كأن مسيحياً يقف وراء الدكتور شعبان ليعرف عدله / مقدمة كتاب فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي بقلم : المطران جورج خضر*


عبد الحسين شعبان
2024 / 8 / 16 - 15:30     

يقيم الدكتور عبد الحسين شعبان في الإسلام إقامة المؤمن وإقامة المؤرخ. أما المؤمن فيأتي من أبدية المصدر واما قارئ التاريخ فمن رؤية الأزمنة تتغير ولكن يحل فيها التنزيل، والمسألة هي كيف تقرأ ؟ فالنص لا يأتي وحده اليك وحرّاً منك. أنت تأتي اليه بما خبرت من معاناة زمانك وأزمنة الأسلاف. أنت مسلم ، فلست اليوم رجل القرن الاول للهجرة ، ولا من عصر التدوين ولكن ايمانك يقضي عليك بالطاعة لكلمة الله غير القابلة لتبديل وفق ما جاء في الكتاب : " لا تبديل لكلمات الله " (سورة يونس ، الآية 64) ، ذلك ان الله أمين لذاته ولا يتغير ما أوحاه.

المسألة مسألة فهمنا للوحي ومقاصده ، وقد تنبه المسلمون لذلك لما أوجدوه "علم أسباب النزول" ، غير أن هذه لا تنحصر بما يتعلق بالظروف الحياتية الخاصة المتعلقة بسيرة الرسول ، بل تتعدى ذلك الى كل السياق التاريخي التي نزلت فيها الآيات . فقِدَم الوحي أو تأصله بالله لا ينفك عن تاريخيته. فأنت منسلخ عن زمان الوحي نفسه ومصارعة الرسول للشرك وتنظيمه الحياة الإسلامية في المدينة يستحيل عليك ان تقارب الغاية الإلهية ، التي عبرّت عنها هذه الآية وتلك اذا انصرفت عن زمان النص الذي تتدبره.

من هنا إننا في اجتهاد دائم ليس فقط من جهة تطبيق الأحكام ولكن من جهة الغوص على النص كله لكي يبقى حياً في قلوب المؤمنين اليوم كما هم المؤمنون دائماً. عبد الحسين شعبان لا " يخترع " إسلامه ولا يبتدع. هو لا " يعصرن " القرآن ولا يسقط عليه أفهومات ليست منه، بل يأخذ نفسه بما فيها من حداثة اليه، وهذا ليس بالتوفيقية الرخيصة ، انه سعي انسان يفتح عقله المجبول بالحضارات ليتقبل النور الإلهي الذي يقذفه الله فيه.

هذه محاولة لا ادعاء فيها ليكون الكاتب هو اياه أي باحثاً أكاديمياً وعالماً في القانون الدولي والعلاقات الدولية وحقوق الانسان والإسلام. ولعل الجانب الأعمق وجدانياً انه ينتمي الى عائلة دينية عريقة لها موقع متميز في سدانة الروضة الحيدرية للإمام علي في النجف الأشرف منذ قرون ، ويرتجف قلمي فيما أكتب هذه الكلمات الأخيرة اذ ادعو الله ان يصرف عن الصحن الحيدري كل أذى لئلا نقع في فاجعة لا نهاية لها في قلوب المؤمنين الجريحة.

ليس العراق غريباً عن هذا المصنّف على رغم الهدوء الذي يقتضيه البحث ، فقد أمسى كل العراق "كربلاء" حتى يرفع الله عن هذا البلد العظيم كل محنة ، والعرب كلهم أيضاً في هذا الكتاب معنيون على رجاء إسهامهم في حضارة اليوم على كل مستوياتها، ولا يستطيع عبد الحسين شعبان ان يلمس واقعاً أليماً يقود اليه بحثه ولا تبكي نفسه. لعل هذا من موروثه كما أراه من حولي في ابناء مذهبه.

الى هذا ما يريحك في مبحث فقه التسامح الإسلامي ، ان تجد كاتباً مرتاحاً الى الاسلام ، حرّاً كلياً من المواقف التبريرية أو الاعتذارية التي كثيراً ما وقفها المدافعون عن الإسلام منذ بداية القرن العشرين. ان يكون عقلك مترصداً لكل الهجمات الفكرية التي شنت على المسلمين أو الدس على الإسلام كما يعبرون ، من شأنه ان يفقدك الحديث عن الإسلام في حلاوة نفس وقوة بناء.

أنا لست هنا مبرئاً ساحة الغرب واعرف كل البؤس الذي أحلّه ليس فقط في الإسلام ولكن في الكنيسة الشرقية أيضاً جيلاً بعد جيل. هذه عدوانية الغرب ولكن ان ترد "العدوانية" بهجوم معاكس يضعف مواقعك ! كذلك ان تعتبر القرآن موسوعة علمية تحتوي على كل معارف الكون وتقنياته في إعجاز جديد هو لعمري هتك لقدسية الوحي وخفضه الى المستويات الدنيا من المعرفة ، فهناك معرفة نحصّلها بالاستقصاء العلمي ومناهجه لأنها من الأرض وهناك معرفة تهبط علينا من السماء !!.

كاتبنا لا يخشى على الإسلام شيئاً. انه يسكن اليه او يسافر فيه وهذا هو الإسلام المعطاء الذي يستطيع المؤمنون به ان يتكلموا عنه بلا تشنج وبلا خوف. الإسلام ليس بيتاً من زجاج وان كانت الدنيا ملأى بالتحديات ، ولا يواجه التحديات الاّ القوي ، فلماذا جذب الاسلام اليه متصوفة المسلمين الروحانيين من كل صوب؟ ... ألأنهم كانوا يحبون الله وتغّنوا به وبذوقهم اياه وتلقيهم مسّاته الإلهية وما خافوا من أحد !!؟

لهذا يقول ذوو الحس الروحي من أهل الديانات ومن أهل الإلحاد: هذا هو الإسلام الذي يجذبني. بعض ما ورد في هذا الكتاب يجعلني " أتهم " الصديق عبد الحسين انه ليس بعيداً عن التراث الصوفي.

واذا أنعم الله عليك بهذا الصفاء تستطيع ان تشاهد بعين واحدة كل الجمالات ، تلك التي في تراثك وتلك التي في غير تراثك وان تقف منها جميعاً موقفاً منصفاً. هذا يذكرني بحديث جرى بيني وبين استاذ لي هندي كنت أدرس على يده الهندوسية مع مجموعة من مسيحي الغرب. سألني لماذا تتجاوب وأيّاي تجاوباً لم أجده عند زملائك ؟ قلت له : أنا مسيحي أرثوذكسي وفي تصّوف كنيستي ما يشبه تعاليمكم في بعض النقاط.

ليس الدين سجلاً عقارياً يدلّك على ما هو لك وحدك ، فاذا كانت الحقيقة التي ورثتها قريبة لما انا ورثت فنحن واحد . هذا لا يعني أني أشدّ ما تعتبره أنت آية كريمة عندك الى ما أعتبره أنا آية كريمة عندي بشكل تبسيطي أو تسطيحي . ولكن ذلك يعني اننا نذهب الى العمق معاً في إخلاص لأله واحد. هكذا استطاع الدكتور شعبان ان يتحدث عن المسيحية بما هي لا عنف في عدل كامل في بحثه النصوص وفي الكمال نفسه في استكشاف التاريخ المسيحي ، فعرض ما تراه هي نصاً الهياً وكان حراً ككل مؤرخ من انتقاد الممارسات التاريخية التي كثيراً ما أتت عند كل القائلين بالتوحيد خارجة عن المشيئة الإلهية.

أنت تابع لله ولست تابعاً لتاريخ. اجل لك أن تبين ان وجهاً من وجوه تاريخك مرتبط بما استلهمه كتابك ، ولكن حذارِ ان تعتدّ بكل شيء لأن الزمن الديني مليء بالمعاصي والدم. وكل بهاء هذا المؤلف انه كتب ضد إهراق الدم.

وفي احتسابي ان وحدة هذه الأطروحة قائمة على ان قيمة التسامح التي أبرزها الانسان المعاصر في فلسفة حقوق الانسان وشرعّتها لها ركائز متينة في الفكر التوحيدي. ان فضل الكاتب انه مسح الغبار الذي رماه التاريخ السيء على الأديان أو رمته القراءة الناقصة أو الجاهلة على النصوص.

هناك افكار مسبقة في "الفكر الغربي" عنيدة لا تمس الإسلام وحده ولعلها تمس المسيحية بالدرجة الاولى وهذا متصل في وضوح عندي بالموقف العدائي للإيمان منذ عصر التنوير. اجل هناك استشراق أوربي بعضه ايجابي تجاه الاسلام ولكن من يقرأ المستشرقين في الغرب من عامة الناس ؟ فكان من المفارقة ان ترى في مكتبات باريس من بعد 11 أيلول (سبتمبر) كتباً عديدة عن الاسلام وقيل ان شيئاً كهذا كنت تراه في كل مكتبات العواصم الغربية.

في هذا الإطار كان هاجس الدكتور شعبان في بحثه عن التسامح في مطالع كتابه وخواتيمه ان يبين ان التسامح في الفكر السياسي الغربي لم ينبع من العدم وان الفكر الديني سبقه الى ذلك واستطاع – على ما أعتقد – ان يبيّن جذور التسامح في القرآن والسنة النبوية وأفلح في هذا وكان عليه ان يطرح على نفسه سؤالاً عما يبدو في التنزيل عنفاً بحق المشركين، وحذراً من أهل الكتاب ، فعالج ذلك بروح من يقرأ النص قراءة تاريخية أي متصلاً بوضع العلاقات التي قامت بين النبي واوائل المسلمين من جهة وبين أهل مكة من جهة أخرى ، الذين كانوا لا يزالون على الشرك. أجل ان احداً لا يستطيع ان يخرج من هذه الصعوبة بموقف دائم التفعيل بحق المشركين الى الأبد لئلا يباد نصف البشرية الراهنة كما لاحظ الدكتور شعبان.

السؤال الذي قد يطرح هنا على الدارس لحقوق الانسان مثله هو هل ان الاسلام كان في فكر اللجنة التي وضعت شرعة حقوق الانسان. هذا يتطلب تنقيباً لم أقم انا به. قطعاً الذين وضعوا " إعلان حقوق الانسان والمواطن " في الثورة الفرنسية كانوا جاهلين للإسلام وما كانوا جاهلين للأصول الإنجيلية ولو نشأوا على كراهية السلطات الكنسية القائمة. هناك مسيحية واضحة في الأدب الكلاسيكي الفرنسي السابق للثورة وتراث عاشه الناس. ويُخيّل اليّ ان الذين وضعوا شرعة حقوق الانسان بعد الحرب العالمية الثانية كان معظمهم مشبعاً بالمسيحية وكانوا قد تجاوزوا نفسياً تنكر كنيسة القرون الوسطى الكاثوليكية لهذه الحقوق ، ولا يحتاج المطلع على نصوص الشرعة ونصوص الإنجيل الى جهد كبير ليلمس بينهما لحمة تذهب أحياناً الى حد الاستلهام ، فربما ذلك هو المشترك الانساني بين القيم والمُثل الروحية ، التي اراد كاتبنا ان يسلط الضوء على جذورها في الاسلام مثلما هي في بقية الاديان ، خصوصاً بما له علاقة بما هو راهن من دعوات للحوار والتواصل الحضاري والثقافي ، وهي احدى دعوات هذا الكتاب الاساسية.

أشياء كثيرة تعزي في هذا الكتاب ان واضعه يدعو قرّاءه الى التماس الحقيقية وهو الدنو من وجه الله المبارك. لا تخلص انت للفكر القويم الا في حركة توبة. هذا ما يسمى في الكنيسة الارثوذكسية في أحدى صلواتها تواضع الفكر ، وهذا وحده يفتح باب الحوار بين أهل الفكر ، وهو ما يجعلنا نمشي معاً في عالم مظلم يسوده الموت ، غير ان المتأمل الكبير في حالة الانسان والتاريخ ، انما يسعى الى ان يميت شهوة الكبرياء العقلية في نفسه حتى تسودها الحقيقية وحدها.

وفي دنيا العرب حيث " نختلط " و " نتعايش " لا بدّ اذا كتبنا ان نأخذ بعين الاعتبار ان المسيحين شريحة في مجتمعنا ولو قلّوا وان المسلمين شريحة. سئل أحد المستشرقين البريطانيين الاسقف كينيث كراغ Kenneth Cragg كيف تكتب نصوصك المتعلقة بالإسلام – وما عرفت انساناً مثله يكتب بهذا الود – أجاب : أتصور دائماً مسلماً وراء كتفي ينظر الى ورقتي ، وكان يريد أن أكتب على الأقل بحيث لا أغيظه وبحيث أنصفه أو أفرحه.

أفرحني الدكتور عبد الحسين شعبان وكأن مسيحياً كان واقفاً وراءه ليعرف عدله... فليكرّم، ويعتبرني هذا المسيحي، الذي اغتبط بما ورد في هذا السِفر ... ودعا لوريث "الحسين" بكرم الله والعافية..


جورج خضر
برمانا – لبنان
مطرانية جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
للروم الأرثوذكس
24 آب (أغسطس) 2004






* جورج خضر – مطران جبيل والبترون وما يليهما ( جبل لبنان ) لمطرانية الروم الارثوذكس ، وهو مفكر وباحث وله مساهمات متميزة في الصحافة اللبنانية والعربية ، فضلاً عن مواقفه الوطنية والقومية المشهود لها. ولد في مدينة طرابلس 1923 ، وهو مجاز في الحقوق من جامعة القديس يوسف 1944 ومحام بالاستئناف لغاية عام 1947 ، وحاصل على شهادة في اللاهوت من معهد القديس سرجيوس للاهوت الارثوذكسي في باريس 1952 ، وحاصل على دكتوراه شرف من معهد القديس فلاديمير اللاهوتي الارثوذكسي في نيويورك 1968 واستاذ الحضارة العربية في الجامعة اللبنانية 1965 – 1970 ، واستاذ اللاهوت والاسلاميات في معهد القديس يوحنا الدمشقي في البلمند 1978 – 1993.
رسّم كاهناً سنة 1954 وانتخب مطراناً لأبرشية جبيل والبترون وما يليهما سنة 1970 ، وعمل مديراً لمجلة النور 1948 – 1970 ورئيساً للجنة اللاهوتية في مجلس كنائس الشرق الاوسط 1976 – 1982 ، كما عمل رئيساً لمجلس ادارة الاكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة . ويعتبر الدكتور المطران جورج خضر أحد الدعاة الاساسين للحوار الاسلامي – المسيحي في لبنان وعلى مستوى الوطن العربي .
له مؤلفات وابحاث ومحاضرات بالعربية والفرنسية والانكليزية منها : انطاكية الجديدة (1969) ، فلسطين المستعادة (1972) ، هل الدين أفيون الشعوب ؟ (1975) ، الرؤية الأرثوذكسية لله والانسان (1982) ، أفكار واراء في الحوار المسيحي – الاسلامي والعيش المشترك (2000) ، المسيحية والعرب (1968) ، المسيحية ، الاسلام والعروبة (1980) ، الحوار بين الاديان (1993) ، الدين والدنيا في المسيحية والاسلام ( 1996) ، التعايش الانساني العالمي (2000).