نَقْد الزَّعِيم والزَّعَامِيَة
عبد الرحمان النوضة
2024 / 9 / 30 - 14:59
[ إِشْـعَار : هذا الـمقال (نـقد الزّعيم والزّعامية) هو فَصْل مَأخوذ من كـتاب لِـ رحمان النوضة. وعُنوان الكـتاب هو : "كَيْف؟" (في فُنُون النضال السِيّاسي الثَّوْرِي). وحَـرَّر رحمان النوضة هذا النَصُّ، في شهر ماي 1981، في السِّجن الـمركزي بِـمَدينة الـقُنَيْطِرَة في الـمَغْرب، إِبَّان الاعـتــقال السياسي للكاتب. حيث كان الكَـاتب مَـحْـكُومًا بِالسِّجْن الـمُـؤَبَّـــد. وَقَـضَـى الكاتب قُـرَابَـة 18 سنة في الاعتــقال السيّاسي ].
فَـــهْـــرَس هــذا الـــمَـــقَـــال
1. مُبرّرات الزعامية ونـتائجها............................ 3
2. الزّعامية هي أعلى مُستوى في الـفَردانية.............. 5
3. الزَّعَامِيَّة تَتَنَاقَضُ مَع جَدَلِيَّة الطَّبِيعَة................... 6
4. بَعد مَوت الزَّعِيم، تَتَرَسَّخ الأزمة....................... 7
5. تَتَنَاقَضُ الزَّعامية مع الدِّيمقراطية التَّشَارُكِيّة.......... 8
6. التـفوّق لدى الأفراد قائم، ومتـفاوت، ومُتَغَيّر.......... 10
7. الطَّـلِيعِيَّة هي أيضًا دَوْر مُتَغَيّر......................... 11
8. يُمكن للزّعيم أيضًا أن يَتحوّل إلى نَقِـيضِه............. 13
9. التَـكَامُل والتَـنَاقُض بَين الـفَرْد والجَماعة.............. 13
10. مِنَ الزَّعِيم المُحَرِّر إلى الزّعيم الـمُسْتَبِد............. 15
11. الْاِنْطِلَاق مِنْ الشّعب، بِهَدف العَوْدَة إليه............. 16
12. ما هو البَدِيل عَن الزَّعِيم ؟............................ 17
تُوجد عِدَّة ظَوَاهِر سيّاسية تَـقدر على المُساهمة في تحويل زَعِيم، أو حِزب، أو دَولة، أو نِظام سياسي، إلى نَـقـيضه. ومن بين هذه الظّواهر، نجد الْإِفْرَاط في الزَّعَامِيَّة.
وأُذَكّر بحالات الزَّعَامَة البارزة التالية : 1) زَعَامِيَّة يوسف اسطالين، التي ساهمت في تحويل نظام اتحاد الجمهوريات الاشتـراكية السوفيتية إلى نظام استبدادي. وقد جرّته الحاجة إلى صِيّانة زَعامته إلى قَمع، أو سِجن، أو قتل، مُعارضين سياسيين يُعَدّون بالملايين. وفي عهد ميخائيل غورباتشوف، إنهار هذا النظام من تِلْقاء نفسه. 2) زعامية كِيم إِيل سُون، في كوريا الشمالية، التي ساهمت في تحويل نظامه «الاشتراكي» إلى استبداد، ثم إلى «مَلَكِيَّة» وراثية وفقيرة. 3) زعامية بول بوط، في كامبوديا، التي ساهمت في تحويل نظام سياسي يطمح إلى الإشتـراكية، إلى نظام يـقتل جزءا هاما من شعبه. 4) زعامية فيديل كاستـرو، في كوبا المُحاصرة، التي ساهمت في دفعه إلى التشبّث بالبقاء في السلطة أكثر من خمسين سنة متوالية. وقد صار غير قادر على إصلاح نظامه السياسي. 5) زَعَامِيَة المَلِك المُستبد الحسن الثاني في المغرب، التي ساهمت في استلابه (aliénation)، وفي تحوّله إلى دكتاتور عديم الشفـقة، يُسَخّر الدولة والمجتمع والشعب لخدمة مَلَكِيَّتِه المُستبدة، ويُمارس إرهاب الدّولة ضدّ الشّعب، لإرضاء كِبْرِيَائِه ونَزَوَاتِه الشّخصية. 6) زعامية مُعَمّر الـقدافي في ليبيا التي قادته إلى تهميش كلّ مُعارضيه، وإلى فرض سيطرة أبـنائه وقبيلته، وإلى حرمان الشّعب من أية أنشطة سياسية، أو اقتصادية، أو ثـقافية، تُخالـفه في الذّوق، أو في الرّأي. وتُوجد كذلك أمثلة لزعامات أخرى عبر العالم، كثيرة جدا، ومتـفاوتة في أنواعها، وفي درجاتها، وفي نتائجها.
1. مُبرّرات الزعامية ونـتائجها
يرى الناس عادة أن العمل بأسلوب الزَّعَامِيَة ، أي الخضوع لرغبات الزّعيم ، يُسَهّل تـدبير الأشياء. لأنهم يعتبرون هذا الأسلوب طبيعي وجَيّد. حيث تتمركز سلطات تـقريرية، أو قـيادية، بين يدي زَعيم، واحد، معروف، موثوق فيه، زيادةً على أنه يحظى بِخِصَال مَحمودة. هكذا تظهر الأمور، على الأقل على مستوى الرُّؤية الأولية. لكن التحليل المُعَمّق يمكن أن يُبَيّن أن أسلوب الزعاميّة يخلـق من المشاكل أكثر مِمّا يَحُلّ. وذلك سواء على مستوى الدّولة، أم الحزب، أم أية جماعة مجتمعية أخرى.
وفيما يلي، سنُركّز على دراسة الزّعامية في حالة الحزب (مع العِلم أن دينامكية الزَّعامية تـعمل بآليات مُمَاثلة نسبيا في الحالات الأخرى، مثل حالة الـقَبيلة، أو الطّائـفة، أو الجَماعة، أو الجَمعية، أو المُقاولة، أو الدّولة، أو النِّظام السياسي، إلى آخره).
وللإحاطة بمجمل المشاكل التي تطرحها مهمة بـناء تـنظيم سياسي، أو حزب، يطمح إلى أن يكون مناضلا، ثوريا، مكافحا، صامدا، ومُتجذّرا في العُمّال، وفي الـفَلَّاحين، لا بُدّ من تـناول مشكل الزَّعِيم أو الزَّعَامِيَة.
وتجاهل هذا المشكل، أو السّكوت عنه، يمكن أن يعني وجود إقرار باستـعمال الزَّعامية، أو يمكن أن يُسَهّل اللجوء إلى العمل بها مستقبلا.
الـقَبُول بالزّعيم، أو العمل بالزّعامية، يفتـرض تَضخيم دَوْر فَرْد مُحدد، هو الزّعيم. ويعني، مُقابل ذلك، تَصْغِير دَوْر القَـواعد، أو تـقليل أهميّة دَوْر الجماهير، أو احتـقار دور الشّعب.
ويفتـرض كذلك الـقبول بالزّعيم، أن صاحب الأفكار الصّحيحة هو الزّعيم وحده. وأن مَنـبع الأفكار السّديدة هي الـفِطْرية المُتوفّرة في الزّعيم. وأن الزّعيم يتـفوق بشكل طَبْعِي على كل جماهير الشّعب، وبطريـقة خارقة للعادة، في مجالات الجُرأة، أو الشّجاعة، أو الحَيوية، أو الذّكاء، أو المُبادرة، إلى آخره.
ويَفْتَرِض أن الخِصال المُمْتازة التي تتوفّر في الزّعيم هي ظاهرة طبيعيّة، أو استثنائية. كما يفتـرض أن هذه الخِصال الجَيّدة، المتوفّرة في الزّعيم، لا يمكن أن تَتوفّر لدى بَقِـيَّة أفراد الشّعب.
والناس الذين يحتاجون إلى زعيم، يَـكونون، في غالب الحالات، يـفتـقرون إلى المعرفة العلمية، أو إلى التّجربة، أو إلى الخِبرة. أو قد يَنْقُصُهم المَنهج المُوَجّه للعمل. أو قد يكونوا من نَوع المُواطنين الذين يَنـفرون من بَذل أيّ مجهود هام. وقد يـفتـقدون إلى الثِّـقَة الكافية في أنـفسهم.
كما أن الأفراد الذين يريدون القـيّام بدور الزّعيم، أو يـقبلون بالخضوع له، يمكن أن يكونوا فَرْدَانِيّين، أو أنانيّـين، أو ذَوي طُموح ذاتي. وقد يكونوا قليلي التواضع، أو جاهلين لِـقُدرات الجماهير. كما يمكن أن يحتـقروا الإمكانيّات المُتَوَفِّرَة لدى غيرهم من المُواطنين.
و في غالب الحالات، يُعبّر وُجُود زَعيم في تـنظيم سياسي، عن وجود بعض الانحرافات السياسية فيه. أو قد يعني بداية نُموّ هذه الانحرافات داخله.
2. الزّعامية هي أعلى مُستوى في الـفَردانية
وليس غريبًا أن نجد عددا هامًّا من المُناضلين الثّوريِّين، يَطمحون لكي يُصبحوا زُعماء ثوريّين في حزب كبير. وليس غريبًا أنهم يطمحون، على الأقل، إلى أن يكونوا ضمن الحاشية المُقَرَّبَة من الزّعيم. وقد نُصادف بعض المناضلين الذين يتصرّفون، سواءً بشكل واع أم غير واع، على أساس هذا الطموح. ويعتبرونه هدفًا طبيعيا، أو مشروعا، مثلما هو مشروع أن يَطمح كلّ طفل في المجتمع إلى أن يصبح رئيسًا للبلاد، أو النّجم الأول في عالم الـفن، أو عبقريًا في ميدان العُلوم، أو أقـوى الأبطال الرياضيين، إلى آخره. ومثل هذه الطُموحات الـفَرْدَانِيَّة، هي عميـقة، وقديمة في تاريخ المجتمع.
ومع نُمو الرّأسمالية، إزداد إنـتشار الـفَرْدَانِيَة، وتَراجع دَور الجماعة، واضْمَحَلّ التَـعَاضُد المُجتمعي، وَتَـقَلَّص الإيمان بالدّور الحَاسم الكَامِن في الجَماعة، وتـعمّق البَحث المُتواصل على أقـوى، وأكبر، وأغنى، وأحسن الصِّفَات الفَردية.
وأساس هذا الطُموح لِلزّعامية هو اعتـقاد الـفَرد المَعني أنه مُتـفوّق على كلّ مواطنيه، أو أنّه هو مَركز الكَوْن، أو أنه هو صَانـع التّاريخ. والمُرَشّح للزّعامة يَطمح عادةً إلى تحقـيق ذَاتِه أكثر مِمّا يَطمح إلى خِدمة جَماعته أو شَعبه.
بينما في الواقع، لا يستطيع أيّ فَرد أن يُوجَد، ولا أن يَـكتسب أيّ مَعنى، ولا أيّة قُدرة، خَارج التَشْكِيلَة المُجتمعية التي يَعيش داخلها. وصَانـع التّاريخ، ليس هو الـفَرد، مَهما كان. وإنما صَانـع التّاريخ هو الجَماهير، هو الشَّعب، هو المُجتمع، هو الطَّبقات والـفِئَات الطَّبقـية الثَّوْرِيَة، في صِراعها مع نَـقـيضها الذي يتـكوّن من الطَّبقات أو الـفِئات المُسَيطرة، أو المُسْتَـغِلّة، أو المُضطهِدة.
3. الزَّعَامِيَّة تَتَنَاقَضُ مَع جَدَلِيَّة الطَّبِيعَة
عندما يُحاول عادة المُناضلون الثَّوريون الإطّلاع على تَجارب ثَورية رَائدة، (مثل تَجارب ثَورات رُوسيا في 1917، أو الصين في 1949، أو فتـنام في 1972، خلال الـقرن العشرين الميلادي، أو غيرها)، فإنهم يَتأثّرون بكون الوَثائق التي يَدرسون من خلالها هذه الثَّورات تُقِيم تَطَابُقًا بين الحِزب وَزَعِيمه. وفي هذه الوثائق، يوجد في غالب الحالات تَضخيم مُبالغ فيه لِدَور الزَّعِيم. بل إن هذه الوثائق تـنسُب الـفَضل في أهمّ الإنجازات إلى الزَّعيم وَحده. وبالمُقابل، تلجأ هذه الوَثائق إلى تَصوير الشّعب أو الحِزب، وَكَأنّه عِبارة عن كُثْلة من الأنصار، أو مَجموعة من الأتباع، أو قَطيع من الأغنام، يَرعاه رَاع. وهذا الرّاع هو الزّعيم. فَمَن هو المُواطن الذي لم يَحلم يومًا ما بالحُصول على عَصَى الرَّاعي، أو على عَصى رئيس الأُورْكِسْتـرا، أو على صَوْلَجَان المَلِك ؟
ونلاحظ أن الزّعيم يتحوّل، في غالب الحالات، إلى زَعيم على مَدى الحياة ، وذلك رغم أن مَواقفه، أو مُمارساته، تَتطور وتتـغَيّر مع مُرور الزّمان. حيث لا تَظلّ دائمًا مُمتازة، وإنّما تَـعلو وَتَهبط، تَتحسّن وَتَـفسد.
ويُصاحب وجود الزّعيم، ظهور نَوع من الانـتظارية، أو من الإتِّكَالِيّة على هذا الزّعيم، لَدى قَواعد الحِزب، أو لدى الجماهير التي تُؤمن بزعامته. فَيَـعْتَمِد عليه أتباعه لكي يُبَلوِر لَهم الأفكار، والخُطط، ولكي يَسهر على حُسن إنجاز البَرامج، ولكي يُقـيم فرزًا ثَاقِبًا بين الأشخاص المَقبولين والأشخاص المَنـبوذين، بين الصّالحين والـفَاسدين، إلى آخره.
وفي علاقاته مع أتباعه، أو مع الجماهير، غالبًا ما لا يَستـعمل الزّعيم الإقناع المَنطقـي، أو العَـقَلَانِـي. ولكنه يَستـعمل مَرتبته الـقِيادية، أو سُلطته التَنظيمية، أو قُوّة أنصاره، أو فَـنِّـه الخَطابي، أو تـفوّقه الـفِطْرِي، لِتَـغْلِيب مَواقفه، ضدّ كلّ اللّذين يخالـفون رأيه، أو يُعارضون اقتراحه. وقد يلجأ أحيانا الزّعيم إلى حَسم خلافات سياسية، رغم أنّ هذه الخلافات لم تُناقش بَعْدُ بما فيه الكفاية، وسط قَواعد الحزب، أو وَسط الجماهير.
4. بَعد مَوت الزَّعِيم، تَتَرَسَّخ الأزمة
وعندما يَـغيب الزّعيم، مثلًا نَتيجة لِمَوته، تَحُلّ الحَيْرَة، ويَعُمّ الغُموض وَسط الحزب المَعني، أو قد يَنـتشر داخله التَّذَبْذُب، أو يَعُمّ الضُّعف وسط الجماهير التي كانـت تُبَالِغ في مُساندة هذا الزّعيم. وقد يَـكتشف بعض أتباع الزّعيم، أنّ إِتِّـكَالَهُم السّابق على زَعيمهم، سَاهم في إضعاف إِنْتِبَاهِهِم، أو في إِفْـقَار خِبْرتهم، أو في تَـقليص يَـقَظتهم، أو في تَـعْـوِيـق تَـفَاعُلِهِم مع تَجاربهم. ثُمّ تَحتـدم المُنافسة فيما بين الطّامحين إلى احتلال مكان الزّعيم الرَّاحل. وقد يتم تَنصيب أحد المُقربين من الزعّيم السّابق زعيمًا جديدا، وذلك فـقط لأنه كان مُقَرَّبًا منه، وليس لأنه يَمتاز بِخِصَال نَابِغَة. لكن الزّعيم الجديد، الذي يَخلـف الزّعيم الـقديم، غالبا ما لا يُعِيد إنـتاج مُنجزات أو نَجاحات مُمَاثِلَة لتلك التي حقّقها سَلَفُه.
وقد يؤدّي العمل بِمَنهجية انـتخاب «كاتب عام»، أو «رئيس»، داخل حزب مُعَيّن، خاصةً إذا كان مصحوبًا بإعطائه صَلاحيات تَـقريرية واسعة، يُؤَدِّي إلى إلغاء العمل بأساليب «التَشاور»، أو بطريـقة «الديمقراطية التَّشَارُكِية»، أو بمنهج «القـيادة الجماعية». كما يُساعد على تـرسيخ نَهْج الزّعامة داخل الحزب. كما يُمكن أنْ يَنـتشر تَـقْلِيد نَهْج الزّعامة في كلّ العلاقات التنظيمية. حيث يُمـكن أنْ نجد مثلًا أنّ الإطارات الـقاعدية تَنـتخب، هي أيضا، «أمينًا» أو «رئيسا». كما يُمكن أن نَجد أنّ القـيادات المحليّة أو الإقليمية تـنتخب هي الأخرى «أمينًا» أو «كاتبا عامًّا»، إلى آخره. وكلّ «أمين»، أو «كاتب عام»، أو «رئيس»، على صَعيد تلك الإطارات التـنظيمية الـقاعديّة أو الوَسطية، يَتَصَرّف عمليًّا كأنه «زعيم» صغير مُقابل لِـ «الزّعيم» الأكبر، على مُستوى الحزب المعني. وعلى صَعيد مُختلـف الهَيئات التَنظيمية، يعمل هؤلاء الزّعماء على إعادة إنـتاج مَنهجية الزَّعَامِيَّة، ويُرَسّخون نَوعيّة عَلاقات الزّعيم بِمَرْؤُوسِيه.
5. تَتَنَاقَضُ الزَّعامية مع الدِّيمقراطية التَّشَارُكِيّة
يَمِيل عادةً أنصار الزّعيم، (سواءً على صَعيد مَحلّي، أم وطني)، إلى إعتبار هذا الزّعيم فَوْق الجَماهير. وينظرون إليه كأنّه هو الرَّأْسُ المُفَـكِّر لِمُجمل التَّنظيم أو الحزب. ويظُنّون أن الزّعيم يَحظى بِمَنهج في التَـفكير خَارِقٍ للعادة، وأنه يستحيل على أيّ مُواطن آخر أن يَـكتسب هذا المَنهج في التَّـفكير. وَيَتَـطَـرَّف بعض أتباع الزّعيم في تَعظيم زَعِيمِهِم إلى حدّ التَـعَامُل معه كَنَبِيّ، أو كَنِصْف إِلَاه. ويشجّع هذا الصِّنْـف من المُعاملة الزّعيمَ على التّحَوّل إلى دِيـكْتَاتُور. وإذا لم يصبح بَعْدُ ديكتاتورًا، فإنه يَتطوّر بالضّرورة لكي يتحَوّل إلى دِيكتاتور. لأن مَنطق الزّعَامِيَّة يَتـناقض مع مَنْهَج الدِّيمُقراطية، أو حتّى مع «المَرْكَزِيَة الدِّيمقراطية».
وَوُجُود الزّعيم في حزب ما، هو مُؤَشّر يُعبّر عن غيّاب مَنهجية الديمقراطية. أو قد يَدُلّ على انـعدام «المركزية الديمقراطية» فيه.
وإذا كان حزب مُحَدَّّد يُطبّق فعلاً مَنهجية الدِّيمقراطية، أو يَـعمل بأسلوب «المركزية الديمقراطية»، فإنّ هذه المَنهجية الدِّيمقراطية تُؤَدّي، وفي آخر المَطاف، إلى إِلْغَاء مُجمل الأُسُـس التي تُمَـكّن أيّ مَسئول من التَّمَيُّز كزعيم. لأن العمل بِمَنهجية الديمقراطية، يَفضح مَحدودية خِصَال وقُدرات الزّعيم المُفترض. وَيُبْرِز أيضًا أنّ باقـي الأعضاء في الحزب، أو باقـي المُواطنين، يُمكن أن يتوفّروا، هم أيضًا، على طاقات مُتـنوّعة، أو مُتـفاوتة، أو هائلة، لكنها مُتـكاملة فيما بينها. الشيء الذي يـفرض على الشّخص المُرشّح للزّعامة أنْ يَتَصَرَّف بِتَوَاضُع. كما يـفرض عليه الـقَبُول بِالمُساواة السياسية، أو بالديمقراطية، مع رفاقه في النِّـضال، أو مع مُواطنيه داخل الشّعب.
فالعَمل بِمَنهجية الدِّيمقراطية، تُـقَـلِّصُ، أو تُلغي، إمكانية بُروز شخص مَا كَزَعِيم. وتُذَكّر بأنّ أيّ شخص، ومهما كانـت خِصاله الحَميدة، أو قُدراته، أو خِبْرَاتُه، يصبح لا شيئًا إذا لم تُسانده قاعدة الحزب، أو إذا لم تُدعّمه بَـقِيَّة الجماهير، أو إذا لم تَتَـعاون معه بقـيّة الشّعب. وَتُبْرِز أنّ الطَّلِيعَة الحقـيقـية تتجلّى في عِدَّة طَبقات، أو في مُجمل الشّعب، وليس في فرد واحد، أو في جَماعة مُحدّدة، أو في حزب مُعَيّن. (وما أكثر المُناضلين الذين أَسَاؤُوا فَهْم الطَّلِيعَة ، أو الطَلِيعِيَّة ، لَدَى مُنَـظِّرِين أمثال كارل ماركس، أو فلاديمير لينين !).
6. التـفوّق لدى الأفراد قائم، ومتـفاوت، ومُتَغَيّر
صحيح أن المُواطنين ليسوا مُتساوين في خِصالهم، أو في قُدراتهم. فَلَا يَتساوى المُجتهد مع الكَسُول، ولا المُناضل مع الانـتهازي، ولا العَالم مع الجَاهل، ولا الخَبير مع المُبْتَدِئ، ولا المُنـتج مع المُبَذِّر، ولا المُستـقـيم مع المُنحرف، ولا المُبدع مع المُقَلّد، ولا النَّاقِد مع المُتَمَلِّق، إلى آخره. فلا يُعقل، ولا يُقبل، أن نسمح لشخص ما بأن يتحمّل مَسؤولية مُحدّدة، وذلك فـقط بِمُبَرّر ديمقراطية مَائِـعَة، أو بِدَعْوَى أن «كلّ المُواطنين مُتَساوون فيما بينهم». فالمُواطنون، وكذلك المُناضلون، يَتـفاوتون في قُدراتهم، وفي كَفَاءَاتهم، وفي طَاقاتهم، وفي تَكْوِينَاتِهم العِلْمِيَة. وَيَتـفاوتون في الـفِكر، وفي العمل، وفي الخِبرات، وفي الإنـتاج، وفي النّضال، وفي العَطاء، وفي درجة التَّضحيّة، إلى آخره. وَتَـفاوتهم هذا، يكون هو نـفسه في تَغَيّر مُتواصل.
وإذا ما تَـفوّق شخص أو جماعة، فإن هذا التَّـفَوُّق لا يكون قائمًا في جميع المَيادين، ولا يكون ثابتًا عبر الزّمان. بل غالبًا ما يكون مَحدودًا في بِضعة مَجالات، وَمُتـغيّرا عبر الزّمان، حيث يكون في حالة مَدٍّ وَجَزْر، يَصعدُ تارةً، ويَهبط تارةً أخرى. ومع الشَّيخوخة، تَستـقِرّ طَاقات الـفرد، أو تَـضعف، لكنها لا تتحسّن بلا حُدود.
وعندما يظهر أن بعض الأفراد مُتَـفَوِّقُون، أو طَلِيعِيُّون، بالمقارنة مع بَـقـيّة مُواطنيهم، فإن هذه المظاهر لا تُبرّر تَـقديس الـفرد، أو إلغاء دَور الجماعة، أو إنكار أن أيّ فرد، ومهما كان، لا يستطيع تحقـيق أيّ شيء ذي أهميّة إذا لم يَتـعاون بِشَكل مُتواصل مع مُجمل أفراد مُجتمعه.
7. الطَّـلِيعِيَّة هي أيضًا دَوْر مُتَغَيّر
يُعلن البعض (من جانـب واحد) أنه هو الطَّلِيعَة في مَيدانه، أو في إقليمه، أو في مُجتمعه. ثمّ يَعتـقد أن «الطّليعيّة» هي امتياز، أو اِحْتِـكَار خاصّ به هو وحده. وفي هذه الذّاتية، يُوجد غُرور كَبير. بَينما لَا يَحقّ لأيّ فَرد، وَلَا لأيّة جماعة، ولا لأيّ حزب، أنْ يَدّعِي، أو أن يُقَرّر، بِشكل أُحَادِي الجانـب، أنه هو الطّليعة . بل الشّعب، أو الجماهير، هي المُؤَهّلة لكي تَـصف شخصًا أو حزبا بأنه طَليعي ، وذلك بسبب تَـقدّمه، أو تَـفوّقه، أو فَعاليّته، كَـفَاعِل سيّاسي.
وإذا ما وُجِدت «طَليعة» سياسية ثورية مَا، فإنها لا تَستـقِرّ، ولا تَدُوم، في شخص مُحَدّد، أو في جماعة مُعَيّنة، أو في حزب بعينه، أو في طَبقة مُجتمعية مُحدّدة. فَـ «الطَليعية» ليست صِفة ذَاتية، ولا خِصْلة شَخصيّة، ولا مِلْكِيّة خاصّة. فلا يُمكن فَرض صِفة الطّليعة ، ولا امتلاكها، ولا احتكارها. بل إنّ «الطَليعة» السياسية، باعتبارها ظاهرة مُجتمعية وتاريخية، تـكون دائمًا، وبالضّرورة، هي نـفسها في تَحَوّل مُستمر. فتـكون تارةً طَليعة، وتصبح تارة أخرى مُؤَخّرة. اليوم يبرز شخص أو جماعة كطليعة، وغدا يظهر فرد آخر، أو جماعة أخرى، كطليعة. وذلك حسب نوعية أفكارهم، أو مُمارستهم. نـفس الشّيء يَحدث بالنّسبة للحزب، أو للطَّبقة المُجتمعية. بل كلّما ظَهر فرد أو جماعة كَـ «طَليعة»، فإن هذه «الطّليعة» تُوجد خلال فتـرة مَحدودة، ولا تـكون دائمة. وتـكون قائمة في مَيدان مَحدود، وليس في كلّ المَيادين التي يَعيش عليها المُجتمع.
ليس الزّعيم هو الطّليعة، وليست الطّليعة هي الزّعيم. الحزب الطّليعي هو الذي يَنجح في حَثّ أحزاب، أو في إقناع تِيَّارات أخرى، ويجعلهم يَـقبلون بِخَوض أعمال نِضالية مُعَيَّنَة وَمُتواصلة معه. والطَّبقة الطَّليعية، هي التي تـنجح عمليًّا في استـقطاب طَبقات أو فِئات طَبقـية أخرى حَولها، وَتَـفْلَح في جعلها تُشارك فعلًا في مُبادرات سياسية، أو تَـدفعها إلى المُساهمة في تَحقـيـق إنجازات مُجتمعية. فالطّليعية تَتجلّى في خَلـق حركة نِضالية مُجتمعية وَدِينَامِكِيَّة. وتبرز الطّليعية في طَاقات، وفي وَعْي، وفي مُمارسة، وفي مُبادرات، وفي إنجازات، يُفْتَـرَضُ فيها أن تـكون كلّها ثَاقِبَة، أو فَعّالة. وكلّ فاعل سيّاسي لَا يَحظى بِدَعْم فَاعلين سيّاسيين آخرين، لا يرقى إلى الطّليعية. الطّليعية تَـفْتـرض الحُصول على أصدقاء يُعِينُون، أو على حُلـفاء يُساندون، أو على أنصار يُدَعِّمُون. وَمَتى فَـقَدَت الطّليعة هذه الخَصائص، تـكون قد تَـقهقرت، أو فَـقدت دَورها الطّليعي، وذلك وَلَوْ مَرحليًّا.
8. يُمكن للزّعيم أيضًا أن يَتحوّل إلى نَقِـيضِه
وما لا يَراه الّذين يُناصرون زَعيمًا محدّدًا، هو أنّ الخِصَال أو الـقُدرات التي مََـكّنـت في السّابق ذلك الزّعيم من أن يُصبح زَعيمًا، تَتطوّر عبر الزّمان. بل قد تَتـقـوّى، أو تَضْمَحِل، أو تَـزول، أو تَتحوّل إلى نَـقيضها. لأنّ كلّ شيء يُمكن أن يَتحوّل إلى نَـقِيضه. ولأن كلّ صَيرورة لها بداية، ثمّ نُمو، ثمّ شَيخُوخة، ثم نهاية. وذلك في ارتباط بتطور المُجتمع هو نَـفسه. وخطأ أنصار الزّعيم، هو أنّهم يَستمِرّون في تَـقديسه، ويظلّون يُؤمنون بأنّ الصِّفات الخارقة للعادة المُفتـرضة في الزّعيم تَبقى ثَابتة، ومستقرّة. وأنّ لَا أحد من أبـناء الشّعب يمكن أن يَتّصِف بِخِصال مُشابهة. لكن التجارب التاريخية تُبَيّن أن الزّعماء، عندما يَصلون إلى ذِرْوَة مَجدهم، أو شُهرتهم، يَتحوّلون في غالب الحالات إلى نَـقـيض ما كانوا عليه عند بُروزهم لأوّل مرّة كَـزُعماء.
وإذا ما سبق لزعيم ما أنْ قام فعلًا بدور بَارِز في تَـقديم حركة التاريخ نحو التَّـقدم، فَمِن المُحتمل جدّا أنْ يَتحوّل هذا الزّعيم، فيما بعد، إلى نَـقيضه. حيث يُمكن لهذا الزّعيم أن يَلعب دورًا حاسمًا في عَرقلة، أو في كَبْح، حركة التّاريخ نحو التَّـقَدُّم. لأنّ كلّ شيء في تَحوّل مُتواصل. وقد يَتحوّل الزّعيم، كغيره، من فتـرة لأخرى، مِن مَوقف إلى نَـقـيضه، ومن دَوْر إلى عَـكْسِه، ومن حالة إلى نَـقيضها.
9. التَـكَامُل والتَـنَاقُض بَين الـفَرْد والجَماعة
ما هو العَامل الذي يَجعل شَخصًا (أو جماعة) يَتَبَوّأ مَرتبةً طَلِيعِيَّة ثَورية، في مَرحلة ما، أو في مَيْدان ما، أو في إقليم مُحدّد، أو في مُجتمع مُعيّن ؟ هذا العَامل هو الـفِـكر، أو المُمارسة، أو الإنـتاج، الذي يقـوم به ذلك الشّخص (أو تلك الجماعة)، وليس صِفاته الشّخصية، أو خِصاله الفَرْدِيّة. وهذا الـفكر، أو الممارسة، أو الإنـتاج، وباعتبارهم ظاهرة مُجْتَمَعِيّة، فإنهم لا ينحصرون في خِصَال الشّخص المَعني، بل هم يَكتسِبون دائما بُعْدًا مُجْتَمَعيّا. ويتطوّرون بالضّرورة في ارتباط بِتَطوّر المُجتمع.
والـفَهم الجَدَلِي للمُجتمع هو الذي يُسَهِّل إِدْرَاك وُجود عَلاقة وَطِيدة بين الـفَرد والمُجتمع. تارةً يقـوم فردٌ ما، أو بِضَعَة أفراد، بدور رائد، أو مُؤثّر، أو ذِي بُعد تَاريخي. ويُساهم في تَـقديم حركة التّاريخ. لأنّه يَتـفاعل بشكل فَعّال وَعَميـق مع القِـوى المُجتمعية الأكثر حَيَوِيّة. أو لأنّه يُساهم، إلى جانـب الجَماهير، في إنجاز تَـغييرات أصبحت ناضجة مُجتمعيًّا. وتارةً أخرى، لا يَستطيع أيّ فرد، ولا أيّة جماعة، أن تـنجز أيّ شيء ذِي أهميّة، إلَّا إذا كان جُزء كَاف مِن المُجتمع مُهَيَّئًا، أو ناضجًا، أو مُساندًا لذلك الشّيء.
في ظَرف مُحدّد، يمكن لـفرد، أو لبضعة أفراد، أن يكونوا في تـفاعل عَمِيـق مع جُزء واسع وفَعّال من جَماهير المُجتمع، فَيُنْجِزُون، بِمُشاركة أو بِمُساندة هذه الجماهير، تَـغييرات تاريخية هامّة. والعكس مُمكن أيضًا، حيث، خلال مَرحلة ما، يُمكن لـفرد، أو لبضعة أفراد، أن يَمْنَعُوا، أو أن يَـكْبَحُوا، أو أن يُؤَجِّلُوا، تَحقيق طُموحات شَعب بكامله، أو تَـقدّم مُجتمعه. فَتارةً تَستطيع القِـوَى التـقدّمية تحقـيق مَطالبها، أو تَـقْدِر القِـوَى الثّورية على إنجاح طُموحاتها. وتارةً أخرى، تَـنجح القـوى المُحافظة في مَنـع التَّـغيير، أو تَفْلَح القـوى الرّجعية في فَرض استمرار سُلطتها، أو في بَقَاء قِيَمِها التَّـقليدية. وذلك إمّا عبر الصِّراع السياسي، أو الجِدَال الـفِـكْرِي، أو عَبر الحِيَل، أو التَّضْلِيل، أو عبر الـقَمع، أو الـقَهر، أو العُنف. كلّ هذه الأشياء مُمكنة.
10. مِنَ الزَّعِيم المُحَرِّر إلى الزّعيم الـمُسْتَبِد
التّفَوّق الخَارق للعادة، الذي يُفْتَرَض وُجوده في الزّعيم، يُستـعمل كمبرّر لتَمْتِيعه بامتيازات غير عاديّة. ثم يتَحوّل الزَّعيم إلى نَوْع من الشَّيْخ، أو الصَّالِح، أو الوَلِـيّ، أو الأمير، أو المَلِك. ويمكن أن تحَدث هذه الظّاهرة، سواءً داخل حزب مُحافظ، أم داخل حزب ثَوْرِي. وقد يُقْدِم هذا الزّعيم على إِحَاطَة نَـفسه بحاشية من الأنصار الأكثر إخلاصًا له. وقد يَتحوّل بعض الأنصار المقرّبين من الزّعيم هم أنـفسهم إلى نَوع من الأمراء، ولو كانوا أمراء من الدّرجة الثانية. ثم يُـقْدم كل واحد من هؤلاء الأنصار إلى إحاطة نـفسه، هو بِدَوْرِه، بِحَاشية من الأتباع أو الأنصار. وهكذا دواليك، إلى آخر مَرتبة في المُجتمع. وَيَـقتسم هؤلاء المُقرّبين من الزّعيم بعض امتيازاته. ويعمل أفراد هذه الحاشيّة على صِيّانة تلك الإمتيازات، بل ويحرصون على تَوسيعها، أو تَنويعها. ويناضلون لإدامة العمل بأسلوب الزّعامية (أو الأَمِيرِيَة، أو المَشْيَخَة، أو المَلَكِية).
ومهما كان الزّعيم عبقريا، فإنّه لا يستطيع أنْ يَنـتج، على مُستوى الـفكر، أو الوعي، سوى رؤية وحيدة الجانب. كما لا يُمكنه، على مُستوى المُمارسة، أن يقـوم إلّا بعمل جُزئي وَمَحدود. فَلَا يَـقدر الزّعيم على أن يجعلنا نَستـغني عن تَـعبئة الجَماهير، ولا عن إشراكها في تطبيَـق البرامج المُخطّطة. بل يظلّ مَنْهَج «الإنطلاق مِن الجماهير، وَالعَوْدَة إليها»، هو المَنهج الوحيد السَّليم، لأنه هو الّذي يُوصِلنا إلى الرُّؤية الصَّحيحة، وهو الذي يُساعدنا على بَلْوَرَة البَرامج السَّديدة، ويُمَكّننا من إنجاز المُخَطّطات المُسَطّرة. وهو المنهجَ الذي يُمكن أن يُعطي لِمُمارستـنا النِّضالية بُعْدَها الجَماهيري، وأفُقها الثَّوْرِي السَّليم.
11. الْاِنْطِلَاق مِنْ الشّعب، بِهَدف العَوْدَة إليه
مَنْ هو مُحَرِّك المُجتمع ؟ من هو صانـع التّاريخ ؟ هل هو الزّعيم أم الجماهير ؟ إنّ كلّ مُبالغة في تَـقْدِير دَوْر الزّعيم تُـؤدّي بالضّرورة إلى الْاِنْتِـقَاص مِن دَوْر القَـواعد والجَماهير. كما أنّ كلّ مُحاولة لتجاهل دَور الأفراد المُتـقدّمين، أو لِنَـفْـيِ دَور الشّخصيات الطّليعية، يَسقط في نَوْع من الطُوبَاوِيَة التي تَـنكر تَـفاوت الأفراد والمواطنين، في خِصالهم، أو في طَاقاتهم، أو في كَفاءاتهم.
صَانِـع التّاريخ، ليس هو الزّعيم. إنما الزّعيم هو مُجرد ذُرَّة جُزئية في كَوْن شُمولي. والزَّعيم هو نَـفسه هو مَنْتُوج لِمُجتمعه. وَمُحَرّك التّاريخ، ليس هو الزّعيم، وإنما هو تَصارع مُكَوّنات المُجتمع المُتناقضة. والزّعيم، في حالة وجوده، هو نـفسه منـتوج ظرفي وموضوعي للصّراع بين مُكَوّنات المُجتمع المُتناقضة.
المُجتمع هو الذي يَخلـق الزّعيم، وليس الزّعيم هو الذي يَخلـق المُجتمع. وإذا ما بقـي أيّ زَعيم مَعزولا عن الجماهير، فإنه يصبح بِلَا فَعالية وَلَا قِيمة. بينما الجماهير، وَلَوْ فَـقدت زَعيمها المُفْتَرَض، ولو حُرِمت من المبُادرات الثّاقبة لزعيمها، فإنّها سَتبقى قادرة، آجلًا أم عاجلًا، على فَرز طَلائع جديدة، وعلى مُواصلة النِّضال، بهدف تحقـيق اِنْـعِتَاقِهَا أو تَحرّرها.
يَتَكَامَلُ الزُّعماء والطَّلَائِع والجماهير العَريضة فيما بينهم. وصاحب الدَّور الرّئيسي أو الحاسم، هو الجماهير. وَدَوْر الـقَادة، أو الزُّعماء، أو الطَّلائع، سواءً تجسّدوا في أفراد، أو في جماعات، أو في تـنظيمات، أو في أحزاب، هو الدَّوْر الثَّانَوِي، أيْ المُكَمِّل للدَّوْر الأوّل. وتـعظيم دَوْر الزَعيم، أو المبالغة في دَوْر الطَّلِيعَة، يُساعد على تـقليص دَور الجماهير. كما يُمكن أنْ يُؤَدِّيَ إلى احتـقار دَوْر القَـواعد، أو إلى تَـقليص دَور الشّعب.
12. ما هو البَدِيل عَن الزَّعِيم ؟
مُهمّة الحزب، أو مُهمة الدَّولة، ليست هي تَسْخِير المُواطنين لكي يُطيعوا الزّعيم، أو لكي يُنجِزوا رَغباته. بل مُهمّة الحزب أو الدَّوْلة هي رَفْع مُستوى خِصَال أكبر عدد مُمكن من المُواطنين لكي يَتحلّون بأحسن الصِّفات المُمكنة، في مَجالات الوَعي، والمَعرفة، وَالْاِنْـتَاج، والتَضامن. وَمُهمّة الحزب أو الدّولة هي تَـكوين وَتَأْهِيل أكبر عدد ممكن من الموُاطنين لكي يُصبحوا في مُستوى الزّعامة، أيْ لكي يُصبحوا نَـقِـيض الزّعيم.
هل المُجتمع يَحتاج إلى زُعماء ؟ هل المُواطنون هم بِمَثابة مَكْفُوفِين يَحتاجون إلى مُبْصِر يُوَجّهُهم ؟ لَا، ليس بالضّرورة. وَلَوْ أنّ الأفراد يَتـفاوتون في الأدوار التي يقـومون بها. إن{ اِنْـتِشَار الجَهل هو الذي قد يُبَرّر الحاجة إلى زَعيم. بينما الإنـتشار الدِّيمقراطي للمَعرفة يُمكن أن يُحَوّل كلّ مُواطن إلى زَعيم لِنَـفْسِه. ما يَحتاجه المُجتمع أكثر، هو أن يَعِيّ كلّ مُواطن منه، أنّه لَا يُساوي شيئًا خَارج جَماعته أو مُجتمعه. يجب أن يَعِيّ جَيّدا كلّ مُواطن عُيُوبه وَنُـقَط ضُعف، وأن يُدرك في نـفس الوقت قُدُراته وَطَاقاته. وَيَلزمه أن يعتـرف بذلك عَلَنًا.
وما يَحتاجه المُجتمع أيضًا، هو أن يَـكتسب كلّ مُواطن مَنْهَجًا جَدَلِيًّا في مَجالات التَـفكير، والإنـتاج ، والاستمتاع بالحياة. يلزم أن يُدرك كل مُواطن أنّه لا يمكن أنْ يَعيش أو أنْ يَحيى إلَّا مِن خلال التَـعاون والتَضامن فيما بين كل مُكَوِّنَات المُجتمع. ويحتاج الشّعب إلى تَـنظيم أفراده، بهدف إحداث تـنسيق فعّال فيما بينهم. ويحتاج المُواطن، وكذلك المُجتمع، إلى إِعْلَاء العَقل، أكثر مِمّا يحتاج إلى الْأَيْدِيُّولُوجِيّة. وَالعَـقْـلَانِيَة هي المَنهجية التي يُمكن أن تحمي الإنسان من الْاِنْحِرَاف، أو مِن الْاِسْتِلَاب. وَلَوْ أن العَقْل يظلّ هو نَـفسه قَابِلًا لِلْخَرف، أو لِلْهَذَيَان، أو لِلضَّلَال. بينما غير العَقل يُؤدّي حتمًا إلى الضَّياع.
وَتُستحسن الإستـفادة من دروس الثّورات الكبرى أو الرّائدة (مثل ثورة فرنسا في 1789، وثورة روسيا في 1917، وثورة الصِّين في 1945، إلى آخره). وبعضها يُؤَكّد على مباديء بسيطة وهامّة. نَذْكُر من بينها بِالمَباديء التّالية : سواءً داخل الحزب أم داخل الدولة، يجب العمل بأسلوب المُراقبة المُتبادلة (فيما بين مُجمل المُواطنين), وكذلك بأسلوب المُحاسبة المُتبادلة. وقد يكون النَّـقد المُتبادل (فيما بين المُواطنين) أكثر إفادة من الزّعيم.
وكلّ عُضو أو مَسئول في الحزب الثّوري ينـبغي أن يَخضع لِمُحاسبة المُواطنين، وَلَوْ لَمْ يَـكن هؤلاء المُواطنون أعضاء في الحزب الثوري. بل يَحقّ للجماهير أن تُطالب بِسَحب العضوية من أيّ عُضو في الحزب الثوري إذا اعتبرت هذه الجماهير أن هذا العضو غير خَلِيـق بهذه العضوية. لأنه يُفْتَرَض في الحزب الثّوري أن يكون في خِدمة الجماهير، وليس ضدّها. (وما قُلناه هنا في حالة الحزب الثّوري، يمكن أن نقـول مثله في حالة الدولة الثّورية).
كما يُستحسن تَـقْنِين إمكانية سَحْب المَسؤولية، من أيّ مَسئول كان (سواء في الحزب الثّوري، أم في الدّولة الثورية)، إذا طالب الشّعب بذلك. وقد قال مَاوُو تْسِي تُونْغ : «لَا يَصحّ، ولا يُقبل، أن ْتَبـقى الجماعة الـقائدة بدون تَـغيير، في بداية مَعركة كبيرة، وفي وسطها، وكذلك في نهايتها». (ذُكِرت هذه المَقُـولَة في دِفْتَـر يَانَان ، العدد 4، 1977). فما بالك ببعض الأفراد الذين يَتَشَبّثُون دائمًا بِالبَـقَاء في مَواقع المَسؤولية، على مَدى الحَياة، رغم تحَمّلهم مَسؤولية قِـيّادة عِدَّة مَعارك كُبرى، مُتَوَاليّة، وَفَاشِلَة !
وَبِمُناسبة عَقْد أيّ مُؤتمر وَطني، أو إقليمي، للحزب، يُستحسن أن يَسْتَـفِيد هذا الحِزب مِن هذه المُناسبة لكي يُحْدِث تَـغييرًا دَوْرِيًّا في الهَيئات التَـنظيمية المَسئولة، مع إمكانية الحفاظ في كلّ مرّة على نِسْبَة قَليلة من الأعضاء الـقُدامى في هذه الهَيئات. ثُمّ نَرجع لِتَـغييرها هي بِدَوْرِهَا في المَرَّات الْلَّاحِقَة. وكان الحزب الشّيوعي بالصِّين (في عَهْد مَاوُو تْسِي تُونْـغ) يَعمل بِأُسلوب الثُّلُث عند تـكوين مُختلـف هَيئات الحزب المسئولة. حيث كان يَحرص، قدر الإمكان، على أنْ تَتَــكَوَّن كلّ هَيئة مَسئولة من ثُلُث من الأفراد المُسِنِّين، وَثُلُث مِن مُتَوَسّطي السِّنّ، وَثُلُث مِن الشُبَّان. أو يَحْرُص على أنْ تَتَــكَوَّن كلّ هَيئة مَسئولة مِن ثُلُث مِن الأفرد الخُبَراء أو المُجَرَّبِين، وَثُلُث مِن مُتوسّطي التَّجربة، وَثُلُث مِن المُناضلين المُبْتَدِئين. والهدف مِن ذلك هو التَــكَامُل، وَتَبَادُل الاستـفادة، وتـكوين الْأُطُر والأجيال القادمة. كما أن هذا الإجراء يدخل ضِمْن أُسلوب مُعالجة التَـنَاقُض بين العَمل القِـيَّادي والعَمل القَاعِدِي.
وحينما تَـنْسُبُ تَـقارير الحزب أو دِعَايَتَه الإنجازات الرَّائعة إلى أفراد، أو إلى زَعيم، وليس إلى جَماعات، فإنها تُهَيِّـئُ السَّبِيل إلى تـَنامي الزَّعاميّة. وحينما يُقْدِم الحزب الثّوري على تَـنْصِيب زَعيم له، على شكل «رئيس الحزب»، أو «كَاتِبه العام»، فإنّ هذا التَّـعْيِين يَتَـنَاقُض مع مَبدأ «جَماعية القِـيّادة، وَفَرْدِيَة المَسْئُولِيَّة». وقد يُؤدّي ذلك إلى فَرْدِيَة القِـيَّادَة، أو إلى تَـركيز المَسؤوليّات الأساسية بين يَدَي الزَّعيم وَحَاشِيَّتِه. لِذَا فَإنّ تَـقْنِين حَذْف وَظِيـفَة «رَئيس الحِزب»، وَلَوْ كَانـت على شَكْل «كاتبه العام»، قَد تُساعد على تَلَافِي السُّـقُـوط في أُسلوب الزَّعَامِيَة.
كلّ هذه العَناصر تُدَعِّم إيجابية تَـغليب أهميّة الجَماعة، بِالمُقَارَنَة مع دَوْر الـفَرْد، وَلَوْ كان هذا الـفَرد زَعيما ذِي خِصال مُعتبرة.
رحمان النوضة
(الصِّيغَة رقم 4).
…..------…..
[ تَنْبِيه : هذا الـمقال الـحالي (نـقد الزّعيم والزّعامية) هو فَصْل مَأخوذ من كـتاب من تأليـف رحمان النوضة. وعُنوان الكـتاب هو : "كَيْف؟" (في فُنُون النضال السِيّاسي الثَّوْرِي). وَنُشِرَ هذا الكـتاب لأوّل مَرَّة، على الْإِنْتِرنِيت، في سنة 2012، وَعَدد صفحات الكـتاب 208. وَكُـتِبَت الصِّيغَة الأصلية في سنة 1982.
وقد حَـرَّر رحمان النوضة هذا النَصُّ، لأول مَرّة، في شهر ماي 1981، في السِّجن الـمركزي بِـمَدينة الـقُنَيْطِرَة في الـمَغْرب، إِبَّان الاعـتــقال السياسي للكاتب. حيث كان الكَـاتب مَـحْـكُومًا بِالسِّجْن الـمُـؤَبَّـــد. وَقَـضَـى الكاتب قُـرَابَـة 18 سنة في الاعتــقال السيّاسي. ولم يُنْشَر بَعْدُ هذا الكتـاب على الورق. وَإنما نُشر فـقط في صيغة رقمية على مُدوّنة الكـاتب. وَقَـام الكَاتبُ بِـتَـحْسِيـن صِيـغَة نَـصِّ هذا الـمـقـال في ماي 2012 ].