الدولة العميقة في الولايات المتحدة
فهد المضحكي
2024 / 8 / 31 - 12:26
ليست الدولة العميقة كيانًا يعمل خارج الحكومة الأمريكية، بل هي الدولة الأمريكية ذاتها. وعلى غرار جميع عناصر تلك الدولة، فإن الهدف من وجود ما يسمى الدولة العميقة هو تعزيز تفوّق الرأسمالية الأمريكية الاقتصادي. وهي تقوم بذلك أساسًا من خلال القوى الأمنية المحلية والعالمية السرية، على غرار مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة المخابرات المركزية.
وتنقل لنا جريدة «الأخبار» اللبنانية عن الموقع الأمريكي «Counter Punch»، خلاصة ما كتبه الكاتب الأميريكي الراحل رون جاكوبز عن الدولة العميقة في الولايات المتحدة، ترجمة حبيب الحاج سالم.
قد يكون من المفيد- فيما نحن بصدده- أن نذكر أهم ما جاء فيه: تشمل عمليات هذه الوكالات سلسلة كاملة من الأعمال تبدأ من المراقبة والدعاية، وصولًا إلى العمليات العسكرية السرّية والمعلنة. وبحكم طبيعتها، تعمل الدولة العميقة طبقًا لقوانينها الخاصة ؛ وهي قوانين غايتها ضمان استمراريتها وأهميتها. ورغم إمكانيةالمجادلة بأن «الدولة العميقة»، كما نفهمها، نشأت بمقتضى وثيقة الأمن القومي التوجيهية لعام 1950 إلى جانب مشروع القانون المنُشىء لوكالة المخابرات المركزية فإنه كما يقول جاكوبز، يمكن إذا ما وسعنا دائرة الفهم،القول إنها ربما نشأت قبل قرن من هذا التاريخ. وبعبارة أخرى، فقد وجدت بالفعل هيئة تعمل على حفظ الهيمنة الاقتصادية والسياسية لبعض الرأسماليّين الأميريكيّين منذ القرن التاسع عشر، لكن مركزة السلطة لم تبدأ بجديّة الإ في السنوات الموالية للحرب العالمية الثانية.
إن وثيقة الأمن القومي التوجيهيّة هي في الأساس وثيقة عسكرت الصراع بين الرأسمالية الأمريكية والشيوعية السوفياتية، وارتكزت على فهم مفاده ضرورة نفاذ الرأسمالية الأمريكية بصورة مفتوحة إلى موارد وأسواق العالم بأكمله، وأنّ الاتحاد السوفياتي يمثل التهديد الأكبر لذلك. ولم يكن ذلك يعني مجرّد زيادة حجم الجيش الأمريكى، بل أن يضمن كذلك توسّع سلطة قطاع الاستخبارات من حيث نطاق عمله وميزانيته. وحين يتذكّر المرء أنّ تلك الفترة في تاريخ الولايات المتحدة كانت أيضًا فترة ملاحقة مكتب التحقيقات الفيدرالي والكونغرس الأمريكي لليساريين والتقدميّين باسم نقاء أيديولوجي يميني، فإن قوّة الشرطة السرّية الأمريكية تصبح واضحة تمامًا.
وفي نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، كانت سلطة الدولة العميقة مستمرّة في النموّ. وقد شملت بعض مظاهرها المعروفة محاولة فاشلة لغزو كوبا، التي أصبحت تُعرف باسم خليج الخنازير، واستخدام عقاقير ذات تأثير نفسي على أفراد دون علمهم كجزء من دراسة تسعى إلى السيطرة على العقول، ومحاولات عديدة لإطاحة حكومات اعتُبِرت معادية للولايات المتحدة تشمل عمليات سرّية ضد قوات الاستقلال الفيتنامية واغتيال الرئيس الكونغولي باترس لومومبا. أما في ما يخصّ العمليات الداخلية التي قامت بها «الدولة العميقة»، فقد شهدت الفترة نفسها تكثيف التجسس على مختلف الجماعات المشاركة في النضال لفائدة حقوق الإنسان ومناهضة الحرب، والعمل على عرقلة نشاطاتها. وقد صار عدد كبير من الأنشطة التي كانت جزءًا من العملية المحليّة بتوجيهات من مكتب التحقيقات الفيدرالي تعرف باسم كوينتلبرو (COINTELPRO) اختصار لعبارة برنامج مكافحة التجسس.
ورغم أنّ وكالات ما يسمى الدولة العميقة تعمل كجزء من الدولة الأمريكية، فإن ذلك لا يعني أنها تعمل بالعقل نفسه. فهي في واقع الأمر، وعلى غرار أي بنية سلطة، تحوي تمثيلًا لمختلف الأجنحة، وهذا يعني، برأي جاكوبز، وجود اختلافات بينها حول السياسات والأولويات والإدارة والموظفين.
والثابت الوحيد الذي يجمعها، هو توافق حول ضرورة المحافظة على سيادة رأس المال الأمريكي في العالم. وقد حاولت السلطة التنفيذية، في بعض الأوقات، خلق أدوات وطرائق جديدة للالتفاف على سلطة وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي التي كانت تبدو مطلقة.
لايوجد انقلاب ناعم في العاصمة واشنطن، فقد تملكت الشركات الكبرى والصناعة البنكيّة الحكومة برمتها منذ ما يزيد على قرن، ذلك إن لم يكن منذ نشأتها، وقد سيطر المركّب العسكري الصناعي على الملكيّة منذ زمن إنشاء الوكالات المذكورة تقريبًا. ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة.
قبل أن يتولى الرئاسة عام 2017، لم يعارض ترامب ما يسمى الدولة العميقة، لكنّه يعارض استخدامها ضدّه وضدّ جماعته. فالأجنحة التي يمثلها ترامب في عالم السلطة الرأسمالية هي الأجنحة نفسها التي كان يمثلها الرؤساء الذين خدمهم مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق جيمس كومي. أي الأجنحة التي مثّلها بوش وأوباما. ويعرف ترامب أنه في حال تمكنه من تنصيب أفراد في مناصب رئيسيّة في مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الدفاع الداخلي وغيرها من الوكالات (الأمنيّة والعسكرية)، فإنه سيتمكّن هو وحلفاؤه من استخدامها ضدّ خصومهم. وهو لا يختلف في هذا عن أي رئيس أمريكي آخر، فهو يدرك أنّ من يسيطر على الدولة العميقة يسيطر على الولايات المتحدة. فالصراع الذي نشهده بين المؤسسات الحكومية ليس سوى جزء من صراع نفوذ بين نخب السلطة الأمريكية.
وحين تعيش الطبقة الحاكمة أزمة، فإن وظيفة اليسار لا تكون في اختيار طرف منها ضد الآخر، ولا في قبول السرديّة التي يقدمها أحد الأجنحة الحاكمة، وخاصة حين تكون سرديّة داعمة للدولة البوليسية. وبدلاً من ذلك، فإن وظيفة اليسار هي النفوذ إلى جذور الأزمة، وتنظيم المقاومة في وجه الطبقة الحاكمة نفسها.
كتبت أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدكتورة ليلى نقولا، إن التدقيق في إدارات ترامب ومساعديه والمصالح التي سعى لأجلها خلال فترة ولايته، يشير إلى أن ترامب كان يمثل مصالح أجنحة من الدولة العميقة بينما تعمل ضده أجنحة أخرى. بمعنى آخر، كانت انتخابات عام 2016 عبارة عن صراع أجنحة ضمن الدولة العميقة نفسها، وليس من خارجها أوضدها، أدّت إلى وصول ترامب البيت الأبيض.
لقد تحالف إدارة ترامب مع عدد من عمالقة المال في وول ستريت، ومجموعات النفط، وخصوصًا النفط الصخري، بالإضافة إلى مجموعة من الجنرالات، ومن أصحاب نظريات الإسلاموفوبيا، والقوميين البيض، والكنائس الإنجيليّة المحافظة.
وكانت إدارته تضمّ عددًا من الناس القادمين من عالم الأعمال، والفاحشي الثراء، ومجموعة من متعهدي الشركات الأمنية، وخبراء في العمل في وول ستريت والبنوك ومجموعة روتشيلد، وليمان برزر وغيرهم.
ثمة سؤال مهم: هل تسعى الدولة العميقة لإطاحة ترامب حاليًا؟
إن التأييد والدعم الممنوحين لترامب، من قوى في النظام الأمريكي، ليسا من دون حساب، ويرتبطان بالمصلحة فحسب، ولامانع من سحب التأييد إن تبدلت المصلحة.
بعد تعرض ترامب لمحاولة اغتيال في حملته الانتخابية الرئاسية 2024، يصبح السؤال الأهم هو: من الذي لا يريد أن يصبح ترامب رئيسًا؟
وفي السياق ذاته، ثمة تحليل رصين يقول: «إن أهم العوامل التي أنتجت وضعًا كاد أن يؤدي إلى اغتيال رئيس أمريكي سابق في خضم حملته للعودة للبيت الأبيض، هي أن ترامب دخل بالفعل خلال ولايته الأولى في حرب مع الدولة العميقة، وكما هو في بقاع العالم، فإن الدولة العميقة في أمريكا تتجاوز كل الأحزاب السياسية والمؤسسات الدستورية بكل فروعها ومستوياتها، وبالتالي، هي فوق الحزبين الجمهوري والديمقراطي معًا، وتتكون من اللوبي الاقتصادي والمالي الداخلي، وأذرعه الدولية المتمثلة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وحماة هيمنة الدولار، واللوبي الصناعي العسكري داخليًا وذراعه الأهم والأخطر المتمثلة في الحلف الأطلسي، واللوبي السياسي والإعلامي الداخلي المتمثلة في جماعات الضغط اليهودية والصهيونية».
يرى بعض الخبراء أن «الدولة العميقة» هو عالم سفلى غامض تعمل فيه عناصر قوية داخل الدولة،وخاصة الأجهزة العسكرية والأمنية. في هذا العالم السفلي تستعين هذه الأطراف المتنفذة بعالم الجريمة الجنائية للقيام بعمليات خاصة غير قانونية لصالح «النخبة» الحاكمة في البلاد.