يوسف سلامة.. فيلسوف العقل والتغيير
فهد المضحكي
2024 / 9 / 14 - 12:24
يعد يوسف سلامة الفيلسوف الفلسطيني السوري من طينة الفلاسفة الذي يعرفون جيدًا طريقهم إلى الخلود.
ذكرت مجلة «قلمون» السورية للعلوم الإنسانية، التي تصدر عن «مركز حرمون للدراسات المعاصرة» إن المفكر سلامة ارتبط أسمه بأشد المفاهيم الفلسفية صعوبة وإغراء، الروح، الذات، الحرية، العقلانية، السلب، اليوتوبيا. على هذه الذرى الفلسفية الباذخة بنى سلامة رؤيته الفلسفية، وعلى الرغم من انشغاله بكل هذه الأقانيم الأنطولوجية الشائكة والمعقدة، فقد كانت القضية السورية - إلى جانب الفلسطينية- شغله الشاغل.
ينتمي يوسف سلامة إلى المفكرين ذوي التجارب الفريدة والاستثنائية التي تمنح أصحابها إهابًا من نوع خاص. جاء إلى رحاب هذا الوجود في عام 1946 في قرية أم الزينات الفلسطينية، وغادرها مهاجرًا إلى دمشق في عام 1948، وهذا هو أول انسلاخ يعيشه الطفل يوسف، أما الانسلاخ الثاني، فحدث عند إصابته بمرض الرمد الطبيعي الذي أفقده بصره فقدًا شبه تام. درس يوسف في مدارس وجامعات سورية ومصرية حتى حاز على درجة الدكتوراه في الفلسفة عام 1985 بإشراف الأكاديمي حسن حنفي، ثم عاش انسلاخه الثالث عندما اضطر إلى مغادرة بلده الثاني سورية إلى السويد عام 2013( لاجئًا )، حيث اختار المنفى.
عمل سلامة أستاذًا للدراسات العليا في «الأكاديمية العربية» في الدنمرك (2014- 2017 )، وترأس مجلة «قلمون» حتى وفاته في مارس من هذا العام 2024.
تجتمع في يوسف سلامة شخصية الأستاذ الرصين والفيلسوف المتمرد على حد سواء. تتحول الكتابة في متن هذا الفيلسوف إلى صورة خاصة من صور المقاومة والرفض والتنوير، ويندر أن تجد نصًا لا يدعو إلى الحرية، ولا يرنو إليها - كما فهمها سلامة- شرط الوجود الإنساني، وعليها تترتب كل تعينات وجوده الاجتماعي والسياسي والحضاري، وصورها.
له عدد من الكتب المنشورة أهمها: كتاب «الإسلام والتفكير الطوباوي، هل الإسلام يوتوبيا؟» صدر عام 1991، عن دار كنعان السورية، كتاب «مفهوم السلب عند هيغل»، صدر عام 2000 عن المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، كتاب «فينومينولوجيا المنطق عند إدموند هوسرل» صدر عام 2002 عن دار حوران، دمشق، كتاب «من السلب إلى اليوتوبيا دراسة في هيغل وماركيوز، صدر عام 2006، صدر عن دار حوران، دمشق. شارك مع مجموعة من الباحثين في إصدار كتاب» العلمانية العربية «، تحرير عطية مسّوح، 2009، صدر عن دار الينابيع، دمشق. له العديد من المقالات المنشورة.
في مقال له، نُشر على موقع» العربي الجديد «، يقول الكاتب والباحث الفلسطيني حسام أبوحامد، وهو أحد طلاب سلامة في جامعة دمشق، إن سلامة خاض حواراته داخل القاعات الأكاديمية وفي لقاءاته مع تلاميذه وطلابه، غير عابئٍ بسجالات إعلامية، حرص عليها غيرُه من نجوم الاستعراض المعرفي. حمل همًا فلسطينيًا سوريًا، يبدو ثقيلًا لمن لم يختبره، وحافزًا لصاحبه ما استطاع إلى التفلسُف سبيلًا. سلامة عانى اللجوء مرتين، فلسطينيًا في الثالثة من عمره، وسوريًا فلسطينيًا في السابعة والستين منه. اقتنع مع هيغل بأن المعقول هو ما يمتلك الحياة، وبما أن الإنسان وحده يمتلك فكرًا، فلا حقيقة خارج أفق العقل البشري. مع المنهج الهيغلي، لا يمكن إلا الحديث عن تاريخ البشر، وعن أفضل الطرائق للتفكير. إنها الفلسفة تأتي متأخرة، والتأخير هنا سر حكمتها، بعد أن تكون الحياة قد دبّت بين الناس بالفعل، لتتربّع على ما يسبقها من أنساق ونظم معرفية، لذلك يصفها هيغل في» فلسفة الحق «،» بأنها «بومة منيرفا لا تبدأ بالطيران إلا بعد أن يُرخي الليل سدوله».
يُعلمنا سلامة أن الحرية هي الشرط الضروري لإنسانية الإنسان، وتبرز أهمية منطقية ووجودية على كل ما عداها، لأنها جوهر الوجود الإنساني الذي يُعبر عن نفسه في الفعل المتعيّن في وجود اجتماعي محدّد، هو الوجود السياسي، وعلى هيئة نظام سياسي ديمقراطي. تتمثل الديمقراطية عند سلامة في قدرة الجميع على يُوجدوا، على نحو معيّن، تعبيرًا عن كينونتهم الحرّة، إنها تشير إلى نوع من توزيع القوة المتساوي، وتتمثل هذه القوة في الفاعلية السياسية. عندما يكوّن المجتمع لنفسه هذا التصوّر عن الديمقراطية، يكون قد وصل إلى العقلانية، فاكتشاف أنسب الطرق التي تجعل الديمقراطية ممكنةً على المستويين الفردي والجماعي هي مهمة العقل، الذي يضع الحلول لنوع من التواؤم بين فردية الفرد وجماعية الحياة الاجتماعية. قد لا يكون العقل واضعًا لشيء جديد بقدر ما يكون مسؤولًا عن حل مشكلاتٍ تثيرها الحرية من حيث هي كينونة الإنسان، وتخلقها الديمقراطية من حيث هي ممارسة اجتماعية راقية تعبّر عن وجود الإنسان الحر، بوصفه يحيًا في الديمقراطية وفي قلبها. ويعلمنا سلامة أن المجتمع يصبح بُعدًا رابعًا ضروريًا، لا بوصفه غاية في ذاته، بل بوصفه محلًا يُفترض أن يكون مناسبًا يسمح للإنسان بالتعبير عن نفسه أو بتعيين حرّيته في نظام سياسي يصوغ العقل ُ بنوده الأساسية، ما يسمح بتكوين مجتمع قادر على أن يستحيب لمتطلبات الحرية ومقتضيات الديمقراطية منها. تشكّل تلك الشروط كلها ما يسميه سلامة «العلمانية»، التي لا يراها مشكلة ثقافية، فطرْحها على أنها كذلك يزيّفها ويجعلها مشكلة وهمية لا أساس لها، فالمشكلة في العالم العربي سياسية. ماذا لو توفرت لدينا أحسن علمانية. من سيطبقها أو سيقبلها في مجتمعٍ غير ديمقراطي ؟
يلحّ سلامة على أن الفكرة الواحدة لا تقوم عليها إلا حضارة واحدة، ومن هو قادرٌ على الإبداع لا يحتاج إلى الماضي، وقد استنفد مشروع الإصلاح الديني كل إمكانياته، ولم يعُد قادرًا، في ضوء الأحداث في الشرق الأوسط أخيرًا، على أن يمد المسلمين بما يتجاوز الحدود المرسومة لهم، فقد خشي الجميع، منذ البداية، أن يعني مفهوم «الإصلاح الديني» أن أمرًا ما غير مستحب قد أصاب الدين أو ألمّ به، فبمقتضى إضافة «الإصلاح» إلى الدين، أو «الدين» إلى الإصلاح بوسع العقل البشري أن يتساءل: وهل الدينُ يفسُد؟ وإذا كان من الممكن للفساد أن يتطّرّق إلى الدين، فهل بوسع العقل أن يُصلح ما فسد في الدين ؟ برأيه، بثّت هذه الأسئلة الخطيرة في نفوس المسلمين وعقول، ولاتزال، فآثرت الأكثرية تفاديها والهروب من المسؤوليات الحقيقية التي يتعين على العقل أداؤها، ألا وهي المواجهة النقدية مع الشريعة التي لن يتقدم المسلمون إلا إذ نهضوا بهذه المهمة المصيرية. أما الفكرة القومي، التي ألحّت على الوحدة وسيلة وغاية، فقد انتهت، برأي سلامة، إلى الاستبداد، ما تسبب في كل إخفاق لاحق، وثبت أن بدون الحرية لا يمكن أن تحقيق الوحدة، بل لا يمكن تحقيق شيء يدعونا سلامة إلى عدم الخجل من إعلان «انتهاء حقبة القومية العربية واضمحلالها، والتفكير في مفهوم جديد يكون مدخلًا فلسفيًا ونظريًا وسياسيًا يسمح بالتعامل مع الأوضاع القائمة كما هي، وليس كما يريد بعض الذين ما زالوا يعيشون أوهام الجامعتين الإسلامية والعربية».
سيبقى التنوير والعقلانية هي الأساليب الأكثر فعالية في إنتاج الوقائع الجديدة وتجنب الحروب المدمرة، غير أن موقعنا من الزمن والعالم لا يمنحنا قدرًا كبيرًا من الاختيار، لأن العناصر متداخلة والمتغيرات متشابكة والمصالح محركة لكل شيء، والتدخلات الخارجية لم يعد من الممكن السيطرة عليها. لقد تحطمت الحدود الجغرافية. وكذلك الأمر للحدود الثقافية والسياسية، وبالتالي لم تعد الحروب في عصرنا حروبًا بين أعداء واضحين، يمكن التعرّف عليهم وتشخيصهم. كل حرب في هذا العصر هي حرب كونية.وتكفي نظرة سريعة لما يجري في الشرق الأوسط من سوريا إلى العراق إلى ليبيا، وهذه الكونية لا تعقّد المشكلات المحلية فحسب، بل تكاد تمحو الفروق بين المقاتلين من أجل الحرية والمدافعين عن الاستبداد والتخلف والبربرية والهمجية.
هذا ما قاله في حوار أجراه معه المركز الكردي - السويدي للدراسات.
يعتقد سلامة أن لا حدود للتنوير في أي مكان في العالم. والتفاوت الملحوظ في درجة الحداثة أو التحديث بين أجزاء العالم المختلفة لا يعني أن الأمم الأكثر تمدنًا، لم تعد في حاجة إلى التنوير. فالتنوير في نظره هو الفعل الذي تناهض به كل اسطورة استقرت وهيمنت على العقول في هذه الحقبة أو تلك. وبصورة أكثر جذرية: التنوير هو مناهضة للذهنية التي تعتقد أن للتقدّم حدودًا أو سقوفًا يمكن للإنسانية أو لبعض شعوبها أن تصل إليه.
وبهذا المعنى، الغرب سيظل مجبرًا على ممارسة التنوير، إذا ما ظلّت الرغبة فيه قوية للحياة والتطوّر والتقدّم. إن سلب ما هو قائم، والمضي إلى ما وراءه، هو جوهر فعل التنوير دومًا.