فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي (الحلقة الخامسة)
عبد الحسين شعبان
2024 / 8 / 14 - 17:34
التسامح: حصاد الفصول
VI
حين طُلب مني إلقاء محاضرة عن التسامح في برمانا (لبنان) في مؤتمر دولي نظمته الشبكة العربية للتسامح، اخترتُ عنواناً مباشراً، وهو "لماذا نحتاج التسامح؟" وبرؤية أوسع "لماذا يحتاج العرب والمسلمون إلى التسامح أكثر من غيرهم؟" وكذلك لماذا تحتاج منطقتنا إلى التسامح أكثر من غيرها؟ وكنتُ قد طرحت مثل هذا السؤال الحائر على نفسي منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، وكرّست جهداً ووقتاً لكي أعطي الفكرة حقها، "فلماذا الحاجة إلى التسامح؟".
أستعيدُ ذلك الآن، خصوصاً وأن رصيد فكرة التسامح أصبح أكبر من السابق، وتعزّزت مكانتها لدى نخب فكرية وسياسية وثقافية ودينية متنوّعة ومختلفة، لم تكن منشغلة بفكرة التسامح، بل كانت تقف بالضفة المقابلة لها، أي ضفة اللّاتسامح، وإذا بها اليوم، وإن يحصل ذلك ببطء شديد وانثلامات وتراجعات أن تنتقل من موقع اللّاتسامح إلى موقع التسامح، حتى وإن كان الأمر اضطرارًا وليس اختياراً فحسب، خصوصًا بوصول العديد من المشاريع الفكرية والسياسية القومية والماركسية والدينية إلى طريق مسدود، في ظلّ محاولات الإلغاء والإقصاء والتهميش التي أخذ الجميع يشعر بوطأتها، لاسيّما بتبدّل الأدوار والمواقع.
كانت الطبعة الأولى من كتابي الموسوم "فقه التسامح في الفكر العربي – الإسلامي: المواطنة والدولة" قد صدرت في العام 2005 عن دار النهار في بيروت، وقدّم لها المطران جورج خضر. والمقدّمة بحدِّ ذاتها تصبّ في فكرة الحوار عن جدوى التسامح ومبتغاه وضرورته والوسائل الموصلة إليه، وهو ما دار بين المطران الجليل المتنوّر الموسوعي الثقافة وصاحب القلم الأنيق والجملة الرشيقة والكلمة الحرّة، وبيني، على امتداد سنوات، وهو ما رويته في مناسبة سابقة.
وبعد صدور الكتاب بفترة وجيزة، فوجئت بإيميل ثمّ باتصال هاتفي من الولايات المتحدة، وكان المتحدث من الطرف الآخر، كما عرّف بنفسه Ted Thornton (1)، يخبرني بأنه اطّلع على كتابي وترجم منه 29 صفحة، ويسألني إذا ما كان الكتاب قد تُرجم أم لا؟ وإذا ما كان لدي مانع من ترجمته؟ وعرّف بنفسه أنه مهتم باللغة العربية، وهو يدرّسها. استمهلته لأحيط بالموضوع ولأتأكّد من دقّة الترجمة، خصوصًا وأن موضوع الكتاب ليس سهلًا، ثم التأكّد من جهة النشر، وذلك بعد أن أرسل لي الصفحات المذكورة وكنت قد اتفقت مع دار نيلسون (السويد) لترجمة الكتاب، لكنني لم أوقّع عقدًا معها، وأن ما دار حول ذلك كان بواسطة صديق فاتحني بالأمر، فأبديت موافقة مبدئية على أن اطّلع على تفاصيل الاتفاق لاحقًا.
وفي الفترة ذاتها كان الصديق بدران حبيب، صاحب دار آراس في أربيل، قد عرض علي ترجمة الكتاب إلى اللغة الكردية وإعادة طبعه باللغة العربية، فاقترحت عليه نشر الطبعة الإنكليزية وتوزيعها، فوافق على ذلك، وهو ما أبلغته ﻟ Ted، الذي كانت رغبته شديدة بأن يترجم الكتاب، وقد ارسلت نسخًا له بعد طبعه، وأهديت معظم النسخ إلى المكتبات العالمية، بما فيها لليونيسكو ولمعهد العالم العربي والمكتبة البريطانية (المتحف البريطاني) ومكتبة الكونغرس الأمريكي، إضافة إلى مكتبة الاسكندرية والعديد من المكتبات الوطنية العربية.
وتمّت ترجمة الكتاب إلى اللغتين الكردية والإنكليزية، إضافة إلى صدور طبعة عربية محدودة (2012-2013). وكان الكتاب قد حظي باهتمام كبير، حيث كُتبت عنه الكثير من المراجعات والتقريظات، وأجريت معي العديد من المقابلات الصحافية والتلفزيونية والإذاعية بشأنه، وتم الاستشهاد به كمرجع معتمد، ونظّم المجلس الثقافي للبنان الجنوبي الذي يرأسه الأديب حبيب صادق ندوة مكرّسة لمناقشته، شارك فيها المطران جورج خضر والناقد السوري محمد جمال باروت.
لعلّ جوهر الفكرة يتلخّص في الإجابة على السؤال المحوري: لماذا يحتاج العرب والمسلمون أكثر من غيرهم إلى التسامح؟ وبالعودة إلى التاريخ يمكن القول: إن تاريخنا قبل الإسلام وبعده، احتوى على أشكال من اللّاتسامح والعنف، مثلما شهد تاريخنا الحديث والمعاصر أعمال عنف واستباحات لا حدود لها، لاسيّما في ظل ثقافة الكراهية والثأر والانتقام ومحاولة إلغاء الآخر، التي ما تزال سائدة، بل ومهيمنة على العقول، وحسب دستور اليونسكو"لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام"(2)، ولذلك فإن زرع فكرة التسامح ينبغي أن يكون في العقول أولًا، ويتطلّب ذلك إرادات تقبل الآخر وتحترم خصوصياته وهويّته وحقه في الاختلاف، وتؤمن بالحوار وسيلةً للتفاهم وحلّ المشكلات دون إقصاء أو إلغاء أو تهميش.
ولا زالت مجتمعاتنا تعاني من ثقافة الحروب "الباردة" و" الساخنة" وأشكال مختلفة ومتنوّعة من النزاعات الأهلية، لأسباب قومية وعرقية وإثنية ودينية وسلالية ولغوية واجتماعية واقتصادية وثقافية وغيرها، وحين يكون اللّاتسامح والعنف سائدين، فإن البيئة الحاضنة ستكون مهيأة لأسباب التسيّد والتمييز وعدم الاعتراف بالحقوق وبالآخر، تلك التي تزيد من مأساوية الصراعات الدينية والمذهبية والإثنية، وأوضاع اللاجئين والنازحين واستشراء وتفشي ظواهر التعصّب والتطرّف، المنتجة للعنف والإرهاب، لاسيّما في ظل ارتفاع منسوب الفقر والتخلّف، إضافة إلى التدخّلات الخارجية، ولاسيّما العسكرية.
استعدتُ ذلك وأنا أكتب مقدّمة جديدة لكراس صدر بالعنوان ذاته "في الحاجة إلى التسامح"، واستحضرت كيف توصّلت إلى فكرة التسامح التي لم تكن رائجة في مطلع التسعينيات، لاسيّما وأنني مثل الكثير من أقراني عشت في بيئة "يسارية - ثورية" وفي ظلّ فكر شمولي يشجع على ما يسمى بالعنف الثوري، بل ويمجّده، الأمر الذي تطلب مني جهاداً مع النفس وربما هو "الجهاد الأكبر" كما كان يطلق عليه الرسول محمد (ص) ، للتخلص من تأثيرات الماضي والتصالح مع الحاضر دون تأثيم أو تجريم للمرحلة السابقة، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأوضاع السائدة والصراع الاجتماعي والسياقات التاريخية.
وكان ذلك هو الطريق الذي اعتبرته أحد مداميك حياتي، وهكذا وظّفت جهدي وعملي الفكري والتطبيقي لنشر قيم التسامح واللّاعنف، ووجدت نفسي منخرطًا بجامعة اللّاعنف للدراسات العليا في بيروت، بالتعاون مع د. وليد صليبي و د. أوغاريت يونان، الصديقان الأثيران، ونخبة متميّزة من الأصدقاء منذ تأسيسها العام 2009، وحتى قبل نيلها الاعتراف الرسمي في العام 2014.
حين نظّمت مؤتمرًا في لندن بعنوان "التسامح والنخب العربية" في إطار المنظمة العربية لحقوق الإنسان، التي كنت أتشرّف برئاستها، أثار الموضوع لدى العديد من المتعصّبين تساؤلات وتحفظات مسبقة، خصوصًا في ظل استقطابات سياسية حادّة وفهم قاصر ومحدود(3).
وقد طرح البروفسور خليل الهندي في الجلسة الأولى سؤالاً في غاية الأهمية: هل يوجد تسامح لننظّم له ملتقانا الفكري الخامس أم أن غيابه يدعونا لتنظيم فعاليات للتذكير بجوهر مبادئه بمناسبة إقرار اليونسكو الاحتفال السنوي باليوم العالمي للتسامح؟ ولعلّ هذا السؤال المزدوج والمركّب ظلّ يتردّد بأشكال مختلفة على ألسنة أكثر الباحثين والمتداخلين نفياً أو تأكيدًا، إقراراً بواقع أليم أو أملاً وهدفاً في واقع جديد يتّسم بالتسامح.
لكن خاتمة الملتقى لم تكن تشبه بداياته، فقد استمرت أعمال الملتقى وساعاته المتواصلة والمتّصلة من الحوار والجدل في القاعة وخارجها وفي الملتقى وما بعده، حيث عبّر أغلب المتداخلين عن تأييدهم ودعمهم لنشر ثقافة التسامح على المستوى العربي(4).
ودعا المؤتمرون إلى: تأكيد قيم التسامح مع بعضنا البعض أولاً، دون تخوين أو تكفير أو تأثيم أو تحريم أو تجريم أو غير ذلك من عوامل الإقصاء والإلغاء والاستئصال وعدم الاعتراف بالاختلاف والتنوع والتعددية. وثانياً تأكيد قيم التسامح مع الآخر، فلا ينبغي النظر إليه باعتباره خصماً متربصاً أو عدواً مارقاً لمجرد الاختلاف، وثالثاً لا بدّ من تنزيه مبادئ التسامح من الفكرة الساذجة حول تعارضها مع مبادئ العدالة، وتصويرها وكأنها دعوة للاستسلام، أو نسيان ما تم ارتكابه من جرائم، لاسيّما في فلسطين والعراق ولبنان وغيرها، ورابعاً إن تأكيد قيم التسامح لا تعني غضّ الطرف عن الارتكابات والانتهاكات لحقوق الإنسان، بممارسة التعذيب أو الاغتصاب أو القتل الجماعي أو غيرها، ولعلّ تلك الجرائم لا تسقط حتى بالتقادم.(5)
ومنذ إعلان اليونسكو (1995) فقد انعقد الكثير من الفاعليات والأنشطة بشأن نشر ثقافة التسامح، وصدرت كتب ومطبوعات، وتأسّست منظمات وشبكات لهذا الغرض(6)، على الرغم من أن ما يفصلنا عن قيم التسامح الإنساني هوّة سحيقة، على الصعيدين الفكري والعملي، علماً بأن قيم التسامح كانت قد تكرّست في مجتمعات سبقتنا في هذا المجال، الأمر الذي يحتاج إلى مراجعات جريئة ونقد ذاتي، لا سيّما من جانب النّخب الفكرية والسياسية الحاكمة وغير الحاكمة، لمقاربة فكرة التسامح والتعاطي معها إيجابياً، على الصعيد الأخلاقي والاجتماعي، وإقرارها قانونياً ودستورياً.
(يتبع)
الهوامش:
1. Shaban, Hussain- Tolerence in Arab Muslim Thought, Culture and State, Translated by:
Ted, Thronton, Aras Publishers, Erbil, 2012.
2. أنظر: دستور اليونيسكو، 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1945.
UN Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO), Constitution of the United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO), -, 16 November 1945, https://www.refworld.org/legal/constinstr/unesco/1945/en/41638
3. انظر مداخلات الملتقى منشورة في كتاب "ثقافة حقوق الإنسان"، إعداد شعبان، عبد الحسين، إصدار البرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان، القاهرة، 2000. الجدير بالذكر أن أول ملتقى فكري نظمته المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا كان بعنوان "الحوار العربي- الكردي" شارك فيه ما يزيد عن 50 باحثاً ومثقفاً عربياً وكردياً، وقد انعقد في لندن (تشرين الثاني / نوفمبر/1992) وكان الملتقى الثاني بعنوان " حرّية التعبير وحق المشاركة" في العام 1993، أما الملتقى الثالث فهو بعنوان " الثقافة والمثقفون وحقوق الإنسان" وقد انعقد في العام 1994 وكان عنوان الملتقى الرابع " المرأة وحقوق الإنسان" وانعقد في العام 1995. أما الملتقى الخامس فقد انعقد تحت عنوان " التسامح والنخب العربية" العام 1996، واختار الملتقى السادس عنوان " القدس وحقوق الإنسان" العام 1997، في حين كان الملتقى السابع بعنوان "الحصار الدولي والواقع العربي" 1998.
4. من بين المشاركين في الملتقى الشخصيات الآتية: أديب الجادر (العراق) والشيخ راشد الغنوشي (تونس) ورغيد الصلح (لبنان) والسيد محمد بحر العلوم (العراق) وأبونا بولس ملحم (لبنان) وخليل الهندي (فلسطين) ومحمد الهاشمي الحامدي (تونس) وعبد السلام نور الدين (السودان) وليث كبه (العراق) وصلاح نيازي (العراق) وبهجت الراهب (مصر) ومصطفى عبد العال (مصر) وآدم بقادي (السودان) وعلي زيدان (ليبيا) وعبد الحسن الأمين (لبنان) وعبد الرحمن النعيمي (البحرين) ومحمد مخلوف (ليبيا) وسناء الجبوري (العراق) وكاتب السطور وآخرين.
أنظر :شعبان، عبد الحسين - ثقافة حقوق الإنسان (تحرير وتقديم)، وقائع خمسة ملتقيات فكرية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن إصدار البرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان والمنظمة العربية لحقوق الإنسان - لندن، القاهرة، 2001.
5. انظر : شعبان ، عبد الحسين- سؤال التسامح ، دراسة وحوار مع الباحث بمشاركة عدد من الباحثين، مركز عمان لدراسات حقوق الإنسان، عمان، 2003.
قارن كذلك: البيان الختامي الصادر عن الملتقى الخامس للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، لندن، 1996 (كتاب ثقافة حقوق الإنسان)، مصدر سابق.
قارن كذلك: شعبان، عبد الحسين – في الحاجة إلى التسامح، مصدر سابق.
6. تصدر مجلة التسامح عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية - سلطنة عُمان منذ العام 2003، كما تأسست الشبكة العربية للتسامح في بيروت العام 2008 بالتعاون مع مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان. وكان لكاتب السطور شرف كتابة نظامها الأساسي ونظامها الداخلي. الجدير بالذكر أن مركز رام الله يُصدر مجلة تسامح منذ العام 2003، وهي مجلة فصلية.