فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي (الحلقة السادسة والأخيرة)


عبد الحسين شعبان
2024 / 8 / 15 - 14:57     


التسامح: حصاد الفصول

VII



إذا كنت قد طرحت السؤال المفتاحي لماذا نحتاج إلى التسامح؟ فهناك من يقول: ألست ومن معك ومن أمثالك يطلب المستحيل؟ فالعالم مملوء بالكراهية والعنف واللاّتسامح، بل إن منسوبهما يرتفع على نحو غريب. وكان جوابي كما هو إزاء الأحلام الكبيرة والصغيرة هو ما قاله المفكر السلافي اليساري سلافوي جيجك: "نطلب المستحيل، لأننا نريد الممكن"، وأعتقد أن هذا المثل فرنسي.
فماذا عسانا أن نفعل؟ ونحن نرى ونحس ما يعاني منه العالم بشكل عام ومنطقتنا بشكل خاص من مآس وحروب في ربع القرن المنصرم؟ أفلا يستوجب ذلك جهداً مضاعفاً لوضع حدٍّ لغياب التسامح وسيادة العنف وانفلات الإرهاب وغير ذلك من الظواهر الخطيرة؟ مع إدراكنا أن الطريق طويل ومعقدّ وشاق وتواجهه عقبات كبرى وتحدّيات جمّة داخلية وخارجية.
ولأن كل ما حولنا يؤشر إلى استشراء ظاهرة العنف وعدم التسامح، فالأمر بحاجة إلى قراءة الوقائع ليتم استخلاص الدروس والعبر الأساسية منها، وتلك مجرد استذكارات ومقدّمات، أقرب إلى الأسباب التي حملت الباحث على مواصلة مشواره في الخوض بهذا الموضوع المهم، ولذلك لا بدّ من التوقّف عند أربع قرارات أصدرها مجلس الأمن الدولي بعد احتلال " داعش" للموصل في العام 2014، وهي:
القرار 2170 الصادر في 15 آب / أغسطس؛
والقرار 2178 الصادر في 24 أيلول/ سبتمبر؛
والقرار 2195 الصادر في 19 كانون الأول/ ديسمبر؛
وقد صدرت ضمن الفصل السابع، وجميعها تتناول سُبل مكافحة الإرهاب الدولي وتجفيف منابعه، وخصوصاً تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"؛
أما القرار 2199 فقد صدر في 12 شباط (فبراير) 2015، وحمل عنوان "الأخطار التي تهدد السلم والأمن الدوليين"، مشيراً إلى خطر داعش وجبهة النصرة "جبهة فتح الشام" لاحقاً.(1)
وخلال العقد المنصرم حصلت العديد من أعمال العنف والإرهاب ابتداءً من احتلال "داعش" للموصل في العراق، واتخاذ الرقة (سوريا) عاصمةً للدولة الإسلامية بعد الاستيلاء على نحو ثلث أراضي كل من العراق وسوريا، إضافة إلى استمرار انفلات الوضع الأمني في ليبيا وانفجار الوضع في اليمن، واستمرار حوادث الاغتيال ومحاولات تعويم الدولة في لبنان، والعملية الإرهابية في تونس في متحف باردو واستهداف المسيحيين والأزديين في العراق والأقباط في مصر بتفجير الكنائس واستباحة الأرواح، وغير ذلك من أعمال الإرهاب والمنازعات، بما فيها ما يجري في السودان، كما توسع العمل الإرهابي في أوروبا، وشمل فرنسا وألمانيا ونيوزلندا وآخرها في روسيا(2).
وفوق كلّ ذلك ظلّ العالم يتابع، وهو يحبس أنفاسه، حرب الإبادة التي استمرّت لشهور في غزّة وإلى ارتكاب سلطات الاحتلال "الإسرائيلي" مجازر وحشية شملت كل سكان القطاع، البالغ عددهم مليونين وثلاثمائة ألف إنسان، لاسيّما بقطع الغذاء والماء والدواء عنهم، وإجبارهم على الرحيل إلى جنوب غزّة باتجاه رفح مع ملاحقتهم بالقصف والتدمير الشامل.
ولجميع هذه الأسباب ، فإن العلاقة تبدو عضوية بين ثلاثية مترابطة ومتعارضة، أي ضدّية وصراعية وهي التي تقوم على:
1- التسامح واللاّتسامح .
2- العنف واللاّعنف.
3- الإرهاب والتعايش.

وبقدر ما ارتفعت موجة اللّاتسامح والعنف والإرهاب التي اجتاحت العالم، وبالأخص منطقتنا، فإن التراكم السلبي كان بسبب الظلم والاضطهاد والقمع الذي عانت منه شعوب المنطقة، والأمر يعود إلى غياب الاعتراف بالآخر، وعدم الإقرار بحق الاختلاف وممارسته فعلياً، وإنكار الحق في التعايش والتواصل والتفاعل والمشترك الإنساني، لصالح الهيمنة والتفرّد والاستئثار واللاّتسامح.
إن الثقافة الجديدة التي نحن بحاجة إليها، ولا بدّ من تعميمها بالضد من الثقافة السائدة، تقوم على مفاهيم مختلفة، منها أن القوّة لا تعني استخدام السلاح واللجوء إلى العنف، بل التمسّك بالحق، وتأكيد قيم المواطنة والمساواة، واعتماد منهج اللّاعنف والتسامح ومكافحة الإرهاب. وإن القوة لا تفترض وسائل مخالفة للأهداف التي تسعى للوصول إليها، فالوسيلة جزء من الغاية، بل هي تمثّل شرف الغاية، ولا غاية شريفة من دون وسائل شريفة، إذْ كيف يمكن استخدام وسائل خسيسة لغايات عادلة ونبيلة؟ والغاية إلى الوسيلة حسب المهاتما غاندي هي مثل البذرة إلى الشجرة، وهما مترابطان بصورة عضوية. ومقياس معرفة صحة أية نظرية أو فلسفة أو أيديولوجية أو دين تعود بمدى إنسانية وسائلها للوصول لتحقيق الغايات. الغاية بعيدة وغير ملموسة، والوسيلة هي البارومتر الذي نقيس به صحة الغاية.(3)

VIII

أملي كبير في أن يستثير الكتاب بطبعته الثانية، حواراً معرفياً وثقافياً وفكرياً، مثلما أثارته الطبعة الأولى طيلة العقدين المنصرمين، لاسيّما بين النخب على اختلاف توجهاتها ومعتقداتها وأديانها وأيديولوجياتها بخصوص أفكار التسامح واللاّتسامح والعنف واللاّعنف، وكل ما له علاقة بحقوق الإنسان، والتمييز والعنصرية والطائفية ومحاولة التسيّد وإلغاء أو تهميش الآخر، دينياً أو قومياً أو أية مجموعة بشرية سلالية أو لغوية، جماعات وأفرادًا، وتلك هي رسالة الباحث الأساسية، التي يسعى لإيصالها إلى القرّاء.
إن الانحياز إلى التسامح والقطع مع الماضي يحتاج إلى التصالح مع النفس والتصالح مع الآخر الذي نعيش وإياه في وطن واحد أو على كوكب واحد، سواء كان مسلمًا أم مسيحيًا أم يهوديًا، مؤمنًا أو غير مؤمن، ومن أية دولة أو قومية أو لون أو جنس أو هويّة أو غير ذلك .
والتصالح مع النفس يقتضي التصالح مع التاريخ ومع الحاضر في رؤية المستقبل على أساس المشتركات الإنسانية الجامعة، الموحّدة، المختلِفة، والمؤتلِفة في الآن ذاته، خارج دائرة الفكرة الساذجة حول تعارض مبادئ التسامح مع قيم العدالة.
وهنا أيضًا لا بدّ من التفريق بين فكرة التسامح وبعض الآراء الدارجة حول مساواتها ﺑ "العفو" أو "النسيان" أو "التناسي" أو "الإفلات من العقاب" لما حدث من ارتكابات أو عدم المساءلة، فذلك لا يجمعه جامع مع فكرة التسامح التي نقصدها، انطلاقًا من إعلان التسامح، الذي أقرّته اليونيسكو، والذي يعني في جوهره: حق كل فرد أو مجموعة بشرية التمسّك بحقوقها وعدم التنازل عنها، وهذه الفكرة نقيضة لوجود طرف قوي وآخر ضعيف، وأن "الأول" أو "الثاني" يتسامح مع الآخر، انطلاقاً من فكرة مثالية بالشعور بالمنّة على الآخرين أو خضوعهم لعدم قدرتهم على المواجهة، وهو ما عرّضها للازدراء والاستخفاف.
لهذه الأسباب تكتسب فكرة التسامح أهميتها وراهنيتها، خصوصًا في منطقتنا ولدى شعوبنا بسبب طغيان اللّاتسامح الخارجي واستلاب اللّاتسامح الداخلي، ولعلّها ضرورة لا غنى عنها لترميم حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، بعيداً عن الكيدية والانتقامية والثأرية وردود الأفعال السلبية إزاء الآخر. والأمر يحتاج إلى نشر ثقافة التسامح وتعميمها ووضعها موضع التطبيق الحيوي بالمراكمة عليها مع تطوّر مجتمعاتنا، فالإنسان هو الأصل على حد تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس.


نشرت في جريدة الوطن الجديد (العراقية) في 14 آب / أغسطس 2024.





الهوامش:

1. على الرغم من صدور نحو 12 اتفاقية وإعلان دولي من جانب الأمم المتحدة منذ العام 1963 وثلاث قرارات دولية بعد تفجير برجي التجارة العالمية من جانب تنظيم القاعدة الإرهابي في العام 2001، وصدور 4 قرارات دولية بعد احتلال "داعش" للموصل وعدد آخر من القرارات والتصاريح الدولية، إلّا أنها جميعها لم تضع تعريفًا جامعًا مانعًا للإرهاب الدولي بسبب تعارض المصالح الدولية، لاسيّما من جانب القوى المتنفّذة والمتسيّدة في العلاقات الدولية.
أنظر: شعبان، عبد الحسين - الإسلام والإرهاب الدولي: ثلاثية الثلاثاء الدامي - الدين، القانون، السياسة، دار الحكمة، لندن، 2002.
أنظر كذلك: شعبان، عبد الحسين - الأمن التعليمي وتحديات مثلث الإرهاب: التعصب، والتطرف والعنف - مقاربات سيسيوثقافية وحقوقية، محاضرة مفتاحية ألقاها الباحث في مؤتمر بعنوان "الأمن التعليمي وأثره على نبذ التطرف العنيف وتعزيز السلم المجتمعي"، بدعوة من جامعة الموصل و كرسي اليونيسكو، في 11 - 12 شباط / فبراير 2024.
2. ففي فرنسا هاجم إرهابيون مجلة تشارلي إيبدو وقتلوا 12 صحفيًا، كما تعرّضت ضاحية سان دوني قرب ستاد دو فرانس إلى هجوم إرهابي قتل فيه 130 شخصًا، إضافة إلى الحادث الإرهابي في نيس في 14 تموز / يوليو 2016 حين دهست شاحنة 84 شخصًا محتفلين باليوم الوطني، والهجوم على متحف اللوفر في 3 شباط / فبراير، وفي 20 نيسان / ابريل من العام ذاته تم شنّ هجوم إرهابي في الشانزليزيه، وفي 23 آذار / مارس 2018 قتل أربعة أشخاص وجرح 25 في هجوم على مدينة قرقشونة، وفي 3 تشرين الأول / أكتوبر 2019 تعرض مركز الشرطة في باريس إلى هجوم أدى إلى مقتل 4 أشخاص. وفي ألمانيا (ميونيخ) نجم عن هجوم أحد الإرهابيين في 22 تموز / يوليو مقتل أكثر من 10 أشخاص وإصابة نحو 30 بجروح مختلفة. أما في نيوزيلندا فقد تعرّض مسجد نور ومركز لينود الإسلامي إلى هجومين إرهابيين، راح ضحيتهما 51 قتيلًا والعشرات من المصلّين في 9 آذار / مارس 2019 . ومؤخرًا ما سمي ﺑ 11 سبتمبر الروسية التي ظهّرها تنظيم "داعش خراسان" بمهاجمة قاعة كروكوس، خلال حفل موسيقي في منطقة كراسنا غورسك شمالي غربي موسكو والتي راح ضحيتها 143 شخصًا ونحو 150 مصابًا.

3. انظر: صليبي، وليد - نعم للمقاومة، لا للعنف، الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية، بيروت، ط2، 2015، ص 29. يقول وليد صليبي: "لم يستطع الجيش "الإسرائيلي" الاستفادة من تفوقه العسكري والتقني، بسبب الطابع اللاّعنفي العام للانتفاضة (المقصود الانتفاضة الأولى 1987)"، وينقل رأي المعلق العسكري "الإسرائيلي" زئيف شين: هناك إحباط داخل الجيش "الإسرائيلي"، لأنه غير قادر على تحقيق قوته في الحرب بصورتها الجديدة، أي مواجهة الثورة المدنية. وقد أصبح الجيش "الإسرائيلي" من هازم لجيوش جرارة إلى مطارد أطفال في الأزقة، أي أصبح أقرب إلى قوة دوريات سلاحها الأساسي العصا. (ص30 وما بعدها). ولعلّ الانتقام "الإسرائيلي" المنفلت من عقاله، ينطبق، إلى حدود كبيرة جدًا، على عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023.

أنظر كذلك: شارب، جين (1928 – 2018) أستاذ العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس في الولايات المتحدة (والده يهودي وأمه مسيحية)، سجن لتسعة أشهر في العام 1953 – 1954 لرفضه التجنيد والمشاركة في الحرب الكورية. أنشأ في 1983 مركز ألبيرت أينشتاين المتخصص بالدراسات العلمية. وكان قد تأثر بالفيلسوف هنري ثورو (شاعر وفيلسوف أمريكي، 1817- 1862) وفكرته حول العصيان المدني، ولمدرسة المهاتما غاندي، حول الكفاح اللّاعنفي، وطوّرها بما صار يُعرف بنظريّة اللّاعنف، لديه العديد من الكتب بخصوص القوّة الناعمة، من أهمها كتاب "من الديكتاتورية إلى الديمقراطية"، وكان لديه علاقات مع الأجهزة الأمريكية، وقد كلفته اﻟ CIA لتطوير نظريته بخصوص الصين بعد احتجاجات ساحة تيانانمن في العام 1989، ونظم عددًا من المؤتمرات في أحداث مماثلة لدور العقوبات غير العنفية للإطاحة بالأنظمة وما عرف بالثورات الملوّنة، وبغضّ النظر عن ارتباطاته المريبة وتوافقه مع السياسة الرسمية الأمريكية، إلّا أن الكثير من آرائه يمكن الاستفادة منها في الكفاح السلمي اللّاعنفي، لاسيّما باستخدام القوّة الناعمة.