إبراهيم بين الكسمولوجيا والأديان السياسية-الصافات صفا
طلعت خيري
2024 / 9 / 5 - 10:37
ان التمسك بالتاريخ والتراث ألاعتقادي بلور الرجعية وسد أفق الرؤى المستقبلية التقدمية التي دعت إليه الرسل والكتب المنزلة، كالإيمان بالله والبعث والنشور ، فالأفكار التقدمية دائما تتطلع الى المستقبل، بينما الأفكار الرجعية تتطلع الى الماضي لتستمد حضارتها من عمق التاريخ، معظم منظري الاعتقادات السياسية يستعينون بالماضي الغيبي لصناعة الحاضر السياسي لكي تبقى المجتمعات متقوقعة حول تاريخ وتراث الآباء ، فالغيب هو كل ما غاب عن وعي الإنسان وعلمه وإدراكه ، بما ان الماضي الرجعي بات متجذرا في فكرا وثقافة وتاريخ وتراث الديانة الكوكبية ، وغير قادرة على التخلص منه ، انتقل التنزيل الى الماضي الغيبي لتصحيح الاعتقادات التاريخية منها أعتقادية إيمان نوح بآلهة الكواكب، فالديانة الكوكبية كانت تنسب ديانتها الى نوح، صحح الله الاعتقاد عبر عدد من الآيات، نأخذ منها الجانب العقائدي، قال الله إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، إذن نوح من المؤمنين بالله واليوم الأخر ولا يؤمن باعتقادية تعدد آلهة الكواكب
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ{75} وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ{76} وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ{77} وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ{78} سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ{79} إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ{80} إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ{81} ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ{82}
يعتقد الباحثون في مجال الأديان والتاريخ والتراث، ان الديانة الإبراهيمية هي اليهودية والمسيحية والإسلامية ، طبعا اعتقاد خطاء من الناحية التاريخية ، لان إبراهيم ظهر في حقبة الملوك التي حكمت المنطقة العربية ما قبل التاريخ ، بينما الديانات الثلاثة تبدأ من القرن الأول الى القرن السادس الميلادي ، والدليل على ذلك عندما وضع أهل الكتاب تزامنا تاريخيا ما بين إبراهيم والتوراة والإنجيل، صحح التنزيل تلك الحقبة قائلا {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } إذن إبراهيم خارج الديانات الثلاثة ، ثم كيف ننسبها الى إبراهيم ولكل ديانة رسول خاص بها ، كما ان إبراهيم لم يزامن نزول التوراة ولا الإنجيل ولا القران ، ومن الخطأ التاريخي أيضا ان نقول ان إبراهيم أبو الأنبياء ، فإبراهيم لم يوحد الديانات الثلاثة إنما وحد تعدد الآلهة الكونية في اله واحد هو الله ،عموما الديانة الإبراهيمية سواء كان قديما أو حديثا ، هو مشروع سياسي بلورته الأديان السياسية الثلاثة لضم ديانات واعتقادات الشرق الأوسط الى مشاريعها الامبريالية التوسعية ، من الاعتقادات التاريخية التي تؤمن بها الديانة الكوكبية إيمان إبراهيم بإلوهية الكواكب ، انتقل التنزيل الى ماضي الغيبي لتوضيح الجذور التاريخية التي انحدر منها إبراهيم قائلا وان من شيعته لإبراهيم ، بما ان نوح من عباد الله المؤمنين وإبراهيم من شيعة نوح ، إذن إبراهيم يؤمن بالله واليوم الأخر، وليس بإلوهية الكواكب، إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ{83} إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ{84}
نظرا لابتعاد آلهة السماء عن الإنسان نحتت الاعتقادات الاسترولوجية والكسمولوجية للشمس والكواكب آلهة روحية على الأرض ، لبلورة الاتصال الروحي ما بين الإنسان والآلهة ، مسخرة له عدد منها لتدبر مفاصل حياته هذا من الجانب ألاعتقادي، أما من الجانب السياسي إطلاق الحريات الشخصية والأهواء الرغبوية بلا حدود تحت تشريعات الآلهة، آما من الجانب الاقتصادي فالمعابد مصدر رعي للرأسماليين والسياسيين والمنتفعين حيث تنشط حولها التجارة والحرف اليدوية والصناعية والفنون والتماثيل ، وفي تجمع لقوم إبراهيم وأبيه في احد المعابد طرح إبراهيم عليهم إيمانه بالله واليوم الأخر فقال ، وإذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون ، أئفكا آلهة دون الله تريدون، فما ظنكم برب العالمين
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ{85} أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ{86} فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ{87}
تجمع قوم إبراهيم وأبيه في المعبد ليلا لعبادة النجوم فجلس معهم ينظر إليها ، فنظر نظرة في النجوم ، فقال إني سقيم ، حالة نفسية محبطة مما يعبد قومه وهذا نوع من تسفيه الآلهة ، ان تسفيه إبراهيم لآلهة قومه جعلهم يهربون من المعبد خوفا من سخطها ، فتولوا عنه مدبرين فراغ ، راغ تعني احتاف بخدعة لم تأتي على أذهان قومه ، فراغ الى آلهتهم فقال إلا تأكلون ، ما لكم لا تنطقون ، فراغ عليهم بحيلة أخرى ، فراغ عليهم ضربا باليمين
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ{88} فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ{89} فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ{90} فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ{91} مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ{92} فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ{93}
توقع قوم إبراهيم بعد انصرافهم ان الآلهة ستفتك به داخل المعبد، لكنهم تفاجئوا وإذا هو يفتك بأصنامهم ضربا باليمين ، فبعض القائمين عليه اخبروا القوم وعلى الفور توجهوا إليه ، فاقبلوا إليه يزفون ، يزفون مسرعين يطلقون أصوات لينادي بعضهم على بعض ولما تجمعوا ، قال إبراهيم أتعبدون ما تنحتون ، فالنحت هو تجسيد الإلهة بطريقة فنية ذات إبعاد مرئية تسمى التماثيل ، والله خلقكم وما تعملون، خلقكم وما تعملون ضربة في صميم الكريبكائية الكسمولوجية ، الله خلقكم وعلمكم العمل، انتم بعمله تخلقون آلهة لكم
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ{94} قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ{95} وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ{96}
ان انهيار الكسمولوجية الرجعية أمام طرح إبراهيم التقدمي، أرغم قومه على اتخاذ تدابير سريعة قبل استجابة الجماهير لدعوته، كما ان بقائه على قيد الحياة سيهدد المصالح السياسية والاقتصادية بشكل عام ، فلا احل إلا بالتخلص منه ، قالوا ابنوا له بنيانا، بنيانا بناء عالي يحيط بكدس كبير من الحطب ، فالقوه في الجحيم ، فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين، فالبناء حجب رؤية القوم عن تدخل الله لإنقاذه
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ{97} فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ{98}
قرر إبراهيم الهجرة بعد نجاته من القتل تاركا أرضه وقومه ، فلم يؤمن له غير لوط فتوجها الى الأرض المباركة ، فقال أني ذاهب الى ربي سيهدين ، يهدني الى الجهة التي تلائمني ، بعد الخروج دعا ربه قائلا رب هب لي من الصالحين، فبشرناه بغلام حليم هو إسماعيل
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ{99} رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ{100} فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ{101}
لإسماعيل في قصة ذبحه ميثولوجيا كسمولوجية اعتقاديه تطلق عليها الديانة الكوكبية المجر، أو المجرة وهي مجموعة من النجوم البيضاء المضيئة في السماء تتجه من الشمال الى الجنوب، تسمى مجر كبش إسماعيل وعند العرب تسمى مسحال الكبش، مفهوم الاعتقاد هو ان آلهة الكواكب فدت إسماعيل بكبش عظيم ، صحح التنزيل التراث الرجعي للديانة الكوكبية بنقل وقائع القصة من الماضي الغيبي الى حاضر الدعوة القرآنية كان إبراهيم غير متأكد من وعي إسماعيل العقائدي ولا سيما مع اقتراب الرحيل الى مكة لبناء البيت،فكان يبحث عن شيء ليختبره به، فأرى في المنام انه يذبحه فقال قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ، أول اختبار لإسماعيل ، فانظر ماذا ترى بمعنى ما هو رد فعلك اتجاه هذا الأمر، فكان جوابه ، قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ، إذعان إسماعيل لطاعة أبية دون تردد كشف له مدى احتوائه للرؤيا ، فحلمه وإدراكه ووعيه أوحى له انه لا يمكن لأبيه قتل إنسان ظلما وزورا ، كما ان الله لا يحكم بالقتل إلا بالحق ، موافقة إسماعيل على الذبح أرغمت أبيه على تنفيذ الأمر فورا، فلا مجال أمامهما إلا الاستسلام للرؤية ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. أوقف الله أمر التنفيذ ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ{104} قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ{105}.انتهت الأحداث وفديناه بذبح عظيم ..
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ{102} فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ{103} وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ{104} قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ{105} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ{106} وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ{107}
لم تسجل المجتمعات الدينية البدائية اي تاريخ لها، لان شعوبها دمرت بالكوارث الطبيعية، لكن يمكننا تقسيمها الى خمسة حقب تاريخية حسب بعثة كل رسول ، نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، فلم يستعين الله بذرية أي من الرسل الخمسة للدعوة إليه ، فكلما ظهرت حقبه رسول جديد نجا الله الذين امنوا معه ثم اهلك الباقين، وعلى أسلاف الناجين من الكوارث الطبيعة تظهر الحقب من جديد ، ترجع جذور المؤمنين في جميع الحقب الى الحقبة الأولى ذرية ممن حملنا مع نوح ، ذكرها التنزيل للوصول الى إبراهيم ، فإبراهيم أول نبي استعان الله بذريته للدعوة إليه
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ{108} سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ{109} كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ{110} إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ{111} وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ{112} وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ{113}