الكتابة والحرية
فهد المضحكي
2024 / 9 / 28 - 12:26
تنتظم العلاقة بين الكتابة والحرية في النسق المعرفي السائد في إطار معادلة مؤداها النهائي أن الحرية هي شرط الكتابة وبدونها لا يتأسس إبداع حقيقي وهذا صحيح بالمعنى العمومي بما أن كل ازدهار للثقافة مشروط بإزدهار الحرية هذه.
للكاتب والناقد الأدبي الليبي فوزي البشتي رأي نُشر على موقع «الصباح»، يعتقد فيه يمكن للكتابة أن تكون فعَّالة حتى من أن تكون هناك حرية، لأن الكتابة، من وجهة نظره، هي التي تصنع هذا الشرط «شرطها» وهذا ما يقوله التاريخ الأدبي.
ويذكر، يقال هذا الكلام في معرض النقاش القديم الجديد الذي يثار في عالمنا العربي ويراد منه أن يكون تبريرًا للفشل الإبداعي، أن بعض الكتاب عندما يبررون فشلهم الإبداعي بذريعة إنعدام الحرية، عليهم أن يتذكروا أن غياب الحرية قد يكون حافزًا للإبداع.
الإبداع والحرية متلازمان هذا صحيح، ولكن لا ينبغي أبدًا أهمال حقيقة أن الإبداع الذي خلق شروطه الخاصة به «أي حريته هو» هذه الحرية التي سيكون بوسعها أن تخترق الحواجز والأسوار دائمًا تصل إلى جمهورها.
في حين أن الحرية في الثقافة وفي الكتابة عند الكاتب إدوار الخراط شرط ومناخ.
هي شرط الإبداع في العمل الفني، فمن غير حرية لن تقوم للعمل الفني قائمة.
الحرية، في العمل الفني، عنده، أكثر من ذلك. بمعنى أن وجود العمل الفني نفسه هو حرية، حرية في الاختيار، حرية في البناء. وهي حرية تُلِقي على عاتق المتلقي عبئًا آخر من الحرية، ومن هنا تنتفي المقولة الشائعة عن أن الحرية المطلقة هي الانفلات والفوضى وإنعدام القانون.
لا وجود للحرية إلا إذا كانت مطلقة، في الأساس: منطلقًا، وطريقًا، وهدفًا، على السواء.
وكما يقول، مطلقة أو يجب أن تكون مطلقة. صحيح في النهاية أن إطلاقيتها هذه قانون متضمن ومضمر، يلهم العمل الفني كله ولكنه خفى ّ، وبالتالي هو مسؤولية من غير أن تكون فرضًا، وهو اختيار وليس إلزامًا من الخارج، ولا انصياعًا لقيود مصنوعة من سلطة أخرى غير سلطة الفن نفسها.
لكن إذا كانت هذه شروط قيام العمل الفني، بالحرية، وفي الحرية، أي في داخل الحرية، فإن شروط ازدهارها تلقي هذا العمل الفني وتوافر الاستجابة له هو مناخ الحرية في الثقافة، وفي المجتمع بشكل عام، وهو المناخ الوحيد الذي يجب أن يكون سائدًا من دون أدنى تحفظ.
يقول الروائي المبدع حنا مينه: «عندما لا تكون حرية لا تكون كتابة». وفي مقابل ذلك، فالكتابة، كما كتب في أحد أعداد من مجلة «فصول»، في جميع العصور، وفي أشدها قمعًا، تجد حريتها المنشودة بأشكال كثيرة غير مباشرة، وتقول قولها عن طريق الرمز، الأسطورة، الإسقاط، التورية، الإيهام، أو على لسان الحيوان كما عند عبدالله بن المقفع، في تاريخنا الأدبي العربي القديم.
إن الكتابة، على حد تعبيره، في تعارض دائم مع السلطة القائمة، هذه تريد إبقاء ما هو قائم، بكل بشاعته، والكتابة تسعى إلى إزالة ما هو قائم، وصولاً إلى ما يجب أن يقوم. لهذا فإن دور الكتابة هو الاستئناف دائمًا، وعدم الاستكانة، عدم الرضى، عدم الخنوع.والسلطة القائمة تتأذى من هذا التمرد عليها، وهذا التحريك لسكونية استقرارها، فتلجأ إلى تقييد الحريات، وأولها حرية الكتابة، مصدر التحريض ضد الكائن الفاسد، نشدانًا للتغيير وتسريعًا به، كي يحل ما ينبغي أن يكون محله، وهو الأفضل منه دائمًا في صراع مع الأنظمة وتعاقبها منذ المشاعية البدائية، ويفعل التناقض في قلب وحدة الأشياء، التي يؤدي تراكمها إلى تحول نوعي، فيكون الانفجار الثوري الذي يذهب بالقديم ويأتي بالجديد، وبعد ذلك يصبح الجديد قديمًا، فيكون النضال في سبيل جديد آخر. وهكذا تصبح متوالية التجديد متواصلة، إلى أن تنتفي التناقضات التناحرية، ويتم الانتقال من نظام اجتماعي إلى آخر انتقالاً متوافقًا والسيرورة التاريخية.
لقد قال القاص والمسرحي الكبير الراحل يوسف إدريس يومًا: «الحرية الموجودة في الوطن العربي لا تكفي لكاتب عربي!» وكان على صواب. وتعليقًا على ذلك، يقول مينه، في البلدان العربية تقنن حرية الكتابة، بذرائع مختلفة، وتقطّر بالقطارة، وتمنع بعض الكتب، حتى التراثية منها، حرصًا على الأخلاق (!)، ويُواجه الكتاب في الدول العربية، في كل الأجناس الأدبية التي يبدعون فيها، بمناطق محرمة، عليهم أن ألا يقربوها، وهم لا يقربوها بمنع وزجر الشرطي الذي في رأس كل منهم، أي أن الرقابة الخارجية تتحول إلى رقابة داخلية، ذاتية، وهي أسوأ أنواع الرقابات، وأشدها وطأة على الكاتب، ولم تخلق دفعة واحدة، أنما بالتدريج، فأسلوب التدجين الذاتي هذا مدروس بعناية، ومقسط تقسيطًا مريحًا، ويكون على شكل جرعات، بينها فواصل زمنية، حتى يسهل بلعها من جهة، والتأكد من مفعولها وتأثيرها من جهة أخرى.
في المقابل هناك الترهيب والترغيب، وهذا الأخير أكثر خبثًا وأشد مكرًا، وتقوم به صحف ومجلات عربية تصدر داخل الوطن العربي وخارجه، وكذلك مراكز الأبحاث الأجنبية المشبوهة، فهي تنشر المادة المكتوبة مهما تكن مضادة لتوجهاتها، وتدفع مقابلها مكافأة مغرية، وبالدولار أو القطع النادرة، فإذا بلع الكاتب، أو الباحث، أو الأستاذ الجامعي، الطعم، وأدمن على مثل هذه المكافآت النقدية، يبدأ جذب الخيط، وتعود شعرة معاويه إلى شغلها في الدهاء المعروف، بين إرخاء وشد، إلى أن يتم اصطياد الكاتب بصنارة الرفاه المؤقت، الذي صار هو المحروم من الرعاية والعناية، والعاجز عن تأمين رزقه عن طريق كتبه، ما دام أفضل كتاب عربي،مؤلف أو مترجم، لا يطبع أكثر من خمسة آلاف نسخة، تبقى أكثر من عامين حتى تنفد.
مع هذا الترهيب والترغيب، في أشكالهما وألوانها المختلفة، وعبر مسارب ناعمة وملساء كجلد الأفعى، هناك، في الوطن العربي، كتّاب وأساتذة جامعات كبار، لم يأخذوا باللعبة الحرباوية، واستعصوا على التدجين والاستيعاب، وتقبلوا إسفنجة الخل وهم على صلبان حرمانهم وكفاحهم في سبيل غد أفضل، لوطنهم ولشعبهم. لكن هؤلاء في القلة، أما الأكثرية فقد خُربت دوراتها الدمويه. ولاتزال المعركه على المثقفين العرب ومن حولهم قائمة، بغية اقتناصهم، أو على الأقل تحييدهم، فإذا لم يمدحوا لا ينتقدون، وهذا في ذاته مكسب، والقناصون راضون به، أو متحولون عنه إلى العصا والجزرة، فمن لم تنفع به هذه، قد تنفع به تلك.
إن حرية الكاتب وحدها لا تكفي، لأن الكاتب صاحب سلعة، فإذا لم تتوفر وسائل إنتاجها، وتاليًا تصريفها، تُنقض هذه الحرية في حال توفرها، فكيف الحال إذا لم تكن متوافرة أصلاً؟ هذا ما نستنتجه من رأي مينه، الذي يؤكد إننا من هذه الناحية، أمام أزمة، وهي انعكاس لأزمة المركز الرأسمالي المتبوع، على العالم الفقير التابع. إذن لا بد للكاتب، في الغرب الرأسمالي بدرجة أصغر، وفي العالم الثالث بدرجة أكبر، من العمل على جبهتين، جبهة إنتزاع الحرية اللازمة للكتابة، وجبهة تسويق هذه الكتابة، بعد أن تسلعت كليًا الآن. وفي وضع مأزوم كهذا، سيجد الكاتب العربي، والفنان العربي، في العقود المقبلة في مأزق، يضطر معه إلى مزيد من الإذعان، وكذلك إلى مزيد من العمل والكفاح، لإرساء دعائم مجتمع مدني، عقلاني، علماني، ديمقراطي، تتاح فيه الحريات، وقيم العدالة والتنوير.
قال ببلو نيرودا: «أشهد أنني عشت». ويقول مينه: أشهد أنني عشت أيضًا، وأنني وجدت في هذا العيش، الجميل والقبيح، أن الحرية أثمن من الخبز، وأن الإبداع لا يستوى دون حرية، وإن الوطن لا يكون وطنًا بغير مبدعيه، فقد هتف جان بول سارتر، في ذروة احتدام القتال إبان الثورة الجزائرية، بين الثائرين الجزائريين والمستعربين الفرنسيين: «عارنا في الجزائر!». وكان شارل ديغول رئيسًا للجمهورية الفرنسية، فطالبه المتطرفون الفرنسيون باعتقال سارتر، وأجابهم ديغول بحسم: «وهل أعتقل فرنسا كلها؟!».