الرفيق مازن حنَّا وعائلته.. تحمّلوا القمع وثبتوا على المبدأ
سالم قبيلات
2024 / 11 / 7 - 22:12
نافذة على النِّضال والثَّبات
سالم قبيلات
من خلال هذه النافذة، نلقي نظرة على تجربة نضالية أخرى غنية بالأحداث، لرفيق مميز، طبيب ومثقف يتمتع بعمق الفكر واتساع الرؤية.
انغمس الرفيق مازن حنا، منذ وقت مبكر من حياته، في النضال الطبقي والوطني، عبر انخراطه في صفوف الشيوعيين؛ وظل، طوال حياته، محافظاً على إيمانه العميق بمبادئه، وثباته الراسخ على مواقفه.
وُلد الدكتور مازن حنا في عمان، في العام 1951، في أسرة من أصول فلسطينية من القدس، وعُرفت بميلها إلى التحصيل الدراسي العالي، وثقافتها السياسية، ومواقفها الوطنية المساندة لحركات التحرر الوطني.
وفي مجال الفكر والبحث، صدر له العديد من المؤلفات والكتابات، تناول فيها مواضيع سياسية وفكرية متنوعة. كما أنه مشارك فعال في الكثير من الندوات الحوارية واللقاءات الإعلامية وجلسات التوعية السياسية، وله حضور اجتماعي وفكري بارز.
والده، هو الرفيق سليمان حنا، المولود في العام 1925 في مدينة القدس، وكان يعمل في التدريس، كما كان أحد أعضاء عصبة التحرر الوطني الفلسطيني البارزين. وقد عاش ردحاً من حياته متخفياً، من جراء الملاحقات الأمنية له بسبب نشاطه السياسي في صفوف الحزب الشيوعي الأردني.
وجدير بالذكر أن خالد الذكر الرفيق أبو مازن، اضطر إلى العيش في حياة الاختفاء، مرات عديدة ولسنوات طويلة، من العام 1953 إلى العام 1956، ثم من العام 1958 إلى العام 1961، إلى ان تمكنت السلطات من القبض عليه في العام 1961. حيث أودع في سجن الجفر الصحراوي لغاية العام 1965.
ولاحقاً، بعد احتلال الضفة الغربية، خلال نكسة حزيران في العام 1967، تعرض الرفيق أبو مازن للملاحقة من جيش الاحتلال الإسرائيلي، وسُجن مرة أخرى؛ وفيما بعد، في العام 1968، تم نفيه من القدس إلى عمان.
أما والدة الرفيق مازن، وهي الرفيقة جليس أيوب زينة، فكانت قابلة قانونية، تخرجت في المعهد البريطاني في القدس. وتعد أم مازن من أقدم المعتقلات لأسباب سياسية في الأردن؛ حيث اُعتُقلت لفترة قصيرة في العام 1962 في القدس، ثم وُضعت تحت الإقامة الجبرية لمدة سنتين كاملتين.
وللرفيق مازن شقيق أصغر، هو المهندس والكاتب مهدي حنا، وشقيقتان، هما: عفاف، والدكتورة ميسون حنا، الأديبة الأردنية وعضو رابطة الكتاب الأردنيين ونادي أسرة القلم الثقافي في الزرقاء. وتُعرف بحضورها في حقل الكتابات المسرحية، وكان أحدث إصدار أدبي لها هو كتاب "بكائيات غزة" في العام 2024، وهو مكون من نصوص أدبية تعكس واقع الحال في غزة خلال ملحمة "طوفان الأقصى".
وفيما يتعلق بالظروف الصعبة، التي ميزت سنوات التعليم المدرسي للرفيق مازن، ومعاناته غير النمطية في هذا الشأن، يقول: "درست الصف الأول الابتدائي في مدينة الزرقاء، تحت اسم مستعار، وأخفيت الاسم الحقيقي لي ولعائلتي؛ حيث لم أتمكن من مواصلة التعليم النظامي باسمي الحقيقي، بسبب الخوف من كشف هوية عائلتي المطاردة من الجهات الأمنية، مما اضطرني إلى إكمال صفوف المرحلة الابتدائية في المنزل بمساعدة والدي، الذي كان حينها مطارداً ومختفياً عن الأنظار. وقد استمررتُ في الدراسة الذاتية حتى الصف السادس الابتدائي. وحينما لم يعد هناك ما أخشاه من الكشف عن اسمي الحقيقي، نتيجة اعتقال والدي في العام 1961، تمكنت من الالتحاق بالدراسة النظامية، ولكن بعد اجتيازي امتحانات الصف الخامس الابتدائي بنجاح".
وبعد عام دراسي واحد فقط، وبسبب الملاحقات والمطاردات المستمرة التي كانت جزءاً من حياة العائلة، انتقلت العائلة من مدينة الزرقاء إلى رام الله، حيث أنهى الرفيق مازن الصف الأول الإعدادي في مدارسها. ومن جديد، بعد أقل من عام، انتقلت العائلة إلى مدينة القدس، وهناك أكمل دراسته حتى الصف الثاني الثانوي.
إلا أنه، بعد احتلال "إسرائيل" للقدس في العام 1967، وتصاعد خطر الملاحقة والاعتقال، وبسبب نشاطه السياسي، بالإضافة الى إبعاد والده إلى الأردن، وأسباب أخرى عديدة، انتقل جميع أفراد العائلة إلى عمان. حيث تمكن الرفيق مازن من إكمال المرحلة الثانوية في كلية الحسين في عمان. مما فتح الطريق أمامه لإكمال تعليمه العالي.
وخلال الفترة من العام 1968 إلى العام 1974، درس الطب البشري في جامعات الاتحاد السوفيتي. ثم، بين العامين 1975 و1976، أكمل دبلوم الدراسات الماركسية العليا في موسكو، قبل أن يعود إلى عمان.
انتسب الرفيق مازن إلى الحزب الشيوعي الأردني في العام 1966 في مدينة القدس، خلال فترة شهدت نوعاً من الانفراج السياسي المحدود، على إثر العفو العام عن المعتقلين السياسيين في العام 1965. وقد تركت حالة الانفراج تلك، أثراً إيجابياً على حياة العائلة، التي كانت قد عانت لسنوات طويلة من الملاحقات والإجراءات الأمنية المقيدة للحرية ومن ظروف التخفي الصعبة.
يقول الرفيق مازن: "في العام 1966، كنت طالباً في المدرسة الرشيدية الثانوية في القدس، ومسؤولاً عن التنظيم الطلابي التابع للحزب في المدرسة. وكان تنظيمنا الطلابي في القدس قوياً، ويُعد أكبر تنظيم طلابي في المدينة، حيث كان يضم أعضاءً من مختلف المدارس الحكومية والخاصة، ذكوراً وإناثاً. كما كان لدينا رفاق مدرسون في نفس المدرسة، التي كنت أدرس فيها؛ من بينهم الأستاذ محمود شقير، والأستاذ خليل السواحرة، من الحزب الشيوعي الأردني؛ والأستاذ عمار القاسم، من القوميين. وكان يلي تنظيمنا في العدد والتأثير التنظيم الطلابي لحركة القوميين العرب".
ويتابع، قائلاً: "لقد كانت أهم نشاطات التنظيم الطلابي خلال تلك الفترة، هي الدعوة إلى المظاهرات والاحتجاجات ضد مجزرة بلدة السموع التي ارتكبها الكيان الصهيوني في تشرين الثاني 1966، والتي استهدفت المدنيين ودمرت منازلهم، واعتدت قوات الاحتلال على عناصر الجيش الأردني في البلدة. وكل ذلك حدث، وسط الحديث عن اتفاقية الدفاع العربية المشتركة. وعلى إثر هذه المظاهرات، تم اعتقالي مع سبعة طلاب آخرين، لمدة يومين، في أحد مخافر القدس."
ويبين الرفيق مازن، قائلاً: "بعد الاحتلال الإسرائيلي للقدس في عام 1967، بدأ التنظيم الطلابي التحضير لفكرة إضراب شامل عن الدراسة، ولكن مسؤول التنظيم الحزبي في ذلك الوقت، الرفيق نعيم الأشهب، لم يوافق عليها، معتبراً أن المتضرر الأساسي من ذلك سيكون الطلاب فقط، خاصة أن المدارس لم تكمل العام الدراسي السابق، بسبب الاحتلال، كما أنه لن يكون للإضراب تأثير فاعل على سياسة الاحتلال، بحسب وجهة نظره".
ويتابع الرفيق مازن، قائلاً: "لذا، تحوّل التنظيم الحزبي نحو توعية السكان فكرياً وسياسياً ضد الاحتلال. وخلال هذه الفترة، عملت مع المناضل الرفيق نبيل قبلاني، الذي كان يدعو إلى الكفاح المسلح، وكنت من المؤيدين لهذا التوجه. ولاحقاً، اعتقل الرفيق نبيل من قبل جيش الاحتلال، وفي نفس الفترة تم استدعائي للتحقيق، لكنني قررت عدم الاستجابة، وفضلت الاختفاء عن الأنظار، إلى أن تمكنت من السفر إلى عمان، لإكمال دراستي الثانوية".
ويكمل، قائلاً: "خلال دراستي الجامعية في الاتحاد السوفيتي، كنت المسؤول الحزبي للطلبة الشيوعيين في الاتحاد العام لطلبة فلسطين، وشاركت في نشاطات تنظيمية داخل منظمات الشباب والطلاب. وبعد عودتي الى الأردن، التحقت بتنظيم الحزب في مدينة الزرقاء كعضو لجنة منطقة، وكنت ناشطاً نقابياً في نقابة الأطباء، وعضواً في اللجنة التنفيذية للاتحاد الوطني لطلبة الأردن، وشاركت في هيئتي تحرير مجلتي (طريقنا) الطلابية، و(الحقيقة) النظرية، الصادرتين عن الحزب الشيوعي الأردني".
ويُذكر للرفيق مازن، أنه عمل، بدأب ونشاط، في صفوف المنظمات الحزبية التي كان عضواً فيها، أو كان مسؤولاً عنها. وكان محطاً للاحترام والمحبة من الرفاق في تلك المنظمات الحزبية، لإخلاصه، وتفانيه، وتفهمه لمشاكلهم، وبسبب نشاطه المثابر، وإنجازاته على صعيد تفعيل عمل المنظمات الحزبية.
وبحسه الوطني والطبقي الأصيل، تراكمت لديه النقمة الثورية على منظومة استغلال الإنسان للإنسان، فخاض غمار النشاط الفكري والنشاط النقابي. وكثيراً ما تعرض للنقد والمضايقة، بسبب نشاطاته السياسية والفكرية في صفوف الشيوعيين.
انتُخِبَ الرفيق مازن، في العام 1982، عضواً مرشحاً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأردني، وفي العام 1986، أصبح عضواً كامل العضويَّة في اللجنة.
ويستدرك الرفيق مازن: "ولكن، بعد عام واحد، تم التراجع عن قرار الترقية، بسبب مواقفي المستقلة في الاجتماعات المتعلقة بالخلافات الحزبية. ثم، في العام 1990، عُرض عليَّ الانضمام إلى المكتب السياسي للحزب، فرفضت."
وفي العام 1997، كان الرفيق مازن حنا، أحد مؤسسي حزب الشغيلة الأردني، الذي نشأ على إثر الخلافات السياسية والتنظيمية مع قيادة الحزب الشيوعي الأردني. إذ اعتبر المؤسسون أن قيادة الحزب الشيوعي، قد اتخذت توجهات سياسية انحرفت فيها عن مسيرة الحزب وتاريخه النضالي، مما جعل من الصعب الاستمرار في العمل معها، ضمن الإطار التنظيمي ذاته.
وبحسب وثائقه، اعتبر حزب الشغيلة نفسه امتداداً لنضال الشيوعيين الأردنيين، وتاريخهم الكفاحي، واستمراراً للعمل التنظيمي للحزب الشيوعي الأردني، الذي بدأ في العام 1951 وتواصل حتى العام 1998، وهو العام الذي شهد انعقاد المؤتمر الاستثنائي لحزب الشغيلة.
وقد مثّل هذا المؤتمر تدشيناً لحزب الشغيلة الأردني؛ وفيه، تم انتخاب الدكتور مازن حنا أميناً عاماً للحزب. ولكن بعد عشر سنوات من تأسيسه، عاد حزب الشغيلة الأردني في آذار 2006 ليتوحد من جديد مع الحزب الشيوعي الأردني.
بعد الوحدة الجديدة، أصبح الرفيق مازن نائب الأمين العام للحزب الشيوعي الأردني؛ ولكن، وفقًا له، كان هذا المنصب شكلياً، من دون صلاحيات حقيقية، كما لم يكن هناك توافق وانسجام بين أعضاء القيادة حول المسائل الأساسية.
وفي العام 2010، ما لبث الرفيق مازن أن انسحب من التنظيم الحزبي مع مجموعة من الرفاق، وشكلوا ما عُرف بـ"تجمع الشيوعيين الأردنيين"، "على أمل تحقيق وحدة جديدة، بقيادة جديدة من الشيوعيين، عمادها الجيل الجديد. وتبنى هذا التجمع برنامجاً سياسياً ونضالياً ثورياً، وشكل تنظيماً حزبياً يستوعب آراء جميع الرفاق المنضوين فيه."
لقد أمضى الرفيق مازن معظم سنوات شبابه، مُناضلاً متفانياً في صفوف الحزب الشيوعي الأردني، مُنحازاً لمصالح الطبقة الكادحة، وعموم الشغيلة والفئات الشعبية الفقيرة، ومُدافعًا عن الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية للشعوب المستغلة والمضطهدة. كما كان من المُدافعين الثابتين عن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وعلى رأسها حق العودة، والتحرير، تقرير المصير. وسعى، بلا كلل، إلى تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وصولًا إلى تحقيق الاشتراكية.
وقد أثبتت التجربة الغنية للرفيق مازن، أن الشيوعي الحقيقي هو الصادق في مواقفه، والمتمسك بمبادئه، والذي يحترم رفاقه كما يحترم نفسه، والمخلص لمصالح الطبقة العاملة والفئات الشعبية في بلاده، المسترشد بالفكر الثوري؛ الفكر الماركسي اللينيني؛ والذي يعمل على تطوير معارفه وثقافته، ويقوّي عزيمة رفاقه.
ونختتم بتوجيه تحية خالصة إلى الرفيق مازن حنّا وعائلته، العائلة الشيوعية المُناضلة، على تضحياتهم، وعلى الشجاعة التي تحلّوا بها خلال الفترات الصعبة في حياة الشيوعيين. فقد تحملوا كل أنواع الممارسات القمعية بثبات، واستمروا بالتزامهم الشيوعي الثوري، ورفدوا النضال الجماهيري اليومي للحزب بكل ما لديهم من وعي وتصميم، وشاركوا رفاقهم في الدفاع عن مصالح الفئات الفقيرة، وفي حمل المشروع الوطني المُناهض للتبعية السياسية والاقتصادية للمراكز الرأسمالية.