شذرات من ذاكرة كردستانية (الحلقة الثانية)


عبد الحسين شعبان
2024 / 9 / 6 - 13:30     

نقلتني المرحلة الجامعية من التعاطف عن بُعد إلى التفاعل عن قرب، وخصوصًا وكنت قد تعرّفت فيها على عدد من الطلبة الكرد، أولهم صديقي التاريخي شيرزاد النجار، وتمتد صداقتي معه إلى أكثر من 60 عامًا، وحتى حين افترقنا للدراسة في الخارج، وكلّ منا في بلد، كنت أسأل عنه ويسأل عني. وكان معي في الصف ذاته طيب محمد طيب البرواري، وهو صديق المحامي حسن شعبان كذلك، إضافة إلى علاقتي مع ناوشروان مصطفى وحواراتي معه، وهو ما دوّنته في كتابي "بشتاشان - خلف الطواحين... وثمة ذاكرة: شهادة وليست رواية" (2024)، وفرهاد عوني وصلاح عبد الجبار المندلاوي وعادل مراد وآخرين، كما كان هناك عدد من الطلبة الكرد الشيوعيين، بينهم صديقنا نوروز شاويس ويوسف مجيد وحسن وجمال أسد وصلاح زنكنة ومالك حسن وآخرين. وقد شهد العام 1967 أربع أحداث كبرى:
الحدث الأول - الانتخابات الطلابية التي جرت في ربيع العام 1967، والتي كان التعاون جليًا فيها مع الطلبة الكرد. وكانت النتيجة فوز اتحاد الطلبة بنحو 76% من المقاعد الانتخابية، الأمر الذي دفع الحكومة لإلغاء نتائج الانتخابات في اليوم التالي بحجة أن القوى الشعوبية بدأت ترفع رأسها من جديد.
الحدث الثاني - عدوان 5 حزيران / يونيو 1967، الذي شارك فيه الطلبة الأكراد بحماس معنا في التظاهرات العارمة التي عمّت بغداد، وأستطيع القول أن حماستهم لم تكن أقل من حماسة الآخرين، وحين سمعنا أن الحركة الكردية أوقفت عملياتها العسكرية، زاد الأمر من تقديرنا، علمًا بأن ثمة هدنة تمّ توقيعها في 29 حزيران / يونيو 1966 مع حكومة عبد الرحمن البزاز.
الحدث الثالث - الانشقاق في الحزب الشيوعي في 17 أيلول / سبتمبر 1967، الذي انقسم إلى فريقين؛ الأول - القيادة المركزية (مجموعة عزيز الحاج)، والتي كانت تمثّل أغلبية كوادر وقواعد الحزب، لاسيّما النشيطة؛ والثاني - جماعة اللجنة المركزية (الفريق المعتمد لدى السوفييت بقيادة عزيز محمد)، وقد انقسم الشيوعيون الكرد بين الفريقين، ولاسيّما في بغداد، التي شهدت صراعًا حادًا انعكس على الشارع، حيث شهد صدامات عديدة.
الحدث الرابع - الإضراب الطلابي أواخر العام 1967 ومطلع العام 1968، الذي ساهم فيه الطلبة الكرد بفاعلية، وقد عقدنا عددًا من الاجتماعات مع قيادات كردية وطلابية لتعزيز الموقف، خصوصًا وقد راجت حينها فكرة الدعوة إلى "جبهة طلابية موحدة"، وهو ما كنا قد اقترحناه في إطار اتحاد الطلبة، بالتعاون والتحالف مع اتحاد طلبة كردستان والاتحاد الوطني لطلبة العراق (مجموعة سوريا)، وتنظيمات الحركة الاشتراكية العربية، التي شكلت لاحقًا وبدعم منّا ما سمّي "جبهة الطلبة التقدميين" في انتخابات العام 1969، وكانت الصلة أيضًا مع تنظيمات حزب العمال الثوري العربي (مجموعة علي صالح السعدي).
في هذه الفترة تعزّزت علاقتي مع الأكراد من الفريقين، جناح المكتب السياسي وجناح الحزب الديمقراطي الكردستاني، وأتذكّر أنني في مناسبات عديدة زرت مكاتب جريدتَيْ "النور" و"التآخي"، تعبيرًا عن التضامن ولشرح بعض القضايا، والتقيت بمام جلال الطالباني وصالح اليوسفي أكثر من مرّة.

ما بعد انقلاب 17 تموز / يوليو 1968
بعد انقلاب 17 تموز / يوليو 1968 كنت على اتصال مستمر بقيادات الطلبة الكرد، ودخلنا مفاوضات مشتركة طيلة العام 1969 مع الاتحاد الوطني لطلبة العراق، الذي منح 4 عضويات شرف لقيادات كردية سابقة، و4 لقيادات من اتحاد الطلبة، كنت من بينهم، لما قدّموه من تضحيات وما لعبوه من أدوار في إطار الحركة الطلابية. واستمرّت هذه العلاقات حتى بعد بيان 11 آذار / مارس 1970، الذي اعتبرناه خطوة مهمة على صعيد الحل المنشود للقضية الكردية.
وفي البداية كان المفاوضون الكرد مُمَثلين بجماعة المكتب السياسي طيب محمد طيب وفاضل رسول ملّا محمود (انتقل لاحقًا إلى القيادة المركزية للحزب الشيوعي، ثم إلى الحركة الإسلامية). وقد حاول أن يرتّب لقاءً بين الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني (حدكا) بقيادة عبد الرحمن قاسملو والحكومة الإيرانية في العام 1988، إلّا أنه اغتيل غدرًا في هذا الاجتماع، وبعد بيان 11 آذار صار ممثلو الحزب الديمقراطي الكردستاني هم الذين يمثلون الكرد لدى الحكومة، وكنا على صلة بهم قبل ذلك، وخصوصًا عادل مراد وفرهاد عوني.
ثلاث أحداث بارزة عشتها خلال الفترة المنصرمة:
الأول - العريضة التي حملناها تأييدًا لبيان 11 آذار / مارس، وحملت تواقيع نحو 3 آلاف شخص تأييدًا للبيان، وكنّا قد بدأنا تجميع التواقيع في مذكرة موجهة إلى الرئيس أحمد حسن البكر والملّا مصطفى البارزاني، تدعوهما للجلوس إلى طاولة المفاوضات للتوصّل إلى حل سلمي للقضية الكردية، تعزيزًا للوحدة الوطنية. وقد حملناها إلى الصحف الرسمية الثورة والجمهورية وبغداد أوبزيرفر، إضافة إلى الإذاعة والتلفزيون، كما أرسلت برقية باسمي واسم لؤي أبو التمّن تأييدًا للبيان باسم الطلبة الديمقراطيين، نشرتها "جريدة النور" يوم 23 آذار / مارس 1970.
الثاني – تظاهرة تأييد بيان 11 آذار / مارس، التي شاركت فيها مجموعة من إدارة الحزب الشيوعي، وذلك يوم 21 آذار / مارس 1970، وقد تعرّضت التظاهرة للقمع، وقامت مجموعة بتفريقها دون أن يكون لها صفة رسمية، وفيها علمت باغتيال محمد الخضري، القائد النقابي للمعلمين قبل يوم واحد.
الثالث - إشرافي على تأسيس اتحاد الطلبة العام في كردستان بعد بيان 11 آذار / مارس 1970، وذلك في المؤتمر الذي انعقد في أربيل، وقد حضره 37 مندوبًا من جامعة السليمانية وجامعة الموصل ومن معاهد وثانويات أربيل وكركوك وغيرها، وكنت قد التقيت بفاتح رسول (أبو أسوز) من قيادة الإقليم، الذي كلّف أحد رفاق الإقليم لمرافقتي (ملّا بكر)، ونقلني إلى مكان السكن منعم العطار، أحد أبرز الناشطين في أربيل، واختيرت قيادة للاتحاد الوليد ضمن إطار اتحاد الطلبة مع خصوصية استقلالية تتعلّق بكردستان في ظروف ما بعد 11 آذار / مارس، حيث تم ترشيح مالك حسن، الذي كان قد انتسب إلى جامعة السليمانية وسبق له أن عمل في قيادة اتحاد الطلبة في أواخر الستينيات.

مع البارزاني في كلاله!
كان اللقاء مع البارزاني الكبير في گلالة تاريخيًا. وكنت قد وصلت مع الوفد الذي شكلته من داخل المؤتمر إلى بيرسيرين، وطلبتُ من الملازم خضر (أبو رائد كما يُكنّى حينها)، بعد أن أمنت لنا قيادة فرع الإقليم وثيقة عدم تعرّض، الاتصال بگلالة وقيادة البارزاني لإبلاغها أن وفدًا وصل من بغداد، ينوى زيارته وتقديم التهاني له ويحمل رسالة معه.
وبالفعل جرى تأمين اللقاء ونقلنا بسيارة لاندروفر إلى مقر البارزاني. وفي البداية عبّرت عن شكري لاستقبالنا وأشرت إلى أننا اتّخذنا قرارًا في مكتب السكريتاريا للقدوم شخصيًا وتقديم التهاني بمناسبة صدور بيان 11 آذار / مارس، كما نقلت له شكوى بغدادية وعدد من المحافظات التي طالتها حملة الاعتقالات التي شنّتها الحكومة ضدّنا بعد البيان، واعتقال العشرات من زملائنا ورفاقنا وتعذيبهم.
الجدير بالذكر أن هذا اللقاء التاريخي كان قد التأم في مطلع شهر أيار / مايو 1970، أي بعد نحو 50 يومًا على صدور بيان 11 آذار / مارس، وبحضور صالح اليوسفي، محمود عثمان، علي السنجاري وعلي عبد الله، وقد استقبلنا كوفد فرنسوا حريري. وخلال وجودنا لدى البرزاني، جاء من يخبره أن عزيز شريف قد وصل، وكنت قد شكرته واستأذنت منه للمغادرة، فأشار لي بالبقاء لوحدي، وطلبت من أعضاء الوفد الانتظار خارج القاعة، باستثناء الملازم خضر، الذي أشّر له البرزاني بيده للبقاء، وكان يحترمه كثيرًا لشجاعته ودوره في معركة هندرين. كنت على يمين البارزاني، وجلس عزيز شريف على يساره، بعد أن أخلى صالح اليوسفي مكانه له وجلس إلى جانبه.
استمرّ اللقاء 3 ساعات ونصف الساعة، وأعدت على مسامع عزيز شريف كل ما كنت قد ذكرته للبارزاني بطلب من الأخير، وبلغة حقوقية هذه المرّة في حين أن لغتي مع البارزاني كانت وجدانية عاطفية إنسانية. وكان شريف متعاطفًا معنا بالطبع، وربما يعرف أكثر مما أعرف، لكنه لم يتكلّم، خصوصًا وكان وزيرًا للعدل حينها.
وقد وجّه لي البارزاني عدّة أسئلة بخصوص حملة الإرهاب التي بدأت بعد بيان 11 آذار / مارس، وأجبت عليها لتوضيح الصورة، وكان تعليقه أنه سيعمل ما في وسعه لوقف الانتهاكات وإطلاق سراح المعتقلين. ثم طلب من صالح اليوسفي كتابة رسالة جوابية يشكرنا فيها على رسالتنا. وقد نشرنا هذه الرسالة التاريخية في العدد الجديد من جريدة "كفاح الطلبة"، التي كنا نصدرها ( حزيران / يونيو أو تموز / يوليو 1970)، وكذلك نشرتها "جريدة طريق الشعب" السريّة، وكنت قد وجدتها مترجمة في الخارج إلى عدد من اللغات، والتي مثّلت طورًا جديدًا من أطوار العلاقة بين الحركة الوطنية. وقد رويت لقائي بالبارزاني بتفاصيل أوسع في دراستي الموسومة "البارزاني - الكاريزما الشخصية والواقعية السياسية" المنشورة في وكالة أنباء أكانيوز في 1 آذار / مارس 2012.
وأختتم هذه الفقرة بالقول: لقد عبّر البارزاني الكبير في هذا اللقاء، وبطريقته الخاصة، عن الإخاء العربي- الكردي، بإشارته أنه لا يمكن للجزء الكردي أن يتعافى طالما أن الجزء العربي من العراق في وضع غير سليم. ولم يكن البارزاني ليهمل قواعد الدبلوماسية والبروتوكول والحصافة السياسية، حيث وجه رسالة تندد بالإرهاب بعد أسابيع من بيان 11 آذار / مارس والتي انتشرت على نحو واسع.
لقد كان البارزاني قائدًا استثنائيًا بكل معنى الكلمة، حيث استطاع أن يجمع بين الإصرار وروح المقاومة من جهة، وبين المرونة والاستعداد للتعاون من أجل إيجاد حلول مرحلية من جهة أخرى. وإلى جانب الكبرياء والعزّة القومية، كان يحترم الشعوب والأمم الأخرى. وعلى الرغم من أنه كان ثائرًا ومتمرّدًا واقتحاميًا في ميدان القتال، فقد كان متسامحًا ومسالمًا وغير ميّال للعنف، لاسيّما بحق الأبرياء والعزّل.
كان البارزاني عراقي الهوى كردي الهويّة، ولعلّ تجربته تحتاج إلى دراسات متخصصة، فقد استوعب الدروس التاريخية، خصوصًا بعد اتفاقية 6 آذار / مارس 1975، وهو أن أي حل مهما كان إيجابيًا ويستجيب إلى حدود معيّنة لمطالب الشعب الكردي، سيبقى ناقصًا ومعرّضًا للإقصاء في ظلّ غياب المؤسسات الدستورية، وذلك لإمكانية العدول عنه وتسويفه وإجهاضه، خصوصًا دون رقابة شعبية ومساءلة قانونية.
لقد كانت مبادرة البارزاني بتوجيه رسالة تضامن، لها وقع كبير على المستوى الداخلي والخارجي، وهي أول بادرة انذار علنية وإشارة صريحة ضد الممارسات القمعية، إذ أن بيان 11 آذار / مارس لم يكن بالإمكان تطبيقه، في ظل تدهور حالة الانفراج السياسي، وتلكؤ القيام بإصلاحات ديمقراطية، التي تشكل صمام الأمان لتلبية مطالب الشعب الكردي. ووعد البارزاني في رسالته بذل ما يستطيع لوقف الانتهاكات والإرهاب مختتمًا إياها بالآية القرآنية الكريمة "لا يكلّف الله نفسا إلا وسعَها" صدق الله العظيم.
ولكي تتم متابعة توجيهاته، حاول تنظيم صلة خاصة مع سامي عبد الرحمن (وزير شؤون إعمار الشمال آنذاك) لمتابعة الموضوع، عن طريق صحيفة التآخي وأخرى عن طريق الفرع الخامس للحزب في بغداد، وهناك تلقى الأخوة المسؤولون مني مطالعات ومعلومات عن الحملة التي قامت بها السلطات الحكومية ضد عدد من اليساريين والقوميين، إضافة إلى بعض المنظمات الفلسطينية في حينها، وذلك في ظروف بالغة الدقة والحساسية.
أتذكّر أن البارزاني الكبير كان قد أهداني إسبيلًا (فلتر) للسكائر صنعه بسكينه الحاد في الوقت الذي كان يستمع فيه إليّ وهو يقوم بنجر ذلك الإسبيل من خشب شجر كردستان، وقد بقيت أحتفظ به طيلة نحو 10 سنوات، لكن يد الزمن عبثت به، لاسيّما بعد مصادرة مكتبتي وحاجياتي الشخصية، بما فيها شهاداتي الدراسية وصوري ومحاولاتي الشعرية الأولى و3 مخطوطات، وذلك بعد مداهمة منزلي.

المرحلة الرابعة - السبعينيات ودراسة الدكتوراه وما بعدها
في الخارج كنت أنسّق مع طارق عقراوي، هو بصفته رئيسًا لجمعية الطلبة الأكراد في أوروبا، وأنا بصفتي رئيسًا لجمعية الطلبة العراقيين، بالإضافة إلى العلاقة المميزة مع السفير العراقي في براغ محسن ديزئي.
وحين حصل الافتراق بين الحركة الكردية والحكومة العراقية، واندفع بعض رفاقنا، كنت من أشد المتحفّظين، بما فيها حين أقدموا مع الحكومة العراقية لشق جمعية الطلبة الأكراد لاعتبارات سياسية، وكان رأيي أنه لا ينبغي القيام بمثل تلك الخطوة مهنيًا، لأن الأمر خارج دائرة السياسة واختلافاتها، واعتبرت التصعيد ضدّ الشعب الكردي وقصف مناطق كردستان، إنما يضرّ بالوحدة الوطنية، ويلحق أفدح الأضرار بالحركة الوطنية ومستقبلها، لذلك نظرت بعين النقد إلى محاولات الحكومة توظيف بعض خلافاتنا مع الحركة الكردية لصالحها، وأسفت لانجرار البعض في هذا الاتجاه، لاسيّما بضم بعد العراقيين إلى جمعية الطلبة الأكراد المنشقة، بزعم أنهم من أصول كردية، وهو ما لقي تهكّم وسخرية البعض، وهكذا كنت أغرّد خارج السرب، إيمانًا مني بوحدة المنظمات المهنية، وقناعتي بحقوق الشعب الكردي. وكم كنت متألمًا لحمل السلاح من جانب بعض رفاقنا تعاونًا مع الحكومة ضدّ الحركة الكردية.
كنتُ أنظر من خلال دراستي القانونية إلى اتفاقية 6 آذار / مارس 1975، والمقصود بذلك "اتفاقية الجزائر"، التي وقّعها شاه إيران محمد رضا بهلوي مع نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين، باعتبارها اتفاقية غير متكافئة، بل ومجحفة، ألحقت أضرارًا بحقوق العراق في الماء واليابسة، فضلًا عن المستقبل، وهو ما تضمّنه كتابي "النزاع العراقي - الإيراني" (1981). وقد أشرت إلى ذلك في مناسبات مختلفة.
وفي الثمانينيات كانت علاقتي متميّزة بالحركة الكردية في الشام بحكم كوني مسؤول العلاقات في الحزب الشيوعي، ولاسيّما مع غازي الزيباري وآزاد برواري، ومن الحزب الاشتراكي محمود عثمان وعدنان المفتي وعادل مراد و عبد الخالق زنكنة، ومن الاتحاد الوطني الكردستاني مع عبد الرزاق الفيلي، وكان كلما يأتي مسعود البارزاني، أو جلال الطالباني إلى دمشق كنت ألتقيهما، ولاسيّما خلال زيارتهما للجواهري، كما التقيت رسول مامند أكثر من مرّة.
وكذلك كنّا ننسّق في المؤتمرات واللقاءات في سوريا وخارجها، وكنت قد كتبت عددًا من الدراسات والأبحاث عن القضية الكردية، وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، "الحرب العراقية - الإيرانية والقضية الكردية"، و"ضوء حول القضية الكردية" من خلال أطروحة ماجد عبد الرضا لنيل الدكتوراه، ومن يراجع مجلات "الهدف" و "الحريّة" و"نضال الشعب" الفلسطينية و "جريدة تشرين" السورية و "السفير" و" الحقيقة" و "مجلة الدنيا" اللبنانية، سيجد الكثير منها.

المرحلة الخامسة – لندن والحوار العربي - الكردي
في فترة التسعينيات، عملت على تنظيم أول حوار عربي - كردي (1992)، حيث انتقلت إلى لندن حينها، وما يزال العديد من الشخصيات الكردية تتذكّر هذا الحدث المفصلي في تاريخ العلاقات العربية - الكردية، والذي تمّ البناء عليه، خصوصًا حين دعوت 50 مثقفًا نصفهم من الكرد والنصف الآخر من العرب لحوار حول القضايا التي ما تزال مطروحة للنقاش، وأقصد بذلك الهويّة والمواطنة المتكافئة والمتساوية، الحكم الذاتي، الفيدرالية، الكونفدرالية، حق إقامة دولة مستقلة، وفقًا لمبدأ حق تقرير المصير، والأمر يتعلّق باختيار اللحظة التاريخية مراعاةً للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة ووحدة النضال العربي- الكردي.
وألقيت محاضرة عن القضية الكردية ومبدأ حق تقرير المصير وسط تجمّع حاشد في مركز آل البيت الإسلامي، الذي يديره العلامة السيد محمد بحر العلوم، وباستضافة كريمة منه، ومحاضرة أخرى في "ديوان الكوفة كاليري" عن تهجير الكرد الفيليين في ضوء القانون الدولي.
وكان لي شرف كتابة أول نص يتعلّق بالمعارضة العراقية (في مؤتمر فيينا 1992)، الذي ثبّت حق تقرير المصير للشعب الكردي في إطار برنامج ورؤية شاملتين لنظام الحكم المنشود في العراق، ويعتبر مؤتمر صلاح الدين (التمهيدي- أيلول / سبتمبر 1992) والعام (الموحد – تشرين الثاني نوفمبر - كانون الأول / ديسمبر 1992)، استمرارًا لمؤتمر فيينا، علمًا بأن العديد من الذين شاركوا بهذه المؤتمرات، ولاسيّما من الإسلاميين والقوميين العرب، لم يكونوا يؤمنون ﺑ "مبدأ حق تقرير المصير"، حيث وردت العديد من الاعتراضات عليه وشكّل عددًا منهم وفدًا لمقابلة مام جلال الطالباني، الذي أخرج قلمه الأخضر ليضيف "دون الانفصال"، وذلك بهدف إقناعهم.
وكنت مع أول تجربة كردية فعلية للاستقلال الذاتي، تلك التي بدأت في نهاية العام 1991، حين سحبت الحكومة أجهزتها الإدارية والمالية من المنطقة، معتقدة أن لا أحد يمكنه ملئ الفراغ الذي تركته، بما فيها الحركة الكردية، لكن الأخيرة أخذت على عاتقها هذه المسؤولية، وتحرّكت وفقًا للقرار 688 الصادر عن مجلس الأمن في 5 نيسان / أبريل 1991، والذي صدر بعد هزيمة القوات العراقية، إثر غزو الكويت.
والقرار 688 يتعلّق بكفالة احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية في المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق. وكنت قد أطلقت عليه اسم القرار اليتيم والتائه والمنسي، لأن لا أحد يسأل عنه، إسوة بالقرارات الأخرى المجحفة والمذلّة، التي تصرّ الولايات المتحدة على تطبيقها بالكامل، لاسيّما القرارات اللّاإنسانية الخاصة بالحصار الدولي الجائر، علمًا بأن جميع القرارات الأممية صدرت ضمن الفصل السابع الخاص بالعقوبات، باستثناء القرار 688 الخاص بكفالة احترام حقوق الإنسان، وتلك إحدى مفارقات الطغيان الدولي.
كنت وما زلت مع تجربة كردية ناجحة بسدّ الثغرات ومعالجة النواقص والبحث في سبل تعزيزها، بالتخلّص من الفساد والمحاصصة واعتماد الشفافية وتداول السلطة سلميًا، وبالتأكيد على احترام حقوق الإنسان سبيلًا للتنمية المستدامة، المعيار الأساس للتقدّم الحقيقي، ويتطلّب الأمر تأسيس بنية تحتية متينة، والتفاهم مع بغداد كي لا تظلّ الأمور متأرجحة أو ضبابية، وذلك بأخذ المصالح الوطنية العليا بنظر الاعتبار، خصوصًا بترسيخ التجربة والاستفادة من الظروف الموضوعية لتطويرها.