كتاب «وجهة نظر»
فهد المضحكي
2024 / 9 / 7 - 12:25
في كتابه «وجهة نظر» الصادر عن مؤسسة هنداوي، يرى المفكر والفيلسوف زكي نجيب محمود (1905-1993) أنه في كل موقفٍ على الطريق سيجد القارئ وجهة نظر، فإما قَبلها وإما رفَضها واتجه بنظره وجهة أخرى، كلاهما خير؛ لأن في كليهما فكرًا.
للكاتب المصري أحمد إبراهيم الشريف قراءة رصينة، أشار فيها إلى أن هذا الكتاب يتضمن طائفة من قضايا الفكر في حياتنا، ومجرد قولنا إنها «وجهة نظر» يتضمن الاعتراف باحتمال أن تكون هنالك وجهات نظر أخرى للنظر، وبالتالي فهو يتضمن كذلك أن الصواب ليس مكفولاً لها وحدها، أكثر مما هو مكفول لغيرها، لكن ذلك لا ينقص مثقال ذرةٍ من يقين الكاتب عن نفسه بأنه قد حاول الدقة في عرض وجهة نظره ما استطاع من الدقة من سبيل، وبأنه كان صادقًا في الإعراب عن نفسه ما اسعفته القدرة على استخدام اللفظ في أن ينقل للناس ما أراد أن ينقله.
يقول محمود: إن أهم قضية فكرية تصادفنا، هي قضية الشخصية العربية الجديدة ومقوماتها، وهنا يتساءل: ماذا تكون معالمها وقسماتها؟ إننا بإزاء ماضٍ طويلٍ مجيدٍ غني بآثاره، وكذلك نحن بإزاء حضارة علمية صناعية لم يكن للعالم كله عهد بمثلها، فماذا نأخذ وماذا ندع؟ إننا ما كدنا نلتقي في أوائل نهضتنا الحديثة بطلائع العلم الحديث، حتى انقسمنا على الفور شُعبًا ثلاثًا: أولاها جَفلت من العلم الجديد الوافد عليها فرفضته لائذةً بالماضي ومجده، وفرحت الثانية به فرحة الأطفال اندفاعًا وتفاؤلاً، فأقبلت عليه إقبالاً أنساها كل شيء ما عداه.
وأما الثالثة فهي التي ألقت بالبصر إلى بعيد، لترى أمل البعث معقودًا على دمج الجانبين في ثقافةٍ عربيةٍ جديدةٍ، لا هي الموروث وحده ولا هي الحضارة العلمية وحدها.
وفي حديثه عن تجربته الذاتية التي شهدت تحول في الأفكار والقناعات أوضح: وقد لبث كاتب هذه الصفحات أمدًا من حياته طويلاً، يسلك نفسه في زمرة المؤمنين بالعلم الجديد وحده مستغنيًا به عن موروث قديم، وهو اليوم يُغير من وجهة نظره، ليرى استحالة تامة في أن تتكون شخصيته متميزة فريدة - سواء كانت شخصية فرد واحد أم كانت شخصية أمة بأسرها - من العلم الجديد وحده، لأن العلم عام ومشترك، وإذن فلا بد أن يجيء التميز من خصائص أخرى، فماذا تكون تلك الخصائص المتميزة إن لم تكن مستمدة من أسلوب الحياة وموازين التقويم التي تجعل عند الناس شيئًا أهم من شيء، وفكرة أنبل من فكرة؟ ولمَّا كان هذا الأسلوب وهذه الموازين لا تخُلق كل ساعة وكل يوم، بل هي على شيء من الدوام النسبي، فدوامها النسبي هذا معناه إنها مأخوذة من الماضي، وهذا بدوره هو الذي يحفظ للأمة استمرارها في سيرةٍ متصلة، مرتبطٍ حاضرها بماضيها.
على أنني إذ أرى ضرورة اجتماع العلم المشترك والقيم الخاصة الموروثة في مُركَّبٍ واحد، منه تتكون الشخصية العربية الجديدة، لا أنسى أن العلم ليس هو القِيمَ ؛ فالأول موضوعي، والثانية ذاتية، دون أن تكون موضوعية الأول فخرًا له، ولا ذاتية الثانية مسيئة لها.
والقضية المهمة الثانية التي أبديتُ فيها وجهة نظري، هي قضية تقويم العمل الذي اضطلع به رجال الفكر والأدب منذ الثورة العرابية إلى ثورة 23 يوليو سنة 1952، وعندي أنها فترة طويلة من الجهاد المستميت في سبيل الحرية. غير أن «الحرية» المنشودة أخذ معناها يتسع ويتعمق، كلما ازددنا لها كسبًا، وازددنا في المستقبل أملاً: فمن حريةٍ كادت تقتصر على معنى التحرر من المستعمر، إلى حرية متعددة الفروع: في الأدب والفن والعلم، إلى حرية اجتماعية شاملة. وإذا كان كذلك فليس صحيحًا أن رجال الفكر والأدب خلال تلك السنوات كلها - وفيما بين ثورتي 1919 و1952 بصفة خاصة - كانوا يضربون في الهواء بغير هدف مقصود.
وقضية ثالثة، هي الفردية وماذا تعني في المجتمع الاشتراكي، إذا هنالك من يحسب أن مثل هذا المجتمع يأبى الفردية الملفوظة ؛ إذ محال أن تكون مرفوضة على اطلاقها، في الوقت الذي يُسمى كل فرد باسم خاص يُميزه من سائر الأفراد. وقد انتهيت- بعد التحليل - إلى رأي هو أن الفردية لا تتناقص مع المجتمع إلا إذا فُهمت على أنها جوهر قائم بذاته مُغلق على نفسه في حصنٍ حصينٍ لا تنفتح جدرانه على خارجه. وأما إذا فُهمت على أن قوامها وكيانها وصلبها وصميمها هو في مجموعة علاقات«العلاقات» التي تربط الفرد بسواه من الناس أو الأشياء، رُفع التناقض، وأصبح الأصوب أن نقول:«الفرد في المجتمع»، بدل قولنا:«الفرد تجاه المجتمع»، وبقبول هذا المعنى للفردية، تتفرع لنا نتائج كثيرة عن «الأنا» و«الآخر»، إذ لا يعود أحد الطرفين مفهومًا بغير الثاني، وعن «الخاص» و«العام»، إذ يُشترط في الخاص أن يخدم العام، كما يشترط في العام أن يخدم الخاص، وهكذا من التفصيلات الجزئية الكثيرة التي تعترض حياتنا الفكرية.
وقضية رابعة هي قضية التزام الكاتب بمشكلات المجتمع، ووجهة النظر المعروضة هنا أن ذلك شرط يبلغ من البداهة حدًا يجعل اشتراطه تحصيلاً لحاصل، فالكاتب غير الملتزم بفكرته ومبدئه لم تشهده الدنيا بعدُ، وحسبه التزامًا أنه يستخدم اللغة في التعبير عن فكرته، واللغة الظاهرة اجتماعية، وليست هي بالرموز السحرية التي يقررها الكاتب لنفسه بحيث لا يفهمها أحد سواه. فإذا كانت لدي فكرة عن التعليم الجامعي - مثلاً- وعبَّرتُ عنها في مقالة أو كتاب، فمتى يكون هذا التعبير ملتزمًا ومتى لا يكون ؟ قد يقال: لا، نحن لا نريد ذلك، وإنما نريد أولئك الكُتاب الذين يكتبون ليمتعوا أنفسهم وقراءهم في غير مشكلة قائمة، لكني أسأل بدوري: أهي متعة لا تنطوي على «فكرة»؟ وإذا كان في ثناياها فكرة مبثوثة، أليست هي فكرة الكاتب الذي التزم أمام نفسه بعرضها على الناس في الصورة التي اختارها ؟ وهل هي فكرة لا فرق بين قبولها ورفضها، أو أن قبولها يُشكِّل القاريء على نحو، ورفضها يُشكله على نحو آخر ؟ فإذا كان هذا هو أمرها، إذن فهي متصلة بالناس وسلوكهم، وإذن فهو كاتب التزام فكرته في تطوير المجتمع.
إن أُمَّ المشكلات في حياتنا الفكرية هي محاولة التوفيق بين تراث الماضى وثقافة الحاضر. ومن هذه الرؤية، يعتقد أن من الماضى تتكون الشخصية الفريدة التي تتميز بها أمةٌ من أمة، ومن الحاضر تستمد عناصر البقاء والدوام في معترك الحياة ؛ فالأمة العربية عربية بما قد ورثته عن الأسلاف من عوامل، أهمها اللغة والعقيدة ومواصفات العرف؟ وبالإضافة إلى ذلك، أن الأمة العربية قد استطاعت الصمود في دوامات هذا العصر الجارفة العنيفة، بمقدار ما استطاعت أن تساير حضارة العصر في وسائله وتصوراته، وإنها لتقع بين ماضيها وحاضرها في مأزق حرج، فإذا هي اقتصرت - من جهة - على فكر الماضي وطرائق عبشه ووجهة نظره، جرفها الحاضر في تياره ؛ لأن له من الوسائل المادية ما لا قِبل لها بدفعه، وإذا هي اقتصرت - من جهة أخرى- على الحاضر وعلمه وفنه وسائر معالمه، ضاعت ملامح شخصيتها، وانطمست فرديتها، ولم يعد لها وجودٌ إلا كما يكون لقطرة الماء في البحر المتجانس وجودٌ مُتميز خاص، فهل من سبيل إلى التقاء الطرفين في مركب واحد، يُزيل ما بينهما من تباين وتضاد، ويؤلف بينهما في نسبج ثقافي مُتسق مُنسجم، يكون هو ما نطلق عليه اسم الثقافة العربية المعاصرة؟ ذلك هو السؤال الذي أُلقي في حياتنا الفكرية منذ قرن أو يزيد، ورجال الفلسفة من هؤلاء المفكرين بخاصة.
محاولة التوفيق بين تراث الماضي وثقافة الحاضر مشكلة بالنسبة لأي مجتمع متطور، هكذا يقول عن هذه الإشكالية، مشيرًا إلى أن العرب الأقدمين في محاولتهم التوفيق بين العقل والنقل - بين فلسفة اليونان وأحكام الشرع - وشهدناها عند مفكري الغرب إبان القرون الوسطى في قيامهم بالمحاولة نفسها التي حاولها فلاسفة المسلمين، وشهدناها في النهضة الأوروبية حين حاول أعلامها الجمع بين النهضة العلمية في عصرهم وبين التراث الكلاسي الذي ابتعثوه عن أسلافهم الرومان واليونان، كما شاهدناها في روسيا في القرن التاسع عشر بين الثقافة السلافية وثقافة غربي أوروبا، لكن محاولة التوفيق هذه أشد إشكالاً وتعقيدًا بالنسبة إلى الشعوب الآسيوية والأفريقية - بما في ذلك الأمة العربية - التي ظفرت بحريتها من براثن المستعمرين؛ وذلك لأن المشكلة قد أُضيفت إليها من العناصر ما زادها عسرًا، فمن هذه العناصر المضافة أن ثقافة العصر التي يُراد بها التوفيق بينها وبين تراث الماضي، هي نفسها ثقافة المستعمر. وإنه لعسير على النفس أن تُقبل على ثقافة ارتبطت عندها بمن أستغلها واستذلها، واستهان بثقافتها وعقائدها. فإذا كان المستعمر كريهًا ممقوتًا، فكذلك كانت - عند معظم الناس - ثقافته المرتبطة به، إذ ليس من اليسير على الكثرة الغالبة من الناس أن تقوم بعملية بالتجربة العقلية التي تفصل بين المستعمر وثقافته، بحيث ترفض الأول وتقبل الثاني، ولهذا سرعان ما أرتبطت النزعة القومية من جانبها السياسي الذي حاول الفكاك من قيود المستعمر ليظفر بالحرية والاستقلال، سرعان ما ارتبط هذا الجانب السياسي من الحركة القومية، بالجانب الثقافي الذي حاول تثبيت الجذور المحلية في تربة الأرض، لتعود إلى الأمة شخصيتها التي أوشكت على الضياع.
إن قصة النزاع بين العقل وغير العقل من جوانب الإنسان يراها قديمة قدم التاريخ، فآنًا هو نزاع بين العقل والتقاليد، كما حدث لسقراط، وآنًا آخر هو نزاع بين آلعقل والتصوف، كما حدث في احتجاج الغزالي على الفلاسفة، وآنًا ثالثًا هو نزاع بين العقل والوجدان، كما حدث بين فولتير وروسو، وآنًا رابعًا هو نزاع بين العقل والدين، كما حدث فى النصف الثاني من القرن الماضى بصفة خاصة. ولم تكن هذه هي كل ألوان الصراع بين العقل وغيره من جوانب الإنسان، وكأنما هذا العقل عدو للفطرة البشرية، وليس جزءًا منها، كأنه مستوفٍ وليس أقحم نفسه في حياة ليُضلها ويُفسدها. ومهما يكن من أمر، فقد ظهر في أيامنا صراع جديد، هو بين العقل وخبرة الإنسان الباطنية المباشرة، أو قل - إن شئت - بين العقل والحياة، بين العام والخاص، بين الكل والجزء، بين الجماعة والفرد.
لقد شهد العالم - ولا يزال يشهد - سيطرة العلم تزداد قبضتها على الخناق. وإذا قلنا العلم، فقد قلنا العقل، ما أخذ يغرينا أن نُسلم الزمام للبحوث العلمية وما تنتهي إليه من نتائج، مهما يكن أمر تلك النتائج، فالكلمة لأنابيب المعامل وقوائم الإحصاء، وعلينا أن نسمع ونطيع. فكان من الطبيعي أن تنشأ فلسفة لتواجه هذا الوثن الجديد، لتصيح في وجهه قائلة: لا، إنه إذا كان العقل أداة صالحة للتحليل والتعليل، فلا يزال الإنسان أغزر من أن تُخبط أحكام العقل وتحليلاته بكل ما في أعماقه وأغواره.