المفكّر برهان غليون وحديث عن الطائفية


فهد المضحكي
2024 / 8 / 24 - 12:21     

استندت‭ ‬أفكار‭ ‬المُفكّر‭ ‬السوري‭ ‬برهان‭ ‬غليون‭ ‬على‭ ‬تحليل‭ ‬عيني‭ ‬للواقع،‭ ‬فهو،‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬حوار‭ ‬أجراه‭ ‬معه‭ ‬الكاتب‭ ‬والناقد‭ ‬المغربي‭ ‬أشرف‭ ‬الحساني،‭ ‬نُشر‭ ‬على‭ ‬موقع‭ ‬اضفة‭ ‬ثالثةب،‭ ‬يخضع‭ ‬الواقع‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬تحليل‭ ‬عيني‭ ‬مباشر،‭ ‬ولايقوم‭ ‬على‭ ‬استحضار‭ ‬نظريات‭ ‬مفهوم‭ ‬الدولة‭ ‬واليسار‭ ‬والسلطة‭ ‬والطبقة‭ ‬والكتلة،‭ ‬بل‭ ‬تبقى‭ ‬العملية‭ ‬الفكرية‭ ‬مُرتبطة‭ ‬بسياقها‭ ‬العربي‭. ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬التاريخ‭ ‬يحضر‭ ‬في‭ ‬فكر‭ ‬غليون‭ ‬كركيزة‭ ‬رئيسية‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬منهجية‭ ‬السوسيولوجي‭ ‬الحفري،‭ ‬فإنه‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬مجرّد‭ ‬سياق‭ ‬يُموقع‭ ‬الفكر‭ ‬في‭ ‬مساره‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬محاولات‭ ‬إسقاط‭ ‬فكر‭ ‬غربي‭ ‬على‭ ‬السياق‭ ‬السياسي‭ ‬العربي،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬حرجة‭ ‬ومركزية‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬العرب‭ ‬المعاصر‭.‬

وبالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬كتابات‭ ‬غليون،‭ ‬كما‭ ‬يراها‭ ‬الحساني،‭ ‬لا‭ ‬تُقدم‭ ‬ملاحظات‭ ‬جاهزة‭ ‬لتجاوز‭ ‬واقع‭ ‬سياسي‭ /‬‏‭ ‬اجتماعي‭ ‬ما،‭ ‬فإن‭ ‬كتاباته‭ ‬تنزع‭ ‬صوب‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالتأمّل‭ ‬الفلسفي‭ ‬والتحليل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬اللذين‭ ‬يجعلان‭ ‬من‭ ‬القضية‭ /‬‏‭ ‬الواقع‭ /‬‏‭ ‬المفهوم‭ /‬‏‭ ‬المسألة‭ ‬مُختبرًا‭ ‬للتفكير،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬مع‭ ‬مفهوم‭ ‬االطائفيةب،‭ ‬بحيث‭ ‬يتجاوز‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة‭ ‬التأمّل‭ ‬الفلسفي‭ ‬المُجرّد‭ ‬لصالح‭ ‬كتابة‭ ‬فكرية‭ ‬تقرأ‭ ‬الطائفية‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬تاريخها‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي‭.‬

وإن‭ ‬كان‭ ‬غليون‭ ‬قد‭ ‬انتبه‭ ‬إلى‭ ‬كون‭ ‬مفهوم‭ ‬الطائفية‭ ‬مفهومًا‭ ‬حديثًا،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يمنعه‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬انظام‭ ‬الطائفية‭: ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬القبيلةب‭ ‬من‭ ‬إخضاع‭ ‬المفهوم‭ ‬إلى‭ ‬تحليل‭ ‬كرونولوجي‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬منهج‭ ‬اجتماعي‭ ‬معاصر،‭ ‬يتماهى‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬مع‭ ‬نظريات‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭ ‬السياسي‭.‬

وفي‭ ‬الحوار‭ ‬السالف‭ ‬الذكر،‭ ‬سلط‭ ‬غليون‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬الطائفية‭ ‬وترسّباتها‭ ‬داخل‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬المستجدات‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي،‭ ‬وكذلك،‭ ‬مسألة‭ ‬الطائفية‭ ‬داخل‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬منذ‭ ‬صدر‭ ‬الإسلام‭ ‬إلى‭ ‬الفترة‭ ‬الحديثة‭. ‬والسؤال‭ ‬الذي‭ ‬يطرحه‭ ‬غليون‭: ‬لماذا‭ ‬ظل‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الوسيط‭ ‬في‭ ‬منأى‭ ‬عن‭ ‬التفكير‭ ‬بمسألة‭ ‬الطائفية،‭ ‬وما‭ ‬تحبل‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬مآزق‭ ‬وتناقضات؟‭ ‬

‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬االمسألة‭ ‬الطائفيةب،‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬عام‭ �،‭ ‬ميز‭ ‬بين‭ ‬الطائفية‭ ‬كانتماء‭ ‬لمذهب،‭ ‬أو‭ ‬دين،‭ ‬أو‭ ‬عقيدة،‭ ‬وبإختصار،‭ ‬الجماعة‭ ‬الدينية،‭ ‬أو‭ ‬المذهبية،‭ ‬والطائفة‭ ‬بوصفها‭ ‬جماعة‭ ‬سياسية،‭ ‬أو‭ ‬فاعلًا‭ ‬سياسيًا‭ ‬لا‭ ‬يصارع‭ ‬على‭ ‬أرضية‭ ‬الدين‭ ‬والمذهب،‭ ‬ولا‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬عقيدة،‭ ‬وأنما‭ ‬يوظف‭ ‬العصبية‭ ‬الطائفية،‭ ‬الشبيهة‭ ‬بالعصبية‭ ‬القبلية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة،‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭.‬

وهذا‭ ‬لم‭ ‬يحصل‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬لأن‭ ‬السلطة‭ ‬كانت‭ ‬محسومة‭ ‬لصالح‭ ‬الأسرة‭ ‬الحاكمة،‭ ‬ولم‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬منافسة‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬والجماعات‭ ‬على‭ ‬احتلال‭ ‬مناصب‭ ‬السلطة‭. ‬أي‭ ‬ببساطة‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬حقل‭ ‬سياسي‭ ‬مفتوح‭ ‬للصراع،‭ ‬أو‭ ‬لتداول‭ ‬السلطة،‭ ‬لا‭ ‬بين‭ ‬الأفراد،‭ ‬ولا‭ ‬الأحزاب،‭ ‬ولا‭ ‬أي‭ ‬فاعل‭ ‬آخر‭. ‬والأسرة،‭ ‬أو‭ ‬القوة‭ ‬التي‭ ‬استولت‭ ‬على‭ ‬السلطة،‭ ‬تتبنى‭ ‬بالضرورة،‭ ‬كي‭ ‬تضفي‭ ‬الشرعية‭ ‬على‭ ‬سلطتها،‭ ‬وتحافظ‭ ‬على‭ ‬ولاء‭ ‬الناس،‭ ‬وتضمن‭ ‬طاعتهم‭ ‬وخضوعهم‭ ‬لها،‭ ‬العقيدة،‭ ‬أو‭ ‬الدين‭ ‬السائد،‭ ‬أو‭ ‬تفرض‭ ‬ديانتها‭. ‬هذه‭ ‬كانت‭ ‬القاعدة‭. ‬وفي‭ ‬الإمبراطوريتين‭ ‬الإسلاميتين،‭ ‬الأموية‭ ‬والعباسية،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬تبعهما‭ ‬من‭ ‬سلطنات‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬السلطة‭ ‬العثمانية،‭ ‬كانت‭ ‬العلاقات‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬تعايش‭ ‬الطوائف،‭ ‬وحرية‭ ‬الاعتقادات‭ ‬الدينية،والفصل‭ ‬الكامل‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الاعتقادات‭ ‬الخاصة،‭ ‬وتبقى‭ ‬ممارسة‭ ‬السلطة‭ ‬حكرًا‭ ‬على‭ ‬الأسرة‭ ‬الحاكمة‭. ‬من‭ ‬كان‭ ‬يتعرض‭ ‬للاضطهاد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الأديان‭ ‬المختلفة‭ ‬هي‭ ‬الحركات‭ ‬المنشقة‭ ‬داخل‭ ‬الدين‭ ‬السائد،‭ ‬أو‭ ‬الدين‭ ‬الرئيسي،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬تسمى‭ ‬هرطقات،‭ ‬أو‭ ‬زندقة،‭ ‬لأنها‭ ‬تبث‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬صدقية‭ ‬الدين‭ ‬السائد‭ ‬وشرعية‭ ‬سلطاتها‭ ‬الرسمية‭.‬

يقول‭ ‬الحساني‭: ‬فإذا‭ ‬رجعنا‭ ‬إلى‭ ‬رأي‭ ‬غليون‭ ‬بشأن‭ ‬متى‭ ‬ما‭ ‬فك‭ ‬الحظر‭ ‬عن‭ ‬ممارسة‭ ‬السياسة،‭ ‬تنحسر‭ ‬الطائفية‭ ‬من‭ ‬تلقاء‭ ‬نفسها،‭ ‬ولايبقى‭ ‬من‭ ‬الطائفة‭ ‬إلا‭ ‬الانتماء‭ ‬المذهبي‭ ‬والديني‭ ‬البارد،‭ ‬فإننا‭ ‬نجد‭ ‬قناعته‭ - ‬التي‭ ‬قد‭ ‬نختلف‭ ‬معها‭ ‬لأن‭ ‬الأحزاب‭ ‬الدينية‭ ‬المذهبية‭ ‬بكل‭ ‬تلاوينها‭ ‬بالضرورة‭ ‬طائفية‭ - ‬تشير‭ ‬إلى،‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬نجمت‭ ‬الطائفية،‭ ‬كممارسة‭ ‬سياسية،‭ ‬أي‭ ‬تحول‭ ‬الطائفة‭ ‬إلى‭ ‬فاعل‭ ‬سياسي،‭ ‬أو‭ ‬حزب،‭ ‬وشبه‭ ‬حزب،‭ ‬من‭ ‬أمرين‭ ‬مترابطين‭: ‬الأول‭ ‬هو‭ ‬نشوء‭ ‬حقل‭ ‬مفتوح‭ ‬للسياسة،‭ ‬بما‭ ‬يعني‭ ‬تعميم‭ ‬الحق‭ ‬بالوصول‭ ‬إلى‭ ‬السلطة،‭ ‬أو‭ ‬النزاع‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هي‭ ‬سلطة‭ ‬الشعب‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة،‭ ‬أي‭ ‬جعل‭ ‬السياسة‭ ‬أمرًا‭ ‬عموميًا‭ ‬ومطلبًا‭ ‬وممارسة‭ ‬شرعيتين‭ ‬يمكن‭ ‬لكل‭ ‬فرد‭ ‬التطلع‭ ‬إلى‭ ‬المشاركة‭ ‬فيهما‭. ‬وهذا‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬سمات‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬ومنتجاتها‭. ‬والأمر‭ ‬الثاني‭ ‬المرافق‭ ‬له،‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا،‭ ‬وفي‭ ‬غيرها‭ ‬أيضًا،‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬أصبحت‭ ‬فيه‭ ‬السياسة‭ ‬بضاعة‭ ‬عامة،‭ ‬حصل‭ ‬تحريم‭ ‬لها،‭ ‬وسدت‭ ‬السبل‭ ‬والوسائل‭ ‬الشرعية‭ ‬لتحقيق‭ ‬التطلع‭ ‬الشرعي‭ ‬أيضًا‭ ‬إلى‭ ‬المشاركة،أو‭ ‬التنافس‭ ‬على‭ ‬مناصب‭ ‬السلطة‭ ‬والمسؤولية‭. ‬الطائفية،‭ ‬إذًا،‭ ‬هي‭ ‬تعميم‭ ‬الحقوق‭ ‬على‭ ‬الأفراد،‭ ‬وإغلاق‭ ‬السبل‭ ‬الطبيعية‭ ‬لممارستها‭. ‬الصراع‭ ‬الطائفي‭ ‬هنا‭ ‬التعويض‭ ‬غير‭ ‬الشرعي،‭ ‬لكن‭ ‬الواقعي‭ ‬عن‭ ‬تحريم،‭ ‬أو‭ ‬إعاقة‭ ‬الصراع‭ ‬السياسي‭ ‬الشفاف‭ ‬والشرعي،‭ ‬مما‭ ‬يدفع‭ ‬النخبة‭ ‬المتنافسة‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬إلى‭ ‬توظيف‭ ‬رصيد‭ ‬الجماعة‭ ‬الدينية،‭ ‬أو‭ ‬ثقلها،‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬السياسي،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬حزبًا‭ ‬سياسيًا،‭ ‬أو‭ ‬بديلًا‭ ‬عنه‭. ‬وهذا‭ ‬النزوع‭ ‬يزداد‭ ‬طردًا‭ ‬مع‭ ‬تنامي‭ ‬احتكار‭ ‬السلطة،‭ ‬ومنع‭ ‬تداولها‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يستدعي،‭ ‬أيضًا،‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬الرهان‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬النخبة‭ ‬الحاكمة‭ ‬على‭ ‬العصبية‭ ‬الطائفية،‭ ‬أو‭ ‬القبلية‭. ‬ولهذا‭ ‬وصف‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الثاني‭ (‬نظام‭ ‬الطائفية،‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬القبيلة‭)‬،‭ ‬بأنها‭ ‬استخدام‭ ‬للعملة‭ ‬المزيفة‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬سوداء‭ ‬نجمت‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬عن‭ ‬تحريم‭ ‬السياسة‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬الشرعية‭ ‬لتداولها‭ ‬والتداول‭ ‬فيها‭.‬

إن‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬خلص‭ ‬إليه‭ ‬غليون‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬الطائفية‭ ‬داخل‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬هو،‭ ‬أن‭ ‬الطائفية،‭ ‬بعكس‭ ‬الطائفة،‭ ‬فهي‭ ‬بدعة‭ ‬سياسية،‭ ‬أو‭ ‬إستراتيجية‭ ‬سياسية،‭ ‬وليست‭ ‬عقيدة‭ ‬ترد‭ ‬على‭ ‬حاجات‭ ‬روحية‭. ‬ولذلك،‭ ‬هي‭ ‬كما‭ ‬يذكر‭ ‬ظاهرة‭ ‬حديثة‭ ‬برزت‭ ‬مع‭ ‬تعميم‭ ‬مبدأ‭ ‬السياسة‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمعات،‭ ‬وأكثر‭ ‬ما‭ ‬تبرز،‭ ‬كما‭ ‬يمكن‭ ‬المعاينة‭ ‬ببساطة‭ ‬كبيرة،‭ ‬في‭ ‬النظم‭ ‬الجمهورية‭ ‬لا‭ ‬الملكية‭. ‬وحتى‭ ‬مفردة‭ ‬الطائفية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مستخدمة‭ ‬بالدلالات‭ ‬الراهنة‭. ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬مفردة‭ ‬الطائفية‭ ‬لغويًا‭ ‬تعني‭ ‬ببساطة‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬فمن‭ ‬الممكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬طائفة‭ ‬من‭ ‬العرب،أو‭ ‬المسلمين،‭ ‬أو‭ ‬التجار،‭ ‬أو‭ ‬الصناعيين،‭ ‬أو‭ ‬طائفة‭ ‬من‭ ‬الفقراء‭ ‬والأغنياء،‭ ‬أو‭ ‬طائفة‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬أو‭ ‬طائفة‭ ‬من‭ ‬العلماء‭. ‬وبالمعنى‭ ‬البسيط‭ ‬نفسه،‭ ‬استخدمت‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬عبارة‭ ‬ملوك‭ ‬الطوائف،‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نستخدم‭ ‬مكانها‭ ‬اليوم‭ ‬أمراء‭ ‬الحرب‭. ‬ولا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالفرق‭ ‬والشيع‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬المصطلحات‭ ‬التي‭ ‬تستخدم‭ ‬للتعبير‭ ‬عنها‭: ‬الملل‭ ‬والنحل‭ ‬والشيع‭ ‬والمذاهب‭ ‬والفرق‭... ‬إلخ‭.‬

إن‭ ‬استفحال‭ ‬المنطق‭ ‬الطائفي‭ ‬وسيطرته‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬المشرق‭ ‬جاء‭ ‬بسبب‭ ‬فشل‭ ‬الحركات‭ ‬والنظم‭ ‬السياسات‭ ‬القومية،‭ ‬ولا‭ ‬يقصد‭ ‬بها‭ ‬القومية‭ ‬العابرة‭ ‬للحدود‭ ‬فحسب،‭ ‬كالقومية‭ ‬العربية،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تمثل‭ ‬دولة‭ ‬ونظامًا‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬القصيرة‭ ‬لوحدة‭ ‬مصر‭ ‬وسورية‭ ‬في‭ ‬الخمسينيات‭ ‬والستينيات،‭ ‬ولكن‭ ‬القومية‭ ‬بالمعنى‭ ‬الوطني‭ ‬الداخلي‭. ‬وليست‭ ‬الطائفية‭ ‬هي‭ ‬سبب‭ ‬هذا‭ ‬الفشل،‭ ‬ولكن‭ ‬عوامل‭ ‬أخرى‭ ‬سياسية‭ ‬واقتصادية‭ ‬وجيوسياسية‭ ‬وإستراتيجية‭ ‬تتجاوز‭ ‬حدود‭ ‬سيطرة‭ ‬النخب‭ ‬المحلية‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأحيان‭.‬

الخلاصة‭ ‬باختصار،‭ ‬إن‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬الحالة‭ ‬الطائفية‭ ‬والانقسامات‭ ‬العصبوية‭ ‬ليست‭ ‬معركة‭ ‬معرفية‭ ‬وفكرية‭ ‬فحسب،‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬معركة‭ ‬سياسية‭. ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬تغيير‭ ‬تصورات‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ‬وجودهم‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وعلاقاتهم‭ ‬ونزاعاتهم‭ ‬وانقساماتهم،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تغيير‭ ‬قواعد‭ ‬عمل‭ ‬السلطة‭ ‬والدولة‭ ‬التي‭ ‬تتحكم‭ ‬بمصيرهم،‭ ‬أي‭ ‬بشروط‭ ‬حياتهم‭ ‬المادية،‭ ‬وموقعهم‭ ‬وأدوارهم‭ ‬وثقافتهم،‭ ‬وما‭ ‬يرونه‭ ‬من‭ ‬الواقع،‭ ‬وما‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬لهم‭ ‬رؤيته‭.‬