لكل غاية وسيلة، ولكل هدف خطة وبرنامج
التيتي الحبيب
2024 / 9 / 6 - 20:30
عند الكلام عن العلاقة بين الغاية والوسيلة تنتصب أمامنا مناهج متعددة ولعل أهمها اثنان: الأول منهج براغماتي والثاني جدلي مادي يخدم مصالح الطبقة العاملة الطبقة الثورية حتى النهاية. فإذا كان المنهج البراغماتي وجد في الميكيافلية التنظير والتسويغ الأمثل بالقول الغاية تبرر الوسيلة بغض النظر عن طبيعة الوسيلة وقيمتها الإنسانية، فإن المنهج الجدلي المادي أي الماركسي يطرح موضوع الغاية والوسيلة كسيرورة تفاعل جدلي لتناقضات الحالة الاجتماعية أو الطبيعية قيد الدرس والتغيير.
دعونا نعالج هذه القضية في تعينها كما يقول هيغل، وبعيدا عن جانبها النظري البحث. نعني بالتعين هنا، موضوع تشتت القوى التقدمية (أفضل هنا هذا المفهوم عن مفهوم اليسار وان كنت سأضطر لاستعماله لاحقا) ومعضلة الوحدة. فالوحدة بمعناها الميتافيزيقي إما أن تكون أو لا تكون لأنها تجسيد لإرادة من يقول كن فيكون. هي وحدة أبدية سرمدية وحتمية. بينما الوحدة، بالمعنى الجدلي هي نتيجة صراع بين ضدين أو عنصرين، ولذلك فهي حالة مؤقتة متنقلة من وضع إلى آخر. والمنطق الجدلي المادي يتناول الوحدة عبر قوانين: صراع الأضداد، والتراكم الكمي المفضي للقفزة النوعية، وبمفعول نفي النفي. ولان الحالات تختلف جوهريا بعضها عن بعض، فإن تلك القوانين الجدلية تفعل وتؤسس بكيفية مختلفة تأخذ في الاعتبار نوعية الحالة.
في جدلية التنظيم
ولان التنظيم هو التركيز المادي للخط الأيديولوجي والسياسي وهو الأداة لتطبيق الخط الاستراتيجي والمخططات التكتيكية، لذلك يخضع التنظيم لبعض القوانين المرشدة أو الوسيلة حسب كل غاية.
1- عند بناء الحزب كتعبير طبقي نسلك هذا المنهج:
وحدة - نقد - وحدة.
2- عند بناء الجبهة كتعبير عن تحالف طبقات أو فئات طبقية نسلك هذا المنهج:
نقد – وحدة – نقد.
وحججنا للبرهنة هي كما يلي:
في موضوع الحزب.
كلما كانت التيارات الاشتراكية او الماركسية متنافرة ومتحاربة ومتشبثة بروح الحلقية وتموت في العصبوية، فاعلم ان الحركة الفعلية للطبقة العاملة توجد في الحضيض، وأنها تكاد تكون غير محسوسة او ان الطبقة العاملة مشتتة مهمشة تنوء تحت سياط الاستغلال الطبقي لا تكاد تقدر حتى على لحس جراحها.انها مثخنة عاجزة لا تفهم ما تتعرض له وما بالك ان تكون واعية بذاتها كطبقة تقود الصراع الطبقي تحرر نفسها وتحرر معها حلفاءها الكادحين.
في المقابل اذا كانت تلك التيارات تتقارب تعمل بشكل وحدوي تعمل ضمن منظومة وحدة-نقد-وحدة وتبني جسور التقارب او حتى الاندماج فاعلم ان الحركة الفعلية للطبقة العاملة حركة مفعمة بالحياة واعدة تراكم فيها الطبقة العاملة كل عوامل القوة وهي تتجه الى اذراك ووعي ذاتها لذاتها ودورها في المجتمع وتتهيأ جيدا وجديا لقيادة الثورة الاجتماعية.
هكذا نستخلص مضمون هذا القانون الذي يمكن ان نصوغه على الشكل التالي: تضمحل العصبوية والحلقية بين التيارات الماركسية كلما تقوت الحركة الفعلية للطبقة العاملة.لهذا السبب وجب علينا ان ننصهر في فرن الصراع الطبقي للطبقة العاملة وان نشحذ همتها ونساعدها على ان تتقوى حركتها الفعلية وفي ذلك بلسم وأسباب مناعة وقوة التيارات الماركسية وتقاربها بل انخراطها في بناء الحزب المستقل للطبقة العاملة.
في موضوع الجبهات.
في عملنا الجبهوي وبناء التحالفات كنا وسنظل نلتزم بهذه الوحدة الديالكتيكية: نقد – وحدة – نقد. بمعنى النقاش والحوار على أساس تدقيق نقاط الخلاف وتحديد نقاط الالتقاء البسيطة او العميقة وساعتها نحدد المشترك الذي على قاعدته نتوحد لتحقيقه وفي هذه الوحدة وفي معمعان الممارسة والانجاز لتتضح نقاط تحتاج للنقاش والتطوير وهكذا دواليك.
في الممارسة العملية أو لمعالجة حالة اليسار المغربي ووضع التشرذم
فالكلام عن اليسار(استعمل هنا هذا المفهوم رغم ضبابيته وأفضل عنه مفهوم القوى التقدمية) وعن تشرذمه لا بد وان يسوقنا إلى تناول قضايا منهجية وتوضيح طريقة المعالجة التي يجب اعتمادها حتى يكون تحليلنا والاستنتاجات التي يوصل إليها أكثر موضوعية .فاليسار المغربي لا يمكن الكلام عنه خارج سياقه التاريخي، فهو له ماض وحاضر وبكل تأكيد له مستقبل. اليسار المغربي هو ابن بيئته، وليد صراع طبقي دار ولا يزال بين طبقات اجتماعية بينها تناحرات عدائية كما بين بعضها تناقضات ثانوية أو غير رئيسية. والكلام عن تشرذم اليسار لا بد أيضا إن يتطرق لمسألة عن أي تشرذم نتكلم هل هو تنظيمي أم هو في اختلاف المرجعيات أم سياسي واختلاف الآفاق التي يطرحها؟
قبل التطرق إلى مختلف تلك القضايا التي اشرنا إليها أعلاه، لا بد من كلمة مقتضبة عن التدليل على راهنية وملحاحية البحث في اليسار المغربي واهم اعطابه، والتي كشفتها الفترة الحالية من تطور الصراع الطبقي بالمغرب. لقد داهمت حركة 20 فبراير كل القوى السياسية والاجتماعية وكشفت بشكل واضح وجلي ذلك الفرق الشاسع بين الاستعدادات الهائلة للنضال للجماهير الكادحة والعجز المدقع لأدوات التأطير والقيادة السياسية لتك القدرات الموضوعية. وقد أبان حينها اليسار عن وضع كساح شديد لأنه لم يتوفر على عمود فقري قوي يمكن أن يتحلق حوله هذا الجسم اليساري. فأمام هذه الحالة، لم يكن من الغريب أن تصاب صفوفه بالتصدع سواء أمام الهبة الجماهيرية الهائلة وما تنتظره من حزم ومتانة القيادة ومن دور طليعي وتاريخي، أو ما تعرض له مناضلوه من تنكيل وقمع أو من شراء ورشوة.
إن هذا التوصيف لواقع الحال هو ما يجب أن نضيفه إلى ما تراكم عبر التاريخ من إعطاب وفشالات، هو ما يدفعنا اليوم إلى الدعوة الصريحة إلى ضرورة البحت الجماعي عن الأسباب العميقة لهذه الوضعية وتناولها بجرأة وبموضوعية.
لقد تبلور اليسار تاريخيا في بيئة اجتماعية وطبقية تتسم بسيادة نمط إنتاج مركب فيه ما هو قبل رأسمالي و ما هو رأسمالي مستنبت بفعل وجود الاستعمار الأوروبي المباشر(الاسباني والفرنسي). لقد ساد في المجتمع الأمية والجهل وطبعا الفقر الشديد. في هذه البنية اندلعت نضالات اجتمعت فيها المطالب الاجتماعية والوطنية لعب في قيادتها العنصر المثقف دورا كبيرا، وهو ما بوأ الحركة الوطنية موقع القيادة لهذه النضالات. وهو ما فسر أيضا الإجهاض الذي تعرض له كفاح شعبنا ودخول مرحلة الاستعمار الغير مباشر تحت قيادة ناهضة للبرجوازية الكمبرادورية وكبار الملاكين العقاريين الإقطاعيين. كانت نهاية الخمسينيات مرحلة مفصلية في تبلور يسار بدأ يتلمس آثار نتائج إجهاض معركة التحرر من الاستعمار وضرورة مواصلة مهام تلك المعركة، وهو ما عبر عنه الانشقاق عن حزب الاستقلال وقيام الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في 1959. لقد نشأت حالة مستجدة في المغرب بدأت فيها معالم التعبيرات السياسية للطبقات الاجتماعية تظهر للعيان، وبدأت البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية تتبلور أكثر، بل أخذت تبحث لها عن الحشد الجماهيري لكي تسود وتحوز الغلبة. رصدت الدولة الكمبرادورية كل هذه المعطيات واستعدت لمواجهتها استعدادا سياسيا وعسكريا توفرت فيه كل مظاهر وعوامل الانقلابات العسكرية التي وقعت تحت سماوات أخرى. لقد ووجه ا.و.ق.ش. وكذلك الحزب الشيوعي المغربي لكن بدرجة اقل بسياسة الأرض المحروقة. لقد كانت مرحلة الستينات مرحلة بناء الدولة الكمبرادورية وتصفية كل تعبير سياسي واجتماعي معارض. وما اغتيال المهدي بنبركة إلا التعبير السياسي عن هذه المرحلة، يحمل أيضا في ثناياه ضمن ما يحمل، منع بروز أية قيادة سياسية تحظى بالتعاطف الشعبي بالرمزية. واستطاعت هذه الحملة القمعية الشرسة ان تعصف بكل الرصيد الجماهيري لليسار آنذاك وان تدخله إلى مرحلة الانطواء والدفاع على حق التواجد. في نفس الوقت تمادت دولة الكمبرادور في الإفصاح عن طبيعتها كدولة في خدمة الرأسمال الأجنبي وممثليه المحليين على حساب كل الانتظارات التي بناها المغاربة تجاه مساهمتهم في معركة الاستقلال. أمام انكشاف هذه الحقيقة كان من الطبيعي أن تندلع المقاومة الشعبية لكن هذه المرة من طرف العمال والفلاحين الفقراء والشبيبة المدرسية. نضالات مهدت لبروز يسار جديد مسلح بإرادة أقوى مما شهده يسار الحركة الوطنية، فاخذ على عاتقه خوض معارك الصراع الطبقي على قاعدة خدمة مصالح الطبقات الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير الجدري وعلى رأسها الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء. كانت ولادة هذا اليسار ولادة عسيرة، ووجهت بدورها بسياسة الأرض المحروقة لم يترك فيها النظام سلاحا إلا واستعمله. ومن بين هذه الأسلحة، تدشين النظام لمرحلة جديدة من الرغبة في احتواء اليسار المنهك بالضربات القاتلة. فكانت مفاوضات أسفرت عن المؤتمر الاستثنائي وتشكل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وسيادة خط النضال الديمقراطي، والطلاق مع تجربة انتفاضة 3 مارس 1973. وفي غمرة هذه الحملة جاء اغتيال عمر بنجلون، لأنه أصبح يشكل خطرا على المخطط الجديد في الاحتواء . كان هذا الاغتيال السياسي لعمر بنجلون بمثابة تدشين مرحلة جديدة تم فيها توريط الإسلام السياسي المستنبت في المغرب في دم اليسار فيصبح شريكا للنظام في جريمة سياسية سيتحمل تبعاتها عبر التاريخ.
لقد سار النظام على خطين متوازيين في تعامله مع ا ش وقش وحزب التقدم والاشتراكية من حيث تمهيد طريق الاحتواء، ومع اليسار الماركسي اللينيني بالتصفية والاجتثاث فكانت فترة ما بعد 1975 جد معبرة على ذلك لا يتسع المجال لتوضيحها.
ومن اجل فهم دقيق أيضا لسياسة النظام تجاه اليسار لا بد من الإشارة إلى جانب أخر اعتمده في الاحتواء لبعض هذا اليسار- و هو ما يفسر خيانات بعض مناضليه - وهو المتمثل في ما قام به النظام من مبادرات اجتماعية وسياسية قصد توسيع قاعدته الاجتماعية والتي كانت قد عرفت انحصارا شديدا كادت ان تكون سببا مباشرا في القضاء عليه، وهو ما عبرت عنه المحاولتين الانقلابيتين لسنتي 1971 و1972 . فعلى قاعدة هذه السياسة انفتحت آفاق الاستقطاب الاجتماعي للعديد من قيادات اليسار والسماح لها بالاغتناء. كما أن فتح المشاركة في اللعبة السياسية لهذه الأحزاب مكن أيضا من تشكيل أعيان من داخل هذه الأحزاب أو دفعهم لمراكز قيادية داخل أحزاب اليسار وتوجت هذه السياسة بصفقة التناوب التوافقي والتي دخل بموجبها ذلكم الجزء من اليسار إلى جبة المخزن ولم يخرج.
هكذا يتضح أن اليسار هو نتيجة معارك سياسية وطبقية عرفتها البلاد، خضع بدوره إلى عملية فرز شديدة هي ما نتج عنه اليوم ما نراه من تعبيرات يسارية تكاد تشكل انوية منعزلة بعضها عن بعض، تدبر حالها بما يضمن لها البقاء ومقاومة كل عوامل التهميش والإبعاد. إن ما نعنيه اليوم باليسار هي تلك القوى السياسية والنقابية والجمعوية والفعاليات الفردية ومجموعات تسعى للارتباط النضالي الفعلي مع مختلف الطبقات الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير الجدري. وهو يسار مناضل غير مندمج في دواليب الدولة لا يرى مصالحه كجزء من مصالح الطبقات السائدة، يضع نفسه في تعارض إلى هذا الحد أو ذاك مع الكتلة الطبقية السائدة.
فإذا كان "اليسار الجديد" في نهاية الستينيات من القرن الماضي قد أجاب على سؤال مالعمل؟ آنذاك بضرورة انجاز القطيعة مع دولة الكمبرادور والملاكين العقاريين الكبار و بضرورة بناء حزب البروليتاريا لقيادة الثورة الاجتماعية والسياسية، فإن على اليسار اليوم وبعد تقييم وضعه على ضوء حركة 20 فبراير المجيدة ان يجيب أيضا على نفس السؤال مالعمل ؟
إن ردم الهوة الموجودة بين الاستعدادات الهائلة للنضال والتي عبرت عنها هبة 20 فبراير- والتي لم يعرف مثيلا لها شعبنا طيلة تاريخه المعاصر- وبين الوضع الراهن لليسار، إن ردم تلك الهوة، يتطلب تأهيلا لليسار يضعه في موقع العمل الجدي وليس اللفظي في الارتباط العضوي بالطبقات الشعبية وفي طليعتها العمال والكادحون. وان يترجم ذلك الارتباط في برامجه السياسية وفي مرجعيته الفكرية والإيديولوجية وفي بنياته التنظيمية. عكس ذلك يعني ابتعاد اليسار عن محيطه والانغلاق على نفسه في فئات اجتماعية ضيقة من البرجوازية الصغيرة والمتوسطة، وهو بذلك سيفقد صلاته مع منابع فكر اليسار ويتحول إلى أدوات الارتقاء السياسي لتلك الفئات الاجتماعية، والتي ما فتئ النظام يسهل لها مهمة الالتحاق بجوقته. كما على اليسار أن يؤهل نفسه لتحمل مسؤولية التعبير عن مصالح تلك الطبقات الشعبية وفي طليعتها العمال والكادحين، لكن بحزم و إرادة قوية يعتمد على الكفاحية، وبناء موازين القوى مع العدو الطبقي وليس عن طريق المساومة والجري وراء المهادنة والتعاون الطبقي الهادف إلى إصلاح الدولة الكمبرادورية. واليسار المعني هنا طبعا لا ينحصر فقط في التعبيرات السياسية بل في النقابات وفي الجمعيات المختلفة. فعلى كل هذه التعبيرات أن تنهض بما يمليه عليها واقعها من مهام وان تبحث عن وسائل تقوية موازين الفعل، وحشد الطاقات لخوض الصراع الطبقي على مستوى أعلى. وإذا أردنا اليوم التقدم نسبيا في عملية تطوير عمل اليسار، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار طبيعة الجواب المقدم من طرف كل مكون من مكوناته حول الموقف من النظام القائم، فان هناك حلقة من اليسار يمكنها اعتماد مبدأ وحدة - نقد - وحدة في معالجة إشكاليات العمل الوحدوي والحزبي بين مكوناتها. في حين هناك حلقة أخرى يمكن أن تعتمد معها الحلقة الأولى مبدأ نقد- وحدة - نقد في معالجة إشكاليات العمل الوحدوي والجبهوي. وطبعا لكل حلقة من هذه الحلقات برنامجها وأهدافها. ولعل تبني مثل هده المنهجية وجعل بوصلة كل المكونات اليسارية تتوجه نحو الإدراك العميق لطبيعة المرحلة ولطبيعة الصراع الطبقي وللتناقضات الطبقية والسياسية والتمييز بين الأساسي والرئيسي وبين الجوهري والثانوي لعل ذلك يساعد على الالتفات إلى حالة التشرذم والتشظي والبحت عن القواسم المشتركة لفعل يساري ينهض ويمكن من تحقيق أهداف المرحلة. بكل تأكيد ليست هذه إلا مقاربة أولوية، لا بد وان تستتبعها أبحاث أخرى ستكون لنا لها عودة.