السياسة والوهم


حمه الهمامي
2024 / 9 / 9 - 22:55     


أخطر ما في السّياسة انسياق المرء وراء أوهامه في تعاطيه مع الواقع. السّياسة تقتضي التقيّد بالتحليل الملموس للواقع الملموس ودراسة الموازين بين مختلف القوى المتنافسة/المتصارعة دون إسقاط الرغبات الذاتية عليها. وهو ما يسمح بتحديد السّلوك المناسب الذي يمكّن من مراكمة القوى في اتّجاه بلوغ الهدف المرسوم. نقول هذا بعد أن أعلنت هيئة بوعسكر يوم الإثنين 2 سبتمبر 2024 القائمة النهائية للمترشحين لموعد 6 أكتوبر القادم وما أحدثه هذا الإعلان من صدمة في بعض الأوساط التي ظنّت في لحظة من اللحظات أن قرار المحكمة الإداريّة “حسم الأمر” وأنّه لم يبق أمام “الهيئة” سوى تنفيذ هذا القرار البات والنهائي وغير القابل للطعن.
لقد تتالت منذ يوم 2 سبتمبر بيانات الاستنكار من أحزاب سياسية وجمعيات ومنظمات وأساتذة قانون بارزين. وهو ردّ فعل شرعي ومشروع لأن سلوك “الهيئة” يثير الاستنكار والإدانة لما فيه من تحدٍّ صارخٍ للقانون والمؤسسات. ولكن السؤال الذي نطرحه بكل بساطة هو التالي: هل أن سلوك الهيئة مفاجئ حقّا؟ هل كان يُنتظر منها اتّخاذ موقف غير الموقف الذي اتّخذته، أي رفض تنفيذ حكم المحكمة الإدارية الاستئنافي والإبقاء على قائمة المترشحين الثلاثة الذين انتقتهم من بين 17 مترشّحا قدّموا ملفاتهم واعتبرتهم مستجيبين لـ”الشروط”، مع علم أنّ أحدهم رهن الاعتقال حاليّا وهو ملاحق من أجل “جرائم انتخابية” قد تُكلّفه سحب اسمه من “السّباق”، وحتى المرشّح الآخر فقد بدأت “تروج أخبار” حول احتمال تتبّعه عدليا ولا أحد يمكنه أن يتكهّن بما يدور في “الغرف المظلمة”.
نحن في حزب العمال لم نفاجأ مطلقا بموقف الهيئة ولم نكن ننتظر منها غير ذلك الموقف بل إنّ ما كان سيفاجئنا حقّا هو اتّخاذها موقفا مغايرا. وليس في ذلك لا “نبوءة” ولا “تقازة” وإنما هو العقل والمنطق والتحليل وربط الأحداث والوقائع بعضها ببعض منذ الانقلاب. إن أيّ موقف مغاير للهيئة سيكون غير متناسق مع تلك الأحداث والوقائع ومع السياق السياسي العام الذي يجري فيه الإعداد لموعد 6 أكتوبر القادم خاصة أنّه لم تحصل في الوقت الوجيز ما بين صدور حكم المحكمة الإدارية وإعلان “الهيئة” قائمة المترشّحين النهائية، “مستجدات طارئة”، سواء كانت داخلية أو خارجيّة، من شأنها أن تفرض تغييرا في سلوك سلطة الانقلاب وهيئتها الانتخابيّة ممّا يجعلهما يذعنان لأحكام الجلسة العامة للمحكمة الإداريّة.
إنّ الاحتكام إلى القانون له معنى في دولة القانون (l’État de droit)، في الجمهورية الديمقراطية ذات المؤسسات الرقابيّة الفاعلة. أمّا دولة الاستبداد، مثل التي نحن فيها، فهي دولة اللاقانون (l’État de non droit)، بل دولة التعسّف (l’arbitraire) التي لا تقيم وزنا للقانون ولا ترى فيه، في أفضل الحالات، سوى أداة لإضفاء شرعية زائفة على قراراتها السياسية الجائرة التي تستهدف الحقوق الأساسية للشعب وتفرض عليه سياسة التبعية والتجويع والتفقير مع حرمانه من وسائل الدفاع عن نفسه. وفوق ذلك كلّه فهل ثمّة ما يفيد في سلوك سلطة الانقلاب التي تخلّت عن أبسط شكليات الجمهورية، أنّها أقامت وزنا للقانون والمؤسسات منذ 25 جويلية 2021 حتّى يذهب اليوم في الاعتقاد أنّها ستحترم قرارات المحكمة الإداريّة “الباتّة وغير القابلة لأي وجه من أوجه الطعن” كما جاء في بيان أساتذة القانون والعلوم السياسية بتاريخ 5 سبتمبر 2024؟ إن إثارة انتهاك سلطة الانقلاب القانون لا تصلح في أحسن الحالات إلّا لمزيد فضحها أمام الرأي العام وتأكيد أنها تتصرّف خارج أيّ شرعيّة.
من نافل القول إنّ سلطة الانقلاب لم تنظر منذ البداية إلى موعد 6 أكتوبر القادم إلّا بوصفه موعدا للبيعة لا غير. إن الاستبداد لا يؤمن لا بالانتخاب ولا بالتمثيليّة الديمقراطية ولو في شكلها الليبرالي لأن الحاكم الفرد، الدكتاتور، يرى أنه “لا منافس له” وأن المطروح هو ذهاب الناس إلى الصندوق لا للاختيار بينه وبين منافسين آخرين بل للتعبير عن “الولاء”. وهذا الأمر كان واضحا منذ مدّة إذ أنّ قيس سعيّد لم يكن يمزح حين صرّح أنّه لن يسلّم السّلطة “لغير وطني” أو حين صرّح أن “مسألة الانتخابات… مسألة بقاء أو فناء” وأنه لا يرى نفسه “في منافسة مع أحد”. وكان من المفروض أن يفهمه الجميع ويأخذوه بالجدّية اللازمة وألّا يَسْقُطوا في الأوهام أو يُسْقطوا رغباتهم الذاتيّة، الخاطئة على الواقع. كما كان من المفروض أن يدركوا أنّ هيئة الانتخابات المعيّنة تمثّل “المؤسّسة” المنوط بعهدتها تنفيذ هذا التوجّه وإزاحة كلّ العوائق التي يمكن أن تحول دون تحقيقه وهو ما جعل منها في هذه المرحلة “رأس حربة الاستبداد”.
إنّ الاستبداد، وهو ما أكّدته كل التجارب، بما في ذلك في بلادنا على امتداد عقود، لا يفهم إلّا قانونا واحدا وهو قانون موازين القوى. فإِنْ وَجَدَ في طريقه قوّة قادرة على صدّه فهو يتراجع أو حتّى ينهار، وإن لم يجد فهو يواصل الهجوم ويرتكب الفظاعات. ونحن اليوم في تونس لا يمكن لعاقل أن ينكر أن الحركة في حالة جزر وبالتالي لا وجود لحالة تعبئة جماهيريّة عامّة تمكّن من إيقاف هجوم سلطة الانقلاب وفرض احترام قرار المحكمة الإدارية عليها ولِمَ مراجعة المسار الانتخابي برمّته لتتوفّر فيه الشروط الديمقراطية الدنيا. زد على ذلك ضعف الحركة الديمقراطية التقدمية بل الحركة السياسية والمدنية عامة، وهو ضعف يؤثّر في قدرتها على التّعبئة وعلى التأثير المباشر في قرارات سلطة الانقلاب الأمر الذي يجعلها تتصرّف بعنجهيّة غير مسبوقة.
ونحن إذ نقول هذا الكلام فليس من أجل إحباط العزائم أو تسليم أمرنا وأمر وطننا للاستبداد والفاشية بل من أجل الدعوة إلى قراءة موضوعيّة، علمية وهادئة للواقع، قراءة تسمح بتحديد السلوك المنطقي، الثّوري، التقدّمي الذي يمليه هذا الواقع من أجل تحقيق المراكمة وتغيير موازين القوى تدريجيّا لصالح الحركة والشعب إلى يوم بلوغ “اللحظة الحاسمة” التي تمكّن من التخلّص جذريّا من الاستبداد. “تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة” حسب العبارة الشهيرة المنسوبة إلى أنطونيو غرامشي. فمهما كان الواقع صعبا ومعقّدا علينا ألّا نزيّنه، وفي نفس الوقت علينا أن نتحلّى بالإرادة اللازمة لتغييره بالاعتماد على قوانا الذاتيّة بعيدا عن المراهنات الخطيرة على “تحرّك الأجهزة” من الداخل، وعلى “ضغوط الدول الكبرى” من الخارج، حتّى لا يُعاد إنتاج الاستبداد واستدامته بأشكال أخرى.
إنّ سلطة الانقلاب ماضية اليوم في تنفيذ مشروعها الاستبدادي ضاربة عرض الحائط أبسط المبادئ القانونية، الديمقراطية لأنها تريد أن تجعل من موعد 6 أكتوبر القادم موعد بيعةٍ، لا لحظة تعبيرٍ عن الإرادة الشعبيّة. وهي تراهن على استدراج أكبر عدد ممكن من الناخبات والناخبين للانخراط في المهزلة للرّفع من نسبة المشاركة فيها بما يسهّل إضفاء “شرعيّة” شكليّة على نتائجها المعروفة مسبقا. ولا نعتقد أن أيّ عاقل ونزيهٍ، باستثناء أنصار الاستبداد، قادر اليوم على مواصلة التّرويج لـفكرة “المشاركة” في هذه المهزلة بعد كلّ الذي حصل. لقد سدّت سلطة الانقلاب دون أي حرج وبشكل لا لبس فيه الباب في وجه أي مشاركة جدّية وتعدّدية ولو حتى نسبيّة. وما رفضُ “الهيئة” قرارات الجلسة العامة للمحكمة الإدارية إلّا إثباتا لهذه النزعة التسلّطية، الفاشية التي لا تؤمن بالانتخابات ولا بالتمثيلية بل إنها لا ترى في الانتخابات سوى موعدا يعبّر فيه “الشعب” عن الولاء لـ”الزعيم الملهم، المخلّص”.
إن انسداد الآفاق في وجه أي مشاركة جدّية في موعد 6 أكتوبر القادم يقتضي من القوى الديمقراطيّة التقدميّة التّسريع باستنتاج ما ينبغي استنتاجه لتدارك ما ضاع من وقتٍ على حساب إعداد خطّة عمل مبكّرة. إن التكتيك الوحيد، المتبقّي اليوم، والذي فرضه سعيّد حتى على أشدّ المتحمّسين للمشاركة، هو المقاطعة النّضالية والنشيطة لعزل سلطة الاستبداد ونزع كل شرعية عن نتائج المهزلة التي تُعِدّ لها والدفاع عن حرية الشعب وحقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن مواصلة الحديث اليوم عن المشاركة مجرّد هُراءٍ، ولا يمكن أن يصدر إلّا عن مناصر للاستبداد والفاشية أو راغب في إضفاء شرعية زائفة على المهزلة عبر الدعوة إلى التصويت لصالح أيّ “منافس” لسعيّد أبقت عليه “الهيئة” في السباق دون اعتبار النّتائج السياسيّة لذلك التّصويت.
إنّ المقاطعة النّشيطة هي حملة سياسيّة نضالية تهدف إلى إحداث الفراغ حول سلطة الاستبداد عبر تحويل السّلوك السّلبي لفئات واسعة من المجتمع إلى موقف سياسي واعٍ. وهذه الحملة يمكن منطقيّا أن تكون لها أوجه ثلاثة. فأمّا الوجه الأوّل فيتمثل في شرح واسع للطابع الشكلي المهزلي لموعد 6 أكتوبر القادم الذي سيكون، في غياب أدنى الشروط الديمقراطيّة الانتخابية، وفي مقدّمتها شرط حرية الترشّح، انتهاكًا مطلقا للإرادة الشعبية. ويتمثّل الوجه الثاني في شرح النتائج الكارثيّة لخمس سنوات من حكم سعيّد، منها أكثر من ثلاث سنوات حكم فيها بمفرده وتِبيان خطورة استمرار هذا الحكم على الشعب والوطن اللذيْن يواجهان أزمة شاملة ومدمّرة. أمّا الوجه الثّالث فيتمثّل في تقديم بديل للشّعب التّونسي يستجيب للحد الأدنى من مطالبه الأساسية في “الحرية والشغل والكرامة الوطنيّة” ويقطع لا مع سلطة الانقلاب الشعبوية فحسب، وإنّما أيضا مع منظومة ما قبل 25 جويلية 2021 التي أدارت ظهرها للثّورة وخلقت الأرضيّة المناسبة لبروز الشّعبويّة وكذلك مع منظومة ما قبل 14 جانفي 2011 التي ثار ضدّها الشعب.
إن الوقت لم يفت ولن يفوت عن النضال ضد سلطة الاستبداد الفاشلة على طول الخط والتي هي بصدد التوقيع على نهايتها بنفسها، لا من خلال الفظائع التي ارتكبتها وقد ترتكبها في القادم من الأيام بمناسبة مهزلة 6 أكتوبر، وإنما أيضا من خلال ما أحدثته من دمار في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئيّة خلال السنوات الأخيرة وما ستحدثه من دمار إضافي في صورة استمرارها. إن الاستبداد ليس بالقوة التي يتصوّرها البعض فهو موضوعيًّا في مواجهة مع الشعب، يقمعه ويجوّعه ويفقّره ويثقل كاهله وكاهل الوطن بالتّداين الداخلي والخارجي، كما أنه في مواجهةٍ مع غالبية القوى السياسية والمنظمات النقابيّة والحقوقيّة ومع المثقفين والمبدعين والإعلام والإعلاميّين، وهو ما يجعله في عزلة متزايدة. ولكنّه اليوم قويّ لأن الحركة الاجتماعية والشعبية في تراجع والحركة الديمقراطية التقدمية ضعيفة. ومن المؤكّد أنّه ما أن يتغيّر هذا الوضع في اتّجاهٍ إيجابي حتّى تنكشف مواطن ذلك الضّعف كلّها ويبدأ العدّ التنازلي للاستبداد.
إنّ الكُرة في مرمانا، وليس أمامنا سوى حلّ واحد أوحد ألا وهو النضال. لقد عشنا خلال العقود الأخيرة ظروفا أصعب وأكثر تعقيدا ولكن ما أن هبّ الشعب بعد تجارب ومراكمات حتى تساقطت دواليب الدكتاتورية والاستبداد كأوراق الخريف.