عبد الحسين شعبان: مفكّر مجدّد ومتجدّد
شيرزاد النجار
2024 / 10 / 14 - 13:38
البروفيسور د. شيرزاد النجار
مفكر كردي وأستاذ العلوم السياسية ورئيس جامعة كردستان سابقًا
الكلمة الافتتاحية التي ألقاها د. شيرزاد النجار كتقديم لمحاضرة المفكر العربي المعروف د. عبد الحسين شعبان في أربيل، وهي بعنوان "نحو ويستفاليا مشرقية"، والتي سبقت أن نشرت ملخصًا عنها صحيفة الوطن الجديد في 13 تشرين الأول / أكتوبر 2024.
أيها الحفل الكريم!
بعد صداقة ومودّة ومحبّة تمتد لنصف قرن مضى، أتساءل كيف ليّ أن أكتب عن صديق العمر المفكر الدكتور عبدالحسين شعبان ومن أين أبدأ وكيف أساهم في هذه الاحتفالية التكريمية؟
أعتقد أنه من الأفضل تقديم لمحة عن أفكاره المتّسمة بالجرأة والنقد الموضوعي وبعض الإضاءات الفكرية السريعة، حيث أن المفكر شعبان، إنطلاقاً من أرضية فكرية عميقة تبدأ من بيئته العائلية مروراً بالحياة الجامعية ووصولاً إلى الفكر الماركسي، أطل على عالم الفكر باحثاً ومراجعاً ومجدداً وناقداً ومفككاً للافكار لأجل إعادة الترتيب والتركيب لتلك الأفكار .
(I)
البيئة والوعي الأولي
أول تساؤل مهم يتبادر إلى الذهن هو: من أين بدأ المفكر شعبان وعيه الأولي وانفتاحه للحياة؟
يجيب بنفسه على التساؤل ويقول: بدأ الوعي الأول ينفتح في أجواء العائلة ومحيطها، وكانت هذه الأجواء شيوعية ويسارية وثقافية وأدبية... وهذه البيئة دفعته مبكّراً للعمل السياسي الذي كان، بحكم صغر سنّه، يجهل دروبه الوعرة وبنائه الفكري المعقّد، المتمثل بالفلسفة الماركسية،
وهكذا وجد عبدالحسين شعبان نفسه وهو ينخرط في العمل الجماهيري ويشارك في المظاهرات ويلقي أشعاراً وهتافات ثورية معبّراً فيها عن آلام الشعب ومعاناته ومطالبه بـ"إسقاط النظام"، وهكذا تكّونت له هوية خاصة هي الهوية الماركسية.
(II)
الحياة الجامعية
كنّا من الجيل العراقي الجديد الذي أنهى توّاً الدراســــــــــة الإعدادية 1963- 1964 ، وتمّ قبولنا في جامعة بغداد. وفي أول أيام الدراسة الجامعية في كلية الإقتصاد والعلوم السياسية- قسم العلوم السياسية (هذه الكلية كانت تقبل فقط أعلى درجات التخرج من الإعدادية) لم يكن الإندماج بهذه الحياة الجامعية الجديدة ” سهلاً “، حيث جئنا من مدينة أربيل التاريخية العريقة ذات الطابع المحافظ والديني مع وجود نشاطات وحركات تميل إلى الصبغة اليسارية والوطنية والقومية، وواجهنا مجتمعاً منفتحاً حراً وغير متعصّب، واختلطنا مع طلبة أكثرهم من بغداد العاصمة الجميلة الجذابة الراقية وكذلك من مدن عراقية أخرى، سواءً في الوسط أو الجنوب أو الشمال وكان من ضمنهم الطالب النجفي عبدالحسين شعبان، وطلاب من اليمن والجزائر وفلسطين والأردن. ومن هذا الزمن بدأ شعبان يهتم بالقضية الفلسطينية وأقام علاقات قوية مع الطلبة الفلسطينين في الجامعة وخارجها.وساعده هنا المعرفة السياسية التي كنا نتلقاها في المحاضرات والتي كانت تُلقى علينا من قِبل أساتذة أجلاء مقتدرين وعن طريق هؤلاء الكبار( الذين درسوا وتخرجوا من جامعات مرموقة في فرنسا، بريطانيا وأمريكا) انفتحت عقولنا على عالم جديد من الأفكار والاتجاهات والتحليلات وزرعت لدينا الشجاعة في قول ما نفكر به بطريقة علمية ومنهجية. كل ما كان يُذكر في المحاضرات جديداً ومثيراً ومحركاً للعقل، تعلمنا كيف نناقش ونطرح آراءنا، ونتقبّل وجهات نظر الآخرين تدريجيّاً.
وفي ربيع عام 1967 جرت ولأول مرة في تأريخ العراق إنتخابات طلابية في الجامعة حيث لعب المفكر شعبان دوراً محورياً فيها كممثل للتيار الوطني التقدمي المتمثل في اتحاد الطلبة العام.
(III)
المفكر شعبان والقضية الفلسطينية
إرتبطت القضية الفلسطينية بالثقافة العربية إرتباطاً عضوياً ، وأن الفكر التقدمي العربي كجزء من الفكر التقدمي الإنسااني العالمي جعل من فلسطين والقضية الفلسطينية جوهر ومحور أعماله ونشاطه.
المفكر شعبان لم يكن إستثناءً من هذا الإرتباط، ولاحظنا هذه الحالة منذ أن كنا معاً في المرحلة الجامعية حيث كان معنا العديد من الطلبة الفلسطينين وإختلطنا معهم وبدأت ملامح التضامن مع القضية الفلسطينية ومع المنطمات الطلابية الفلسطينية في جامعة بغداد (الجامعة الرسمية الوحيدة في العراق آنذاك).
كان المفكر شعبان يرى أن الإنسان الفلسطيني هو النموذج الأممي للإضطهاد على المستوى الكوني، لاسيما أنه قد أُقتلع من أرضه وصودر حقه الإنساني الأول في تقرير مصيره، جماعياً وفردياً، وذلك بإلغاء كيانيته في أكبر عملية سطو على التأريخ، لذا كان ومايزال د.شعبان مع حقوق الشعب العربي الفلسطيني العادلة والمشروعة وغير قابلة للتصرف، ولاسيما مع مبدأ حق تقرير المصير. وعليه فهو منحاز مع قضية فلسطين وحقوق الشعب العربي الفلسطيني.
(IV)
المفكر شعبان والقضية الكردية
تطورت نظرة معظم القوى السياسية العراقية نحو القضية الكردية، لكن الاختلاف بينها ما زال قائما ويتعاظم أحيانا خصوصاً بتعاظم دور الكرد وبعض النزعات التي برزت على السطح بعد الاحتلال الأميركي البريطاني للعراق حول مضمون هذه الحقوق وحدودها ومستقبلها فضلاً عن اختلاف زاوية النظر إليها بما فيها ما يتعلق بوحدة العراق أرضا وشعباً.
في رأي المفكر شعبان أن المعالجة السليمة للقضية الكردية تحتاج إلى نقاشات علنية وصريحة وواسعة وإلى توفير اقتناعات مشتركة وعامة في ظل ضمانات قانونية ومشروعة لتطور العلاقات العربية الكردية في عراق دستوري موحد.
من الضروري إيجاد صياغات دستورية مقبولة فيما يتعلق بالعلاقات بين عرب العراق وكرده لتأسيس علاقات على نحو تعاقدي وفقا لعقد سياسي اجتماعي
وتثير "الضمانات" التي وردت في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية 2004 وفي الدستور العراقي 2005 الكثير من الإشكاليات والتداعيات وربما ستثير المزيد منها في المستقبل، مما يقتضي البحث عن صياغات مقبولة فيما يتعلق بهذه الضمانات أو بغيرها لتأسيس العلاقات والاتحاد الطوعي على نحو تعاقدي وفقا لعقد سياسي اجتماعي جديد وليس بنصوص مشوشة.
يضاف إلى ذلك أن صدور الدستور في وقت وقوع العراق تحت الاحتلال بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1443 الصادر في 22 مايو/أيار 2003 أو القرارات التي تبعته يجعل تلك الضمانات غير مضمونة، فضلا عن إمكانية الطعن فيها من الناحية القانونية والسياسية، ولذلك وعلى صعيد الوضع المستقبلي اقتضى الأمر البحث عن ضمانات دستورية لتأمين الشراكة العربية الكردية مع بقية الأقليات وفي ظل أوضاع سليمة وبعيدة عن التداخلات الخارجية التي تجرح السيادة الوطنية العراقية وتعوّمها.
يؤكد د.شعبان، إن هناك تحديات وتهديدات ومخاوف تعترض طريق العلاقات العربية الكردية ليس على صعيد الوضع الداخلي العراقي فحسب، بل على الصعيد العربي والإقليمي وكذلك على الصعيد الدولي أهمها:
محاولة عزل الكرد عن المحيط العربي وإضعاف ما هو مشترك وإيجابي في تاريخ العلاقات وتقديم ما هو خلافي وإشكالي. وأن بعض القوى الخارجية والإقليمية التي ظلّت تعزف على هذا الإيقاع لأسباب مصلحيه تعود إلى رغبتها في تأمين مصالحها السياسية، التي قد تكون على حساب الكرد والعرب بل إن الوقائع في السابق والحاضر تقودنا إلى القول إن تلك القوى لم تكن بعيدة عن إثارة وتعميق النعرات وتضخيم نقاط الاحتقان والتوتر.
ويضيف: إن هناك مساعي حثيثة لعزل العرب عن الكرد واتهام الكرد باعتبارهم أحد المسؤولين عن الاحتلال خصوصا أن الحركة الكردية تعاملت مع نتائجه.
إن ما يربط الكرد بالعرب سيكون بالتأكيد أكثر بكثير مما يربطهم بالولايات المتحدة، حتى وإن بدت الصورة الحالية غير ذلك، لكنها ستكون بلا أدنى شك مؤقتة وآنيّة وطارئة، بل إنها لا تعكس حقيقة العلاقات بين الشعبين رغم بعض المشكلات. ولا يمكن استبدال العرب بشعب آخر كما لا يمكن استبدال الكرد بشعب آخر، ولهذا اقتضى الأمر التعايش والتفاهم والبحث عن المشترك الإنساني، ومثل هذا الأمر يشمل علاقة الكرد بالفرس وعلاقتهم بالأتراك وغيرهم.
وحول تحديات تخص العرب والكرد، يؤكد د.شعبان، فإن التحدي الدولي هو التحدي الأول، خصوصا استمرار الوضع العراقي كما هو عليه من وجود قوات محتلة أو متعددة الجنسيات وانفلات أمني وعنف مستمر وغياب مرجعية الدولة وضعف مفهوم ومبدأ المواطنة والقسمة الإثنية الطائفية. أما التحدي الثاني فهو التحدي الإقليمي الذي هو إحدى التحديات التي تعيق تطوّر الوضع العراقي بشكل سليم وبحكم التأثير والامتداد الإقليمي، والضغط على بعض القوى الداخلية لاستحقاقات إقليمية بما يعكر الوحدة الوطنية خصوصا بعض دول الجوار مثل تركيا وإيران. التحدي الثالث من أهم التحديات هو التحدي الداخلي(الوطني)، فإذا كانت الحرية مقدمة للديمقراطية فإن المواطنة هي التحدي الأول للدولة القانونية، ومن دون مواطنة كاملة وتناوبية وتداولية لا يمكن تحقيق التعددية وضمان حق المواطن في الانتخاب الحر واختيار الحاكم، وفي ذلك إحدى ضمانات حقوق الإنسان.
ويحتاج الأمر إلى قدر من العقلانية في التعاطي مع تركة الماضي البغيض وإلى قدر من التسامح لتجاوز هذا الماضي, مع ضرورة إنصاف الضحايا أو عوائلهم في حالة وفاتهم وإدانة المرتكبين وكشف الحقيقة كما هي في الماضي والحاضر لكي لا تتكرر المآسي والآلام، وفي ذلك خطوة مهمة لسيادة مفاهيم حقوق الإنسان. ولكن قبل الحديث عن الديمقراطية وآلياتها لا بدّ من بناء الدولة، إذ لا ديمقراطية دون وجود دولة لها هيبتها وسلطتها ووحدتها.
وعليه ، يرى د.شعبان أنه ينبغي الاعتراف على قدر المساواة بحق القوميتين العربية والكردية في الاتحاد الاختياري في العراق على أساس الشراكة ومراعاة المناطق الجغرافية.
وكتطبيق لأفكاره ، نظم د.شعبان العديد من المؤتمرات والندوات ومن أهمها
تنظيم أول حوار عربي – كردي 1992، وتنظيم حوارات تونس وحوارات بيروت وعمان حول الحوار العربي- الكردي وحول حوار الأمم الأربع الذي رعاه سمو الأمير الحسن بن طلال .
وكتب شعبان أول نص في إطار المعارضة العراقية عام 1992 ثبّت فيه حق تقرير المصير، الأمر الذي أثار العديد من الاحتجاجات في بداية الامر، لكن النص جرى تبنيه واعتماده كإطار نظري عام، وكانت هذه المرة الاولى التي تصدر فيها وثيقة سياسية عراقية.
وأشار عبدالحسين شعبان الى أن "وجود كوردستان قوية وعراق ضعيف سيكون العراق بأكمله ضعيفاً، ووجود كوردستان ضعيفة وعراق قوي سيكون العراق ضعيفاً أيضاً، لذلك نحن بحاجة الى إقليم قوي بكافة حقوقه ونحتاج الى دولة عراقية فيدرالية قوية لها حقوقهاأيضاً، هنا يمكن حل كافة القضايا العالقة بين إقليم كوردستان والحكومة الاتحادية، على اساس المواطنة والهوية وكذلك على اساس طبيعة النظام الاتحادي الذي تأسس عام 2003، على الرغم من تحفظاته عليه.
وفي الختام أتمنى للمفكر شعبان دوام الصحة ومزيداً من التألق في عالم الفكر.