الوطنيّون المزيّفون أو كيف يبرّر الانتهازيون مساندتهم للاستبداد!


حمه الهمامي
2024 / 9 / 28 - 15:21     


كلّما واجه “أحدهم” إعلاميّا أو إعلاميّة وطُلِبَ منه شرح موقفه الداعي إلى التصويت لصالح قيس سعيّد في مهزلة 6 أكتوبر القادم، رغم المناخ السياسي العام الذي تغيب فيه أبسط مقوّمات الانتخابات الديمقراطيّة مثل حرية الترشّح وحرية الإعلام واستقلالية القضاء وحياد الإدارة واستقلالية هيئة الانتخابات، إلّا وكان جوابه أنه ينتمي إلى “تيّار” (المقصود التيار الوطني الديمقراطي) جعل، منذ ولادته في سبعينات القرن الماضي، من المسألة الوطنيّة “أمّ المسائل” التي لا يمكن حلّ مسألة أخرى (المقصود هنا المسألة الديمقراطية في بعديها السياسي والاجتماعي) إلّا بحلّها هي أوّلا وقبل كلّ شيء. وبما أن قيس سعيّد يضع ضمن أولويّاته “الدفاع عن السيادة الوطنية” فمن المنطقي أن يلقى منه الدّعم تناسقا مع التاريخ النضالي لـ”التيار” الذي قدّم عديد الشهداء. ولا يفوّت “بعضهم” الفرصة كي يكيل، تلميحا أو تصريحا، الشتائم إلى حزب العمّال الذي عارض الانقلاب منذ اليوم الأول واتهامه بـ”التواطؤ” مع حركة النهضة و”خدمة أهدافها”. وقد أثار هذا الكلام كلّه السّخرية والاستهجان سواء في مواقع التواصل الاجتماعي أو حتى في بعض وسائل الإعلام التي ما تزال تذيع برامج تهتمّ بالشأن العام.
ما من شك في أن “التيار الوطني الديمقراطي” ضمّ في صفوفه مناضلين واجهوا الدكتاتورية في العهدين البورقيبي والنوفمبري وفيهم من استشهد برصاص البوليس وفيهم من عرف السّجن أو المنفى وفيهم من شدّ الرحال إلى فلسطين وارتقى شهيدا هناك. وبعد الثورة انتظم الوطنيون الديمقراطيون في أكثر من حزب لعلّ أهمهم “الوطني الديمقراطي الموحّد” الذي قدّم أمينه العام الشهيد شكري بلعيد قربانا للحرّية قبل أن يلتحق به الأمين العام للتيار الشعبي الشهيد الحاج محمد البراهمي وكلاهما من قادة الجبهة الشعبيّة البارزين. ولكنّ السؤال كل السّؤال: ما علاقة مساندي سلطة الانقلاب اليوم بتاريخ التيّار النضالي في “الوطد” وشهدائه حتى يزعموا أنّهم امتدادٌ له ويحاولوا توظيفه لتبرير تواطؤهم السّافر مع هذه السلطة التي تمضي مسرعة نحو تركيز نظام حكم فاشستي تمثل مهزلة 6 أكتوبر القادم حلقته الأخيرة؟ إنّ كل الذين عايشوا، على الأقل فترة حكم بن علي القمعي الدكتاتوري، يعرفون جيّدا ألّا علاقة لتلك العناصر التي تتصدّر اليوم المشهد بالنّضال. فالبعض كان منسحبا من الساحة خوفا من عصا بن علي ناهيك أنّه لم يسجّل اسمه حتى في عريضة حقوقية أو نقابيّة. أمّا البعض الآخر فقد تواطأ مباشرة مع نظام بن علي وخدمه من خلال مركزه في الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كانت قيادته تدين بالولاء لبن علي وتزكّي خياراته المعادية للوطن والديمقراطية ولا تتحرّج من تزكية ترشّحه في كل مهزلة من المهازل الانتخابية التي كان ينظمها من وقت إلى آخر قبل أن يراجع الدستور سنة 2002 بمباركة من قيادة الاتحاد وأحزاب الديكور ومنظماته ويشرّع من جديد الرئاسة مدى الحياة. ومن المفارقات أنّ قيس سعيّد كان وقتها من مهندسي تلك “الجريمة الدستوريّة”.
هذا جانب تاريخي. أمّا الجانب الآخر الذي يهمّ الحاضر فيتعلّق بادّعائهم زورا وبهتانا أنّ قيس سعيّد يدافع عن السيادة الوطنية، وهو ما يبرّر، حسب تصريحاتهم، مساندتهم له. إن السّيادة الوطنيّة ليست شعارا يُرفع للمغالطة ولكنها خيارات اقتصاديّة وسياسية ملموسة. ونحن لو نظرنا إلى سنوات حكم قيس سعيّد وخاصة الثلاث الأخيرة منها التي حكم فيها وحده بشكل مطلق فإنّنا نجد ألّا شيء تغيّر في خيارات العمالة والتبعية التي كانت سائدة من قبل، بل إن ما نلاحظه هو تفاقم العمالة والتبعيّة أكثر من أيّ وقتها مضى تحت غطاء شعارات وطنية شعبويّة كاذبة. إن قيس سعيّد لم يتّخذ أيّ إجراء تأميمي يهمّ الثروات الوطنيّة والقطاعات الاستراتيجية. وهو لم يمسّ في شيء مصالح الشركات والمؤسّسات الماليّة الأجنبية المنتصبة في تونس. كما أنه لم يمسّ في شيء مصالح الفئات الكمبرادوريّة التي تمثل الواسطة بين تلك الشركات والمؤسسات ونهب الثروات التونسية والتسلل إلى مفاصل الاقتصاد التونسي والتحكّم فيها. كما أن قيس سعيّد لم يراجع ولو حرفا واحدا من الاتفاقيات والمعاهدات غير المتكافئة وفي مقدّمتها “اتفاقية الشراكة” مع الاتحاد الأوروبي التي يشهد الجميع بانعكاساتها الكارثية على المؤسسات الصغرى والمتوسطة خاصّة وعلى التشغيل في بلادنا. وإلى ذلك فإن قيس سعيّد لم يراجع الاتفاقيات والمعاهدات العسكرية والأمنية التي تربط تونس بالولايات المتحدة الأمريكية (الشّريك الاستراتيجي من خارج الناتو…).
وبالإضافة إلى ذلك فقد أغرق قيس سعيّد تونس في المديونية. فخلافا لما يروّجه الأزلام والأبواق فإن المديونية في ازدياد وليست في تناقص، وهذا أمر بديهي طالما أن مختلف منظومات الإنتاج معطّلة وحكومة قيس سعيّد لا خطة بديلة لها غير الاقتراض الداخلي والخارجي لتسديد خدمة الدين. فقد بلغ الدين العمومي 127.4 مليار دينار في نهاية جوان 2024 مقابل 89.8 مليار دينار في جوان 2020 و106.7 مليار دينار في جوان 2022. فكل تونسي مرهون اليوم في 10713 دينار. وقد بلغت خدمة الدّين في نهاية 2024 رقما غير مسبوق 11.57 مليار دينار، أمّا خدمة الدين الخارجي فقد بلغت 5.8 من الناتج الداخلي الخام في نهاية 2024.
إن الحدّ من التبعيّة الماليّة لا يمكن أن يتمّ بعدم الاقتراض من صندوق النّقد الدولي وفي نفس الوقت الإكثار من الاقتراض من مصادر أخرى بفوائد تصل أحيانا إلى أضعاف فوائد الصندوق ممّا يفاقم حجم المديونيّة وإنّما بتطوير القطاعات المنتجة بما يمكّن من الزيادة في إنتاج الثّروة. وهو ما لم يتمّ ناهيك أنّ نسبة النموّ ما انفكّت تتراجع من سنة إلى أخرى في “العهد السعيد”. فنسبة النموّ في تراجع منذ انقلاب 2021 إذ أنّها نزلت من 2 بالمائة في الثلاثي الثالث من سنة 2021 إلى 0.4 بالمائة خلال العام 2023 إلى 0.2 بالمائة خلال الثلاثي الأول من هذا العام، وللتذكير فإن بن علي لم يلجأ إلى صندوق النقد الدولي منذ مطلع التسعينات حتى سقوط نظامه ولكن ذلك لا يعني أنه “وطنيّا” أو أنّه خفّض حجم التداين الذي تضاعف في نهاية عهده بنسبة خمس مرّات مقارنة بفترة حكم بورقيبة. يضاف إلى كل ذلك استمرار أزمة الدينار المتواصلة منذ عشر سنوات ليتراجع صرفه مقابل الأورو من 3.307 في جوان 2021 إلى 3.365 في شهر جوان من هذا العام. وفي نفس الوقت تفاقمت التبعية التجارية إذ أنّ عجز الميزان التجاري ظل في ارتفاع مستمر. أمّا عن التبعية في المجالين الصناعي والتكنولوجي فحدّث ولا حرج ناهيك أنّ بلادنا فقدت التحكم حتى في مصنوعاتها التقليدية التي تمثل جزءا من التراث الوطني (الشاشية، الزربية…) لتصبح تورّد من الصين.
ومن البديهي أن يكون لسياسة التبعية المدمرة للقوى المنتجة أخطر النتائج في المستوى الاجتماعي وهو ما تشهد به نسب البطالة (16.4 بالمائة في الثلاثي الأول من هذا العام) والفقر (4 ملايين فقيرا) وتدهور المقدرة الشرائية وتفشي الأمراض في ظل تدهور خطير للخدمات العمومية وتواتر انقطاع الكهرباء والماء وهو ما جعل عدد كبير من العائلات تعاني بشكل مستمرّ من العطش. يضاف إلى ذلك استفحال ظاهرة الأمية (مليونا أمّيا أغلبهم من النساء) والانقطاع المدرسي وانتشار العنف وتفشّي الجريمة واستهلاك المخدرات إضافة إلى تفشّي ظاهرة هجرة الأدمغة خاصة والهجرة غير النظامية عامة هربا من جحيم الفقر والحرمان وانسداد الآفاق. ويضاف إلى ذلك التصحر الثقافي الخطير وانتشار خطاب الكراهية والعنصرية الذي وصل حدّه في علاقة بقضية مهاجري جنوب الصحراء غير النظاميين. ومن الطبيعي والحالة تلك أن يزداد الوضع الدبلوماسي لتونس سوءا. فما يروّج من “تنويع العلاقات” الخارجية عبر “التقارب” مع الصين وروسيا لا يتعدى محاولات تغيير تبعية بأخرى وإن كان الأمر ما يزال شكليا ومحدودا لا يتجاوز حدود المناورة. والضغط على الطرف الغربي. ومن جهة أخرى، فالتبعية للدول الاستعمارية الغربية باقية وهو ما يعكسه عدم المساس بالاتفاقيات مع هذه الدول واصطفاف الدبلوماسية التونسية وراء الموقف الغربي من حرب أوكرانيا وحضور الاجتماعات الموسعة لحلف الناتو إلى جانب ممثل الكيان الصهيوني. وممّا فضح نظام سعيّد بشكل واضح موقفه من التطبيع مع الكيان الصهيوني وتدخله السافر لوقف التصويت على مشروع قانون لتجريم التطبيع في شهر نوفمبر من العام الماضي. ولا يمكن للتونسيات والتونسيين أن ينسوا زيارة سعيّد لفرنسا سنة 2020 وتصريحه الشهير ضد المطالبة الشعبية التونسية بالاعتذار عن الاستعمار الفرنسي لتونس لمدة 75 سنة وتعويض الأضرار اللاحقة. لقد نفى سعيّد وهو رئيس البلاد أن تكون فرنسا استعمرت تونس وأن ما حصل لم يكن سوى “حماية” ولم يتورّع عن نصح ماكرون بعدم الاعتذار لأن في اعتذاره اعترافا باستعمار تونس «Qui s’excuse s’accuse».
إن كل هذه المعطيات تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن نظام قيس سعيد تابع مثله مثل أنظمة الحكم التي سبقته. فهو امتداد لها في اختياراتها المعادية للوطن والشعب وإن اختلف معها في شعبويته القائمة على الشّعارات الزائفة. وهو ما يؤكّد المغالطات التي يلجأ إليها “الوطنيون المزيّفون” لتبرير مساندتهم للاستبداد. وهم يؤكّدون في نفس الوقت ألّا علاقة لهم بالنضال الوطني وأنهم مجرد صنائع للاستعمار الجديد والكمبرادور المحلّي يخدمونه بكل تفان. وهم إذ ترفع عنهم ورقة الوطنيّة الزائفة فإنما يفتضح في نفس الوقت معاداتهم للديمقراطية ليتأكّد في النهاية أنهم لا هم وطنيون ولا هم ديمقراطيّون ولا هم يساريون وإنما هم يمينيون انتهازيون في خدمة الدكتاتورية في صيغتهما الشعبوية البائسة، يبرّرون انتهاكها الممنهج للحريات والحقوق السياسية للشعب التونسي.
فهل يعقل أن يساند “وطني، ديمقراطي، يساري” انقلابا لا هدف منه سوى تصفية مكتسبات الثورة الديمقراطية تحت غطاء إزاحة حركة النهضة وحلفائها من الحكم؟ هل ثمة ديمقراطي يقبل التلاعب بالفصل 80 من دستور 2014 لحل الحكومة وتجميد البرلمان ويبكي من شدة الفرح؟ وهل ثمة ديمقراطي يقبل إلغاء دستور معمّد بدماء الشهداء من بينهم دم أمينه العام وتعويضه بالأمر 117 (سبتمبر 2021) الذي يمنح كل السلطات للحاكم الفرد؟ وهل هو ديمقراطي من يقبل دستورا كتبه حاكم بنفسه ولنفسه وأعطى فيه لشخصه كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والروحية بل حوّل تلك السلطات إلى مجرّد وظائف خاضعة له منتهكا الدولة المدنيّة (الفصل 2 دستور 2014) وحرية الضمير (الفصل 6 دستور 2014) والمساواة بين المواطنين/المواطنات في الحقوق (الفصل 21 دستور 2014)؟ وهل من الديمقراطيّة في شيء أن يجلس شخص في مجلس دمى (برلمان أو مجلس جهات وأقاليم) عديم التمثيلية (لم يشارك في انتخابه حوالي 90 بالمائة من الناخبات والناخبين) ومنزوع الصلاحيات (لا رقابة له على الحكومة ولا على الرئيس ولا دخل له في ضبط الاختيارات ومراقبة تنفيذها)؟ وهل يمكن للمرء أن يدّعي أنه ديمقراطي وهو يقبل تفكيك كل المؤسسات الرقابية والتعديلية ويخضع القضاء لمشيئته بمقتضى المرسوم 35 الجائر ويضرب المحاماة في الصميم ويستولي على الإعلام العمومي ويحاصر الإعلام الخاص ويرهب الإعلاميين وأصحاب الرأي المخالف بمقتضى المرسوم 54 الفاشستي؟ وهل يقبل ديمقراطي الزجّ بمعارضي الانقلاب ومنتقديه ولو كانوا من الخصوم السياسيّين في السّجن وتلفيق القضايا ضدّهم؟ بل هل يقبل ديمقراطي استعمال القضاء لتصفية الحساب مع خصم/عدوّ سياسي مهما كانت الجرائم التي ارتكبها دون ضمان محاكمة عادلة له؟ وهل من بذرة تقدمية في كلام من يصرّح في برلمان الدمى أنّ رئيس حركة النهضة كان من المفروض أن يعدم منذ عام 1981 (أي على يد النظام الذي اغتال فاضل ساسي وعذّب نبيل بركاتي حتى الموت وقتّل المئات في مجزرتي 26 جانفي 1978 و3 جانفي 1984) وأن “العشرات اللّي في السّجن” (من هم المقصودون؟) “مكانهم في المقابر”؟ فما علاقة هذا الكلام بسلوك الشهيد الذي دافع بلا هوادة وهو محام عن حق الجميع حتى لو كانوا خصومه في محاكمة عادلة كما ناهض حكم الإعدام بشكل مبدئي صارم؟ وهل أن من يدعم التعسّف منهجا يعتقد أنّه سيسلم منه في يوم من الأيام؟ هل يقبل ديمقراطي الهجوم على الاتّحاد العام التونسي للشّغل وعلى منظّمات المجتمع المدني بهدف تدجينها وتصفيتها في إطار نظرة تعادي حرية التنظيم وتعتبر “الأجسام الوسيطة” مضرّة بالمجتمع؟ وهل من ديمقراطي يقبل انتخابات لا تتوفّر فيها أدنى الشّروط الديمقراطية من حرية ترشّح وإعلام ومن استقلالية قضاء وإدارة وخاصة هيئة انتخابية مستقلة ونزيهة؟ هل من ديمقراطي يقبل أخلاقيا وسياسيّا انتخابات مسخرة يساق فيها المترشّحون إلى السجون أو يوضعون قيد الإقامة الجبرية ويلاحقون قضائيا بتهم “مُترفكة” أو يجبرون على الإقامة بالمنفى؟ وهل من ديمقراطي يساند حاكما فرديا، محافظا، يعادي حقوق النساء ويرفض مبدأ المساواة الذي يستعيض عنه بمقولة “العدل” الفقهية التي تمثل غطاء لتكريس الميز لا غير؟ وهل لديمقراطي حقيق بهذه الصفة يساند حاكما فردا يعادي الإبداع والعقلانية والنقد والنخب المثقفة التي يعاملها بازدراء ويستبطن لها الكراهية؟ وأخيرا هل من تقدمي يقبل خطاب الكراهية والعنصرية بل نظرية “الترنسفير” التي طوّرها اليمين الأوروبي الفاشي المتطرف ضدّ أشقائنا الجنوب صحراويين في إطار خطة مفضوحة لتحويل تونس إلى شرطي لحماية الحدود الإيطالية والجنوب أوروبية مقابل حفنة من اليوروات وعدد من زوارق المراقبة البحريّة؟
إن هذه الظواهر لا تشكل مجرّد “انحرافات” أو “تجاوزات” في مسار “وطني إيجابي على العموم” كما يدّعي الوطنيون المزيّفون وإنما هي تشكل كلّا استبداديا، بل نظاما دكتاتوريا مكتمل المعالم، مترابط العناصر يعادي الديمقراطية حتى في شكلها البورجوازي الليبرالي كما يعادي مبدأ الجمهورية أصلا ويعود بالبلاد إلى ما قبل الحداثة، إلى عهد الملوك والأمراء والسلاطين المسكونين بروح رسولية، خُلاصيّة تجعلهم يشعرون بأنهم فوق البشر. ومثل هذا النظام لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بمصالح الشعب التونسي المدمّر “حسّا ومعنى” وإنما هو نظام في خدمة مصالح التحالف الرجعي المحلي-الاستعماري الجديد المتأزم والذي يحتاج إلى الاستبداد والفاشية لفرض سيطرته على الطبقات والفئات الكادحة وإخضاعها لاستغلال فظيع عن طريق قوة الإرهاب دون أن تكون لها إمكانية الدفاع عن نفسها سواء عبر حرية التعبير والإعلام أو عبر التنظيم النقابي والسياسي والمدني أو عبر الانتخاب. وهو ما يعني أن المسألة الوطنية كما المسألة الديمقراطية في بعديها الاجتماعي والسياسي (تركيز الجمهورية الديمقراطية الشعبية) مازالتا مطروحتين للإنجاز بعد أن أجهضت ثورة 2010-2011 من قوى اليمين الرجعي المتواطئة مع القوى الأجنبية الاستعمارية والرجعيّة.
ومن المعلوم أن الوطنيين المزيفين الذين لا يريدون سماع هذه الحقائق التي تعرّي المستنقع الذي وقعوا فيه تراهم يلجؤون في النهاية إلى “حجّة الحجج” التي ما بعدها “حجة” بالنسبة إليهم: “على الأقل قيس سعيّد رتّحنا من الإخوانجيّة”. وما من شك في أن من يسمع هذا الكلام يذهب في ظنّه أن “الجماعة” يعادون حقّا “الإخوان” وهم في الحقيقة إمّا استوزروا أو أرادوا أن يستوزروا معهم في الحكم في وقت من الأوقات تقودهم في ذلك نزعة “دخوليّة” انتهازية كلّفتهم الإدانة من قيادة حزبهم ذاتها أو أنهم استفادوا من “نعمهم” ممّا يجعلهم أبعد من أن يقدموا دروسا للغير وبالخصوص لحزب العمّال في “مقاومة الإخوان”. وفوق ذلك كلّه فهل من ثوري، يساري حقيقي يقبل الارتماء في أحضان الاستبداد والفاشية لا لشيء إلا لأن سلطة الانقلاب “صفّت له حسابا” مع خصم سياسي؟ بالطبع ما هذا إلا منطق انتهازي مؤسّس على الكذب والمغالطة، وهو يبيّن أن أصحابه منقادون بمنطق الاصطفاف وراء هذا الطرف اليميني أو ذاك ولا يرون من موقع مستقل للقوى الثورية والديمقراطية، موقع القوة التي تحمل بديلا وطنيا، ديمقراطيّا، شعبيّا، ذا أفق اشتراكي يتمايز مع مختلف أقطاب اليمين وهو الخط الذي دافع عنه الشهيد واستمر في الدفاع عنه رفيقاته ورفاقه الأوفياء الذين نقف وإياهم في نفس الخط المناهض للاستبداد وندعو إلى مقاطعة المهزلة الذي ينظمها يوم 6 أكتوبر القادم.
لقد واجهنا في حزب العمال مثل هذه المواقف الانتهازية في عهد بن علي وكنا نُتّهم بالتواطؤ مع “الإخوان” حين نركّز سهامنا على الدكتاتورية كما كنا نُتّهم بالتواطؤ مع هذه الدكتاتورية حين نتباين معهم. ولكننا سرنا في طريقنا المستقل وتركنا الانتهازيين يقولون ما يشاؤون وكنا نكرر بلا كلل: إن من يريد سدّ الطريق أمام حكم “الإخوان” عليه أن يقود هو المعركة مع الدكتاتورية ولا يتركها لغيره. وقد بيّنت الحياة صحة هذا الموقف. فحتى لو أنّ موازين القوى بعد الثورة خدمت “الإخوان” وحلفاءهم فإن حزب العمال حافظ على كيانه وظلت مواقفه مرجعا للقوى الثورية الحقيقية. واليوم نكرّر من جديد: إن من لا يريد العودة إلى الوراء سواء إلى منظومة ما قبل 25 جويلية 2021 أو منظومة ما قبل 2011 عليه أن يبذل قصارى جهده لقيادة المعركة ضدّ الشعبوية اليمينية المتطرفة وهو يتباين مع مختلف أقطاب اليمين دون السقوط في حجر هذه الشعبوية والتحوّل إلى خادم ذليل لها وهي تزدريه ولا تعترف به بل لا تتردد في التعبير عن احتقارها له في العلن وهو كلّما ذلّ أكثر داست عليه بنعلها أكثر.