي تستمر في التزايد حتى مع تدهور الموقف العسكري.

لقد فشلت العقوبات الاقتصادية واسعة النطاق التي فرضتها الإمبريالية الأمريكية ضد روسيا في تحقيق هدفها الرئيسي المتمثل في إضعاف منافستها إلى الحد الذي يجعل من المستحيل عليها مواصلة الحرب في أوكرانيا.

لقد نجحت روسيا في الالتفاف على العقوبات والتغلب عليها، وعقدت سلسلة من التحالفات مع بلدان أخرى، بما في ذلك المملكة العربية السعودية والهند، وغيرهما من البلدان التي كانت في السابق تقيم علاقات وطيدة مع الولايات المتحدة.

بل، وفوق كل شيء، دخلت في تعاون اقتصادي وعسكري أوثق بكثير مع الصين. لقد حقق بايدن العكس تماما مما كان مقصودا. ثم تسبب في إحداث فوضى أكبر في الشرق الأوسط من خلال منح نتنياهو ما يعادل شيكا مفتوحا، يعمل نتنياهو على صرفه منذ ذلك الحين.

ونتيجة لذلك، تندلع صراعات وحروب جديدة طوال الوقت.

إن النصر الروسي في أوكرانيا من شأنه أن يرسل موجات صدمة في جميع أنحاء العالم. إنه يكشف بوضوح عن حدود الإمبريالية الأمريكية، التي لم تعد قادرة على فرض إرادتها.

وعلاوة على ذلك، ستخرج روسيا من تلك الحرب بجيش كبير، تم اختباره في أحدث أساليب وتقنيات الحرب الحديثة. وهذا يسبب موجة من الذعر في الحكومات الأوروبية، التي تشعر بالخوف من أن إدارة ترامب الجديدة ستتخلى عن أوكرانيا، تاركة الأوروبيين لدفع الفاتورة، بل وقد تثير حتى مسألة الانسحاب من حلف شمال الأطلسي.

إن الأزمات والحروب الجديدة تمثل مشكلة غير قابلة للحل، ليس فقط بالنسبة للولايات المتحدة، بل وأيضا بالنسبة لحلفائها الأوروبيين، الذين يجدون أنفسهم جميعا في وضع مماثل. ويبدو من المحتم أن يرغب ترامب في الانسحاب من الفوضى اليائسة في أوكرانيا، والتي يحمل بايدن المسؤولية عنها.

ليس من الواضح ما إذا كان سيأمر بانسحاب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي أم لا، لكن الأكيد هو أنه سيرغب في تمرير فاتورة كل تلك الأشياء إلى “أصدقائه” في لندن وباريس وبرلين، وبالتالي سيعمل على مفاقمة المشاكل العميقة بالفعل للرأسمالية الأوروبية.

تشابهات مع الإمبراطورية الرومانية
هل حان الوقت لكي تدخل الإمبريالية الأمريكية المنحدر الهابط الذي جر الإمبراطورية الرومانية إلى الخراب؟ الوقت كفيل بإخبارنا.


هناك صراع مستمر من أجل إعادة تقسيم العالم بين مختلف القوى الإمبريالية المتنافسة، وخاصة بين الولايات المتحدة، التي هي القوة المهيمنة القديمة، والتي تمر الآن بانحدار نسبي، وبين الصين، التي هي القوة الدينامية الصاعدة الجديدة، التي تتحداها على الساحة العالمية.

من المعروف أن ترامب معاد للصين، التي يعتبرها تشكل أخطر تهديد للولايات المتحدة. ولم يخف نيته في فرض تعريفات جمركية شديدة على الواردات الصينية، وهو ما من شأنه أن يلحق ضررا جديا بنسيج التجارة العالمية، ويهدد الصرح الهش للعولمة، ويدفع الاقتصاد العالمي إلى حافة ركود عميق.

ومع ذلك، فليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كان سيؤيد الحرب مع الصين، التي تشكل قوة هائلة سواء على الصعيد الاقتصادي أو العسكري.

من الممكن كتابة دراسة مثيرة للاهتمام تقارن الأزمة الحالية للإمبريالية الأميركية بانحدار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها.

صحيح أن العديد من العناصر المختلفة كانت مساهمة في ذلك الانحدار الطويل والمخزي. لكن أحد أهم تلك العناصر كان حقيقة أن الإمبراطورية قد استنزفت قواها. لقد تجاوزت حدودها ولم تتمكن من تحمل العبء الهائل المفروض عليها للحفاظ على حكمها الإمبراطوري. وكانت النتيجة النهائية انهيارا كاملا.

وقد كان الانحدار النسبي للإمبريالية الأمريكية واضحا منذ مدة.

خلال السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة تنتج 43% من السلع المصنعة في العالم، و57% من الصلب في العالم، و80% من سيارات العالم.

وقد زادت حصة الولايات المتحدة في التجارة العالمية في السلع المصنعة من 10% في عام 1933 إلى 29% في عام 1953. وبين عامي 1946 و1973، ارتفع الدخل الحقيقي للأسر بنسبة 74%.

انخفضت وظائف القطاع الصناعي، التي شكلت 39% من الوظائف الأمريكية في عام 1943، إلى حوالي 08% بحلول عام 2010. وأشار تقرير صادر عن مكتب إحصاءات العمل في عام 2020 إلى أنه منذ 1979، انخفضت العمالة في القطاع الصناعي “خلال كل من فترات الركود الخمسة، وفي كل تلك الحالات لم تتعاف العمالة تماما إلى مستويات ما قبل الركود”.

وانخفضت عضوية النقابات من ذروة بلغت ثلث القوة العاملة في الخمسينيات، إلى 11% فقط بحلول عام 2016.

وفي كتابهما “الرأسمالية في أمريكا: تاريخ اقتصادي للولايات المتحدة”، يشرح آلان غرينسبان وأدريان وولدريج أنه:

“من عام 1900 إلى عام 1973، نمت الأجور الحقيقية في الولايات المتحدة بمعدل سنوي بلغ حوالي 02٪. وهذا يعني أن متوسط ​​الأجر (وبالتالي متوسط ​​مستوى المعيشة) تضاعف كل 35 عاما. في عام 1973، انتهى هذا الاتجاه وبدأ متوسط ​​الأجور الحقيقية لمن يسميهم مكتب إحصاءات العمل الأمريكي “عمال الإنتاج وغير المشرفين” في الانخفاض. وبحلول منتصف التسعينيات، صار متوسط ​​الأجر الحقيقي بالساعة لعامل الإنتاج أقل من 85% مما كان عليه في عام 1973″.

ويؤكد تقرير مركز بيو للأبحاث لعام 2018 هذا قائلا: “بالنسبة لمعظم العمال في الولايات المتحدة، بالكاد تحركت الأجور الحقيقية على مدى عقود من الزمن”. وكما يوضح تقرير صادر عن وزارة الخزانة في عام 2023:

“انخفضت أيضا القدرة على التنقل الاقتصادي بين الأجيال، حيث حصل 90% من مواليد أربعينيات القرن العشرين على دخل أعلى مما حصل عليه آباؤهم في سن الثلاثين، في حين أن نصف مواليد منتصف الثمانينيات فقط هم من حصلوا على نفس الدخل”.

وهنا نرى العامل الرئيسي الذي يسعر الغضب والاستياء المتفاقمين ضد الطبقة السائدة الأمريكية.

في عام 2019، كانت هناك بالفعل مؤشرات في الأفق على قرب حدوث ركود، لكن ترامب نجح في جعل جائحة كوفيد-19 كبش فداء عندما انهار الاقتصاد.

إن الأعباء التي فرضتها مشاركة أمريكا في الحروب الخارجية، مثل أوكرانيا والشرق الأوسط، تؤدي إلى استنزاف هائل، لا يمكن حتى لأغنى أمة وأكثرها قوة أن تتحمله إلى أجل غير مسمى.

كان الإنفاق العسكري الهائل عاملا مساهما رئيسيا في الديون الهائلة التي تجثم على الاقتصاد الأمريكي. وبالتالي فإن إحجام ترامب الواضح عن التدخل في الشؤون الدولية يحتوي، من وجهة النظر هذه، على منطق معين، على الرغم من أنه يتسبب في تشنجات عصبية في لندن وبرلين وكييف والقدس.

ماذا الآن؟
تشهد الأحداث الأخيرة على حدوث تغير جوهري في نفسية الشعب الأمريكي. كانت جميع مؤسسات الديمقراطية البرجوازية تقوم على افتراض أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء يمكن ردمها واحتواؤها ضمن حدود يمكن التحكم فيها. لكن هذا لم يعد هو الحال.

وهذا هو بالضبط السبب وراء انهيار الوسط السياسي. لم يعد الناس يصدقون ما يقال لهم من قبل الصحف والتلفزيون، فهم يقارنون الفرق الهائل بين ما يقال وما يحدث، ويدركون أنهم يبيعوننا حزمة من الأكاذيب.


لم يكن هذا هو الحال دائما. ففي الماضي، لم يكن معظم الناس يهتمون كثيرا بالسياسة، وهو ما ينطبق على العمال أيضا. كانت المحادثات في أماكن العمل تدور عادة حول كرة القدم والأفلام والبرامج التلفزيونية. ونادرا ما كان يتم ذكر السياسة، باستثناء وقت الانتخابات ربما.

أما الآن فقد تغير كل ذلك. لقد بدأت الجماهير تهتم بالسياسة، لأنهم بدأوا يدركون أن هذا يؤثر بشكل مباشر على حياتهم وحياة أسرهم.

من خلال دعمهم لترامب، يقول الملايين من الناس: “أي شيء وأي شخص أفضل من هذا الوضع. لا يمكننا أن نفعل ما هو أسوء. دعونا نلقي بالنرد!” وهم الآن قد قرروا رمي النرد مرة أخرى. لكن قد تكون هذه هي المرة الأخيرة.

لقد أصبح دونالد ترامب الآن رجلا عجوزا. ومن غير الممكن حسب الدستور أن يترشح مرة أخرى لمنصب الرئيس. ونحن نفترض أنه سيعود إلى البيت الأبيض في يناير 2025. ولا شيء يستطيع أن يوقفه، لا شيء باستثناء رصاصة قاتلة. وهو احتمال لا يمكن استبعاده كليا بالنظر إلى ردود الفعل الهستيرية التي تبديها الطبقة السائدة.

لا يوجد نقص في المواد القابلة للاشتعال في المجتمع الأمريكي. ولا يوجد نقص في الأفراد المضطربين عقليا والمسلحين بأسلحة حديثة فعالة للغاية.

لكن وعلى افتراض أن ترامب سينصب أخيرا رئيسا، فماذا يمكن أن نتوقع؟ سوف يواجه تحديات هائلة في العديد من المجالات: الاقتصاد، والحرب في أوكرانيا والشرق الأوسط، والعلاقات مع الصين وإيران، والعديد من القضايا الأخرى.

عادة ما كان يقدم وعودا كبيرة بشأن جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى. لكنه لا يوجد دليل على أنه سيكون قادرا على الوفاء بأي منها. والعمال الأمريكيون الذين يضعون ثقتهم فيه سوف يجدون أنفسهم محبطين للغاية.

في عام 1940، عندما دخل الجيش الألماني باريس، دارت محادثة شيقة بين ضابط ألماني وضابط فرنسي. كان الضابط الألماني يتبختر غرورا وغطرسة بطبيعة الحال، لكن الضابط الفرنسي قال ببساطة: “لقد دارت عجلة التاريخ. وسوف تدور مرة أخرى”. وهذا ما حدث بالفعل.

إن عجلة التاريخ تدور في الولايات المتحدة، وسوف تدور مرة أخرى. وبمجرد أن تكتشف الجماهير بشكل كامل حقيقة الترامبية وتدرك حدودها، سوف تتجه في مسار مختلف. وسوف يكون الطريق ممهدا لتأرجح هائل للبندول في اتجاه اليسار.

إن فصلا جديدا ومضطربا في التاريخ الأمريكي على وشك أن يُكتب.