من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى للقايدية 15


عبدالرحيم قروي
2024 / 8 / 12 - 18:47     

د-التنافس بين القياد:
خلال السنوات الأولى للقرن العشرين وبالضبط منذ وفاة باحمد إلى دخول الفرق العسكرية الفرنسية إلى مراكش، كان الحوز الأوسط مجالا لمنافسات قوية بين القياد الثلاثة للأطلس: كوندافي ومتوكي والكلاوي.
وإن تتابع السلطات السياسية على رأس القبائل الضريبية قد أصبح سريعا ثم توقف نتيجة لإقامة الحماية ومساندة الكلاوي كأمير غير منازع لمنطقة مراكش. وقد قلنا سابقا أنه كان من المحتمل أن يكون شخص آخر غير الكلاوي: فليس هناك حتمية خاصة تضمن مصير الكلاويين. وتدخل الفرق الفرنسية ضد تصاعد حركة الهبة في اللحظة والمكان اللذين كان يحدث فيهما ذلك التصاعد قد قبض على عنصر لحظى في الحركة الفوضوية للمنازعات بين القياد.
في حين أنه في القرن 19 كانت إدارة الحوز مجزاة إلى عشرين قيادة تقريبا، ومنذ 1900 كانت ثلاث أسر كبرى تتقاسم المسؤوليات القايدية وأرست سيطرتها على مجموع السهل طيلة فترات قصيرة ما عدا الفترة الأخيرة:
1900-1906: الطيب الكوندافي
1906-1908: مدني الكلاوي
1908-1911: عبد المالك متوكي
1912-1956: التهامي الكلاوي
وليس غرضنا أن ندخل في تفاصيل المنافسات والتحالفات المتقلبة بين المتنازعين الثلاثة. ولدينا وثائق وفيرة حول هذا على الخصوص نتيجة للتقيظ الكبير الذي كانت تبذله فروع القنصلية في تتبع عن كثب التصرفات المتقلبة والممارسة من طرف أولئك المتنازعين، والإشاعات السارية والتي كانت تحاول أن تكون رأيا انطلاقا من ذلك عن النظام السياسي المغربي. والمواقف المتطرفة تكشف جيدا عن أسس اللعبة السياسية. ذلك أن القوى المجتمعية حينئذ كانت تتواجه وقد سقطت أقنعتها. غير أن انهيار جهاز الدول المركزية، التي كانت عاجزة عن قمع الأطماع والتحكيم في الصراعات، قد تركت المجال مفتوحا لظهور مرحلة المنازعات القايدية من جديد.
وفي الحقيقة، في السنوات الأولى من القرن العشرين كان الوضع يتلخص وكأن «تاقبليت» التي كان مسيطرا عليها وأعيد تجمعها على شكل قطاعات ضريبية كبرى (خمس الأخماس) بواسطة أسياد الحرب بمساعدة من السلطة المركزية، كانت تكون تحت ظل سطوة القياد، كيانات سمتها الإدارة الاستعمارية فيما بعد «قبيلة» «tribu». وأن ظاهرة توسيع المجال الاجتماعي والسياسي من «تاقبليت» إلى القبيلة لم يكن لا مستمرا ولا سائرا في خط مستقيم واحد ولا غير قابل للتراجع. فقد تم من خلال تصفية امتيازات مجلس الشيوخ المسنين والالوغارشيين، بمناسبة الاستيلاء المطلق على السلطة من طرف القياد. وقد حدثت قفزة كبرى في توسيع المجال السياسي الداخلي وذلك بين سنة 1900 و1912، انطلاقا من تشخيص سلطة القياد ذاتها الذين استعملوا من جديد الوهم الإيديولوجي لكيان القبيلة. وبدون أي تدخل خارجي كان من الظاهر أن نوعا من التوازن هو في طور التكوين لكي يقطع مجموع الجنوب الغربي المغربي إلى ستة أو سبعة مجموعات كبرى «اتحادات»: حاحا، متوكة، كوندافة، كلاوة، رحامنة، سراغنة، الخ، تمتص كل الجماعات، الموجدة على الحدود، والمستضعفة والمسحوقة بعمليات عديدة من النهب والابتزاز. ولكي نوضح جيدا فترة من الفترات القصيرة –ولكنها معبرة- التي حققت في بضعة أسابيع سنوات من الانتظار والترقب. لقد اخترنا أن نستعرض فترة بارزة ولها دلالة مهمة تتناول الصعوبات التي صادفها الطيب الكوندافي لكي يدخل إلى قبيلته خلال فترة ربيع سنة 1906 .
ففي نهاية حفلة عيد الأضحى لسنة 1323 (10 ذي الحجة-5 فبراير/شباط 1906) التي أقيمت في قصر المولى عبد العزيز بفاس، تسلم الطيب الكوندافي إدارة وريكة في ظروف مشابهة لظروف السنة الفارطة، وقد كانت هذه يديرها ب. القرشي الوريكي . كما حصل على إدارة زوايا أمغاريين أي تامصلوحت وفروعها وكذلك فيما يبدو قيادة ولاد بوسبع .
وإلقاء نظرة واحدة على خريطة الحوز تفسر أن الكلاوي والمتوكي معا قد اعتبرا تلك التعيينات كضربة موجهة ضدهما، ومنذ ذلك الحين دخل الكوندافي إلى السهل بواجهة عريضة. والتحالف القديم بين رحامنة وكوندافة يقطع شريطا أرضيا من سوس في نهر أم الربيع ويقع في وسطه مراكش وبذلك حرم كلاوة ومتوكة من كل أمل في محاصرة العاصمة.
وحين كان الطيب في طريق العودة حاملا معه ظهائر التعيين الخمسة عشر والطوابع لتوزيعها على القياد الصغار الذين سيكونون تحت امرته قرر التهامي الكلاوي وعبد المالك المتوكي في 4 أبريل/نيسان 1906 أن يشتركا في مكيدة ضد الطيب وأن يمنعاه من تنفيذ تعديل مولاي عبد العزيز وأن يدفعا مولاي حفيظ إلى المطالبة بالعرش.
وسيكون من السخف الاعتقاد كما يدعي أغلب الملاحظين الأجانب المسؤولين في مراكش أن شخصية مولاي عبد الحفيظ قد صنعها المتوكي والكلاوي بهدف وضع حد للصعود المزعج للكوندافي. يجب أولا اعتبار الوضعية العامة للبلاد، فالقوى الأوربية قد ضيقت الخناق على النظام لكي يقبل السيطرة الاستعمارية. وقد وقع بالفعل عقد الجزيرة الخضراء في 7 أبريل/نيسان 1906 وعرف الكل بعد بضعة أيام أن المولى عبد العزيز قد فتح أبواب المغرب للتدخل الأجنبي. والمعارضة الصامتة للسلوك الخاص والسياسي للسلطان تلك المعارضة التي كانت تتكون وتتقوى منذ أصبح مجيء وذهاب المبعوثين الأوربيين واضحا للعيان، قد اتخذت شكلها وكيانها. وكان مولاي حفيظ بمثابة حل للأزمة على ما يبدو، على اعتبار أنه أكثر احتراما للتقاليد وأكثر مقاومة للضغوط الأجنبية. وبديهي أن لم تمارس عليه أية ضغوط بعد لأنه لم يكن هو السلطان. ولا جدال أن حركة مولاي عبد لحفيظ كانت موجودة قبل سنة 1324. ولا شك أنه كان لا بد من ضم التشجيعات المحلية إلى الفرص المواتية لإعطاء قوة لشيء كان سيظل مجرد احتمال. ولا نعلم بالتفصيل من منهم: الكلاوي أو المتوكي أو مولاي حفيظ كان يحرض الآخرين في ربيع 1906، غير أن نجاح الكوندافي لدى مولاي عبد العزيز لم يكن ليؤدي سوى إلى سرعة الأحداث .
ويمكن أن نتتبع تقوية محور الكوندافي –مولاي حفيظ- الموتكي وذلك مرحلة مرحلة أي كلما اقترب الكوندافي من مراكش. وحين وصل في 22 أبريل/نيسان 1906 إلى عاصمة الجنوب حاملا معه رسالة من مولاي عبد العزيز موجهة إلى خليفته لكي يوصيه على الطيب ويطلع على تعيينات القياد الجدد ، ظل ثلاثة أيام يطلب مقابلة مولاي حفيظ ولكن هذا رفض ذلك . وبديهي أن الطيب وعى بالخطر الذي يتهدده حين علم بأن كتائب مسلحة من متوكة وكلاوة قد استقرت على الطرق المؤدية إلى واد نفيس: معناه أن دخوله إلى أراضيه الجبلية قد أصبح ممنوعا. صحيح أن يتوفر على ظهائر التعيين على قبائل ديارة، ولكن تنقص القوة الفيزيائية حتى يجعل تلك الظهائر واقعا ملموسا. وفي الحقيقة لم تعد السلطة على الحوز كلها بين يدي المولى عبد العزيز.
فتصرف الطيب حينئذ له دلالته من حيث العودة إلى الجيوبوليتيك القبيلة القديمة. فعقد حلفا مع قايد أنفلوس في حاحا، لأن ذلك هو الوسيلة الوحيدة لإبعاد أطماع المتوكي عن الحوز. وأخبر الحاحي أن لديه ظهائر التعيين لقيادات الغرب، لصالح أصدقاء أنفلوس، وأن المولى عبد العزيز سيرسل له جنودا يقودهم مولاي العرفة لمعاقبة المتوكي، وبمساعدة الرحامنة، على قضية الذخيرة . وفي الحقيقة لا نعرف مدى الاستعداد لهذا التدخل، وعلى كل لم يحدث نظرا لاشتغال مولاي عبد العزيز بمشاكل أخرى ولنسجل هنا أن الكلاوي لم يكن يعتبره الكوندافي هو العدو الأول الذي يجب مواجهته.
ثم قرر الطيب أن يذهب إلى نفيس العالي مهما كلفه ذلك. ففي 26 أبريل/نيسان وصل إلى الورديين حيث قامت جماعة من رجال المتوكي بقطع الطريق عليه فاضطر للرجوع على عقبيه. وفي 27 أبريل/نيسان ذبح ثورا لزاوية بن ساسي ليطلب مساعدة الرحامنة. وقد اقترح هؤلاء أن يتوسطوا بينه وبين مولاي حفيظ حتى يحد من النزاع . غير أن الطيب غضب فهو لا يريد أن يخضع لسلطة غير شرعية، واقترح تحالفا مع الرحامنة: فإن هم ساعدوه على تنصيب ولد الحاج حمادى، الذي سماه مولاي عبد العزيز قايدا على مسفيوة فسيعدهم بأنه سيحصل لهم على أراضي مسفيوة الموجودة في السهل. وعندما علم المتوكيون باجتماع زاوية بن ساسي، استعدوا لمهاجمة الرحامنة. وإذ ذاك في 9 ماي/أيار احتل أنفلوس زليتن وصرف المتوكيين عن الحوز الأوسط. وبعد بضعة أيام وصل الكوندافي إلى ملجأه الجبلي. ويذكر جوستينار الحكاية الكلاسيكية للسجين الذي فر حين اعتقد أنه ذهب ليتوضأ.
وكل هذا غير واضح جيدا ولكن سنلاحظ أن الطيب قد استطاع الاقتراب من أكركور، دون حراس بعكس ما يذكره جوستينار . بفضل تواطؤ أو وساطة الحاج عبد السلام الورزازي خادم حاكم مراكش. وغداة مروره احتل الكلاوي الكيك، ولو فعل ذلك يوما من قبل لقطع على الكوندافي الطريق على الجبل . ويظهر أنه كان مطمئنا إلى أن معارضي الكوندافي يفضلون أن يروا هذا سجينا في جبله على أن يروه مدبرا للمؤامرات في السهل.
يتبع