حول ظاهرة عزوف الشباب عن الجمعيات السياسية في البحرين
موسى راكان موسى
2024 / 8 / 21 - 10:14
ورقة مشاركة في تأمل احدى ظواهر المشهد السياسي في البحرين .. موجزة قدر الإمكان .
=================================================
الشباب ليس مجرد رقم في عمر الفرد .. الشباب حركة و حرارة ، فإذا لم يجد سياقا يؤنسه .. مع وحشته ينقلب إلى وحش ، وحش له عدة رؤوس .. تتناوب توجيه الجسد .. إلى تدمير الذات ، و الرهان على حضور رأسٍ حاضرٍ من بين عدة رؤوس "يُحضّر" هذا الجسد .. فينفي حالة الوحش ، هو رهان له وجاهته من الناحية الفردية .. لكن الثمن المدفوع من الكل الاجتماعي ليس برخيص .
مع انعدام السياق المؤنس و الرأس الحاضرة ، سيلجأ الشباب إما للانتساب إلى الجماعات السرية المناوئة بغض النظر عن لون الراية أكانت حمراء (يسارية) أو سوداء (إسلامية) أو غير ذلك من ألوان [الحديث عن الانتماء للون من المعارضة بشكل عام ، سواء أكانت على مستوى أصغر وحدة كالأسرة أو على مستوى أكبر كالعالم] .. و إما سيخنقون أنفسهم بأنفسهم بضرب من ضروب الاستهلاك و الرقص على صراط الإدمان [بعض الحالات تكون الإميّة تناوبية أو تشاركية] ، القضية هنا هي قضية الوعي الغائب ؛ بالأولى هو نصف مغيّب [أعور] .. و بالأخرى أكثر من نصف مغيّب [أعمى] ــ و أياك المفاضلة بينهما على أساس أهون الشرّين ، فكلاهما وحدة واحدة متكافئة السوء .. سواء التجريد و التعيين ، فتأمل قول أراسموس : (( في بلاد العميان .. يكون الأعور ملكا )) .
بالنسبة للشباب قد تكون الجماعة العلنية [المرخصة] الوسيط المعبر إلى الجماعة السرية [الغير مرخصة / فاقدة المشروعية] ، و أكثر الأحيان تكون الجماعة العلنية لطيفة في مناوئتها عكس السرية .. لكنها الموجود دام المفقود مفقود . و من ذلك أريد لفت الانتباه إلى مشهد لقطته بحكم متابعتي لأنشطة اليسار في البحرين ، إذ أن أغلب الشباب المُحتفى بحضورهم المشهد عند الجماعة العلنية .. ما دخروا جهدا يعبرون عن آراء و يحرضون على خطوات تدور في فلك تدمير الذات .. و "الغير" مجرور بحرف الجر ! ــ بموازاة الارتياب من عزوف الشباب .. يجب عدم الغفل عن الارتياب في حضور الشباب ؛ لنضع بالحسبان أن للشباب أوضاع عامة أبرزها :
ــ وضع البُعد عن ميدان العمل [عمل لقاء أجر] ؛ بحكم الدراسة و طول مدتها و بكارة الوعي الواقعي .
ــ وضع شبه لا طبقي ؛ بحكم الاستغراق الفكري (التجريد المدرسي/الوعي المثالي) .
ــ وضع مغالطة الوعي الانفعالي ؛ الاحتكام إلى المشاعر و الأحاسيس بوصفها المباشر الفوري كمُصوّب فكري و مُنتج قيمي ، إذ أن الانغماس في أحداث الواقع يؤدي إلى إعدام فكر الواقع .
أسمي فئة الشباب بالفئة "المتفأرنة" لكونها أكثر الفئات طربا بألحان مزمار البروباجندا [أوضاع الشباب قد تنسحب لتطال غيرهم لمشابهة في الأوضاع ــ فالطبقة الوسطى رغم لحاقها بميدان العمل إلا أنها لا ترتبط بالعمل المنتج بشكل مباشر فتبقى دون وعي واقعي سليم ، فطبيعة العمل المحددة لها كطبقة هو عمل ذهني بمعظمه] .
من ذلك نفهم أنه قد لا تكون مسألة عزوف الشباب عن الجمعيات السياسية مشكلة بقدر إقبال الشباب عليها ، فإن دمع البعض بكون العزوف على الجبهة المضادة للبلشفية .. فليضع بحسبانه أن العزوف أيضا على الجبهة المضادة للفاشية ، و هنا ساحة صراع من نوع خاص بين البلشفي و الفاشي لكسب فوائد الحليف العازف خارج حدود زخرف القول ؛ فعلى سبيل المثال قد تمكن جمال عبدالناصر من توظيف العزوف العام عن الأحزاب السياسية لضرب التعددية السياسية و حل الأحزاب [رغم استغلال الاخوان المسلمين إلا أنهم لم يعدموا الفائدة] ، و قد تكرر الأمر في سوريا زمن الوحدة البائسة .
صراحة .. هناك الكثير مما يدفعني إلى التفاؤل في عزوف الشباب عن الجمعيات السياسية عامة [الحديث محصور في الجمعيات القائمة اليوم بترخيص] ، سأحاول اختصارها :
ــ الخطاب العام لجمعياتنا السياسية بكل ألوانها هو خطاب فاشي .. الاختلاف في الدرجة فقط ، و الخطاب الفاشي جسر الحمير من ضفة الطائفة الأكبر [الأمة] إلى ضفاف الطائفة الأصغر فالأصغر أيا تكن ، الفاشي يتحول إلى الطائفي دون أن تمسه شبهة الردة .. لكن الطائفي بتحوله إلى الفاشي يتماهى بالوطني ؛ كان رؤوس الكنيسة الأرثوذكسية و على مقدمتهم المطران سيرغي أول من أعلن الوقوف للدفاع عن أمة البروليتاريا ضد الغزو النازي .. قبل ستالين نفسه رأس الدولة ! .
ــ استهلاك الشعارات حد الاستفراغ .. و ضبابية التخطيط في المعروض الإعلامي حد اعتبارها بلا تخطيط ، أما الإنجازات فقد انعدمت قيمتها لهوان حقيقتها مقابل ما تحاول الماكينة الإعلامية لدى الجمعية السياسية إظهاره .
ــ الصورة العامة لمجالس إدارة الجمعيات السياسية المتكوّنة أنها لا تخضع للتداول الحقيقي .. شيء مشتق من نبزة الديناصور يمكن أن نحكم عليه بالصفة المرضية "دنصرة" .
ــ العضوية في الجمعيات السياسية [إذ أردنا المعنى الحقيقي] تفرض السجود لثالوث (الإلتزام/التطوع/التضحية) .. فما المقابل الملموس الذي لأجله السجود يهون ؟! ؛ ليس المقصود التربح بمعناه الشائن .. لكن يمكن مقاربتها بالقاعدة الصلبة لمذبح القرابين ، فأبدا ليست المسألة في كون العازف يرى في الإلتزام عبث و التطوع لهو و التضحية عدم .. و لكن في أن نيل عضوية جمعية سياسية يفرض عليه إلتزام فاجر و تطوع فاسق و تضحية دون جدوى .
ــ البنية التنظيمية للجمعيات السياسية رغم استقلالها مرتبطة بالدولة بشكل مشابه لما يصوره البعض عن علاقة دولة من دول الأطراف بالدولة المركز .. لكن تفسير ذلك مختلف فيه بما يشبه اختلاف المباحث الكولونيالية ؛ و الظريف يجر معه الظريف .. ففي الوقت الذي تنبه فيه أصوات الجمعيات السياسية من "تبعية" ملغزة و تحذر من "العملاء" الغامضين .. بهدف رمي سهام النقد تجاه الحكومة أو المنظومة العالمية .. إلا أنها كما رامي السهم رأساً .. مهما ابتعد السهم مصيره الرجوع و إصابة رأس الرامي ! .
و أخيرا .. من الواضح أن البنية التنظيمية للجمعيات السياسية بعيدا عن المباحث الكولونيالية ليست تنظيمية بالمعنى الصارم لكلمة "تنظيم" ، بقدر ما تحاول الفعاليات الثقافية و الشعارات الثورية أن تصور الأمر .. الجمعيات السياسية القائمة هي شكل ممسوخ لما هو متعارف عليه كـ"مجلس" / "ديوانية" ، و ليست مجالس الإدارة و النظام الأساسي و العضوية سوى إلتفاف على هذه الحقيقة ؛ بالإمكان بعد ذلك تفهم شعور البعض بالإحباط من الجمعيات السياسية [و كذلك المراكز المعنية بالثقافة و الأدب] .. فهي تنادي ضد الإقطاعية و البيروقراطية و "الدنصرة" و غير ذلك مما تتهم به أجهزة الدولة .. لكنها بشكل أو بآخر تثبت بممارستها عكس ما تنادي به ! .
نحن بحاجة لتنظيم معين أو لإعادة تنظيم معين ، لكن ذلك يكون بعد تكوين القاعدة الصلبة ، و الأخيرة لا تكون بمجرد "الإيمان" بالماركسية و "الجهاد" اليساري .. هذا حسب وصف مالك بن نبي "دروشة سياسية" . في مرحلة تكوين القاعدة الصلبة لسنا بحاجة لخطباء متمكنين بقدر ما نحتاج لفقهاء متمكنين ؛ الفقيه المقصود ليس التكنوقراطي الأجرب بالتقنية و القانون .. هذا الذي لم ينزل الشارع و يجلد جسده الجو و يشوك رأسه الاجتماع لا ننتظر منه أن يلعب دور "المسيح/المهدي" المنتظر ، و هو دور المفترض أن لا يطلبه البلشفي لكن أن يعي توظيفه ، فالأصح الأخذ بما قاله حكيم فارس بزرجمهر (( معالجة الموجود خير من انتظار المفقود )) ــ و هنا أعيد إطلاق الدعوة لمركز بحث جاد .. فمع تعقيدات اليوم يلزم البحث أن يكون بحثا مشتركا [جماعي] .. كما أن مركز البحث هو تهيئة لمعرفة تراكمية لابد منها لأي جمعية سياسية تزعم أن منهجها علمي ؛ و هنا أظهر إحباطا تجاه مختبر الفلسفة .. فقد كنت آمل منه أن يمهد لذلك على الأقل ، فرغم أن عددنا "المؤسسين" فقط أربعة .. إلا أن الإصرار على العلاقات "التآلفية" دون تعزيزها بمشروطية و حاكمية تدفع ناحية الإرتقاء .. حوّل المختبر إلى شيء شبيه بمجموعة قراءة على غرار مجموعات القراءة المنتشرة .. اللهم الاختلاف بغلبة الكتب الحمراء ، فلا جديد مع الجديد .
رغم ذلك هناك أمل ما يمكن أن يوجد عند الرفيق هشام عقيل .. فالقاعدة الصلبة المرجوة ستحمل بصماته حتما ، و لكن [سيلومني الرفيق هشام في هذا] أعتقد أن الموقف الصحيح لما نواجهه حاليا لن يتعدى الدعوة إلى التنوير كما يحاول سلوتردايك أن يقوله بشكل "عرفاني" [ما نمارسه عمليا لا يتجاوز ذلك صراحة] ، فإن كان ذلك مما يجعلني في موقع الاشتباه "النكوصي" ، فأقله "المتهم بريء حتى تثبت إدانته" .