الأنانية تقتل الليبرالية
فهد المضحكي
2024 / 8 / 10 - 11:54
العنوان أعلاه لمقال للباحث الأمريكي جيمس تروب، نُشر قبل سنوات بمجلة «الثقافة العالمية» التي تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، ترجم المقال الكاتب والناقد السوري يامن صبور.ونظرًا لطول المقال، سنكتفي بعرض أهم محاوره.
في البدء يقول تروب، يشكّل موضوع موت الليبرالية الجنازة الجماعية الأكبر في عالم النشر، منذ نصف قرن مضى. لقد توصّل بعض المؤلفين، من أمثال الفيلسوف المحافظ باترك دينين، صاحب كتاب «لمَِ فشلت الليبرالية» إلى دفن عقيدة الأمس. وهنالك آخرون، ومنهم إدوارد لوس، في كتابه «انسحاب الليبرالية الغربية»، ومارك ليلا في كتابه «ليبرالي الماضي والمستقبل»، وستيفن ليفتسكي ودانييل زيبلات في كتابهما «كيف تموت الديمقراطيات»، لهجوا بالمديح لها.
لكن، ربما جرى دفن الليبرالية مبكرًا. والسؤال الذي يطرحه هنا هو: ما الذي يمكن لنا تعلّمه من قصة مثابرة الليبرالية الطويلة؟ وكيف يمكننا أن نطبق هذه الرؤى من أجل مساعدة الليبرالية في كتابة قصة جديدة لعصرنا بدلاً من سؤالنا ما الذي قتل الليبرالية؟
يرى تروب أن الليبرالية ليست بعقيدة مؤسسة على نص مقدس، بل هي أشبه ما تكون بمجموعة من النزاعات، التي تشمل الإيمان بالأفراد واستطاعتهم على النمو، وتفاؤل ملطف يتوقع التقدم، لكنه ينكص عن الأحلام اليوتوبية، واعتقاد بالحوار المفتوح وإمكانية الإقناع، وإصرار على العلمانية في المجال العام، وتّوجه نحو الحقوق المدنية والحريات المدنية. ولأن ليس لليبرالية أي مدونة قوانين، فإنها تعيد باستمرار تعريف نفسها وتجديدها. ليست الليبرالية أكثروية في الجوهر، لكن؛ لأنها تزدهر تمامًا في الديمقراطيات فقط، فأنها تسعي كي تصطف مع الإدارة الشعبية العريضة.
لكن لبّ الليبرالية هو حقّ الفرد بالتميز. يمكن اعتبار كتاب «عن الحرية» لـ(جون ستيورات مل) أقرب ما لليبرالية من مسلكٍ تأسيسي. سعى (مل) إلى شرح لماذا تكمن مصلحة المجتمع عمومًا في منح الأفراد الحق الأعظم الممكن للتكلم والتصرف كما يحلو لهم ‹ ويقصد من وراء ذلك، ليس للأفراد نوع من «الحق الطبيعي» مستقل عن قيمته الاجتماعية يكفل لهم حرية الكلام. وهو كتب أنه عوضًا عن ذلك، فإن الجنس البشري ليس معصومًا من الخطأ، بل إن فضيلتنا المنقذة هي أن عثراتنا «قابلة للإصلاح». نحن نقرّ بعدم عصمتنا من الخطأ عبر استماعنا لأولئك الذين نختلف معهم في الرأي، وعبر اختبار افكارنا بمواجهتها مع أقوى جدل مضاد ممكن. وبهذا فقط يكون لدينا فرصة الاقتراب من الحقيقة إن لم يكن الوصول إليها بالفعل.
ويقول عن ما سبق يبدو لنا هذا المقطع عند قراءته اليوم بائدًا مثله مثل قانون الفروسية. يحفل عالمنا بفيضِ من حرية الكلام فيما تنحط الملكات العقلية التي تجعل حرية الكلام ذات معنى بالفعل. يحول خطاب «الأخبار الزائفة» الأطراف المختلفة من الجدل السياسي إلى معسكرات متعادية يتقوقع كل منها داخل فقاعته المعرفية. كتب كارل بوبر في «المجتمع المفتوح» في أوج أيام النازية، واصفًا اللاعقلانية على أنها شرط لازم للدولة الشمولية. يجبرنا كل من بوبر ومل اليوم على طرح سوالٍ معرفي: كيف يمكن للإيمان العقلاني بشكله الأمثل في الليبرالية أن يزدهر في عصرٍ يزدري العقلانية بشكل ممنهج؟
وفقًا لما ذكره مع نهاية القرن التاسع عشر، فيما كان الاقتصاد الصناعي قد رفع مستوى المعيشة، وعلى حدٍ سواء أغرق العمال الذين تسلحوا يومها بحق التصويت في شروط عملٍ مريعة في المصانع والمناجم، أصبحت عقيدة ترك الحرية للنشاط الاقتصادي «دعه يعمل، دعه يمر» أمرًا لا يطاق على المستويين السياسي والأخلاقي حتى من قبل الليبراليين أنفسهم. وطالما أن الملكية الخاصة مقدسة، فإن الحقوق المتساوية لم تكن لتستطيع ضمان تساوي الفرص لمواطنين لم يولدوا وفي فمهم ملعقة ذهب. لم تكن الليبرالية لترضى بمجرد الوعد بحقوق متساوية.
وبرأيه، تفرع جذع الليبرالية الآن إلى غصنين. استعاد الأول تقليد السوق الحرة مجادلاً بأن الحرية السياسية لا تستطيع الانتعاش من دون الحرية الاقتصادية الكاملة. ترتبط وجهة النظر هذه مع الاقتصاديين النمساويين، من أمثال لودفيغ فون فريديرش هايك، وهي ازدهرت في عشرينات القرن الماضي، لكن نكبة الكساد العظيم ألحقت بها العار، ولن تنهض مرة أخرى الإ بعد عقود. جاءت الاتفاقية الجديدة التي، التي وضعها فرنكلين روزفلت، لتعوّم الليبرالية الأخرى ومن ثم، قام مفكرو منتصف القرن الماضي، من أمثال جورج أورويل بدعمها على أنها الحصن المنيع في وجه الشمولية. كانت تلك الليبرالية هي العقيدة العلمانية التجريبية الذرائعية، التي أصبحت أشبه بديانة مدنية في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. احتلت تلك الليبرالية، بوصفها «المركز الحيوي» وفق آرثر شيلزينغر، موقعًا وسطًا بين الفردانية الصارمة التي طبعت إنجلترا في القرن التاسع عشر والديمقراطية الاجتماعية الجماعية التي سادت في أوروبا بعد الحرب.
في خطابه الشهير، الذي أعلن فيه ليندو جونسون دنو المجتمع العظيم، استخدم الرئيس السابق استعارة كرولي حول السباق غير المتكافئ، لكنه مع حلول ستينيات القرن العشرين لم يعد الأمريكي الأبيض من الطبقة الوسطى من هم بحاجة إلى تدخل الدولة، بل الأقليات، وخاصة الأمريكيين من أصل أفريقي، الذين كانوا قد أهملوا، فيما الأمريكيون أصبحوا أمة مزدهرة بشكل عام.
وفي اعتقاد تروب، حمل هذا الالتزام الأخلاقي مخاطر سياسية واضحة، فالليبراليون باتوا يطلبون من الأمريكيين القيام بالتضحيات من أجل الآخرين. وفي نهاية العقد، كانت الليبرالية قد بدأت بخسارة سيطرتها على الطبقة العاملة البيضاء التي كانت ذات يوم المستفيد الرئيس من البرنامج الحكومية.
ولم تسترجع الليبرالية جاذبتها أبدًا لدى أولئك الناخبين. وبحلول العام 1980، أعيد إنعاش تقليد «دعه يعمل، دعه يمر» المهجور، فيما جرى استبدال ليبرالية رونالد ريغان اليمينية، ذات الحكومة المصغرة والضرائب المنخفضة واقتصاد السوق الحرة، بالليبرالية اليسارية.
تجاوب الديمقراطيون مع تهميشهم عبر إسقاط كلمة «ليبرالي» المذمومة وتقبل أجزاء أساسية من برنامج ريغان. أيّد النيوليبراليون أو مناصرو «الطريق الثالث»، من أمثال بيل كلينتون ( أو توني بلير وغيرهارد شرودر في أوروبا)، تأكيد المحافظين على النمو الاقتصادي، لكنهم طبقوا المبادئ الليبرالية للعدالة الاجتماعية على الاستثمارات العامة وتوزيع الثروة، فهم طمحوا لصياغة ليبرالية الطبقة الوسطى.
تبادلت الأحزاب الليبرالية اليمينية والليبرالية اليسارية السلطة، وبدأ أن لدى الطرفين تقريبًا نصف البلاد تمامًا إلى جانبه، لكن توقفت الأرجوحة عند حلول العام 2016، فيومها رفض الناس كلا الحزبين لصالح مرشح هاجم في الوقت ذاته «وول ستريت» ودولة الرفاهية، وأظهر بعض التقدير للحقوق الفردية وعدم تقدير لحرية الخطاب، وعارض العولمة والتجارة الحرة، ودعا إلى إنشاء جدار في وجه معظم العالم خارج أمريكا.
وينقلنا هذا الحديث إلى أن انتخاب دونالد ترامب أحدث أزمة هوية لدى حزب السوق وحزب الدولة. يحتاج المحافظون إلى إنقاذ حزبهم الذي يسير تحت راية ترامب الشعبوية، لقد أثار هذا الموضوع جدالاً مهمًا داخل يسار الوسط.
في كتابه «ليبرالي الماضي والمستقبل» يحاجج الكاتب «مارك ليلا» بأن الهوس النامي حيال سياسة الهوية قد جرّد الليبراليين من اللغة المدنية، التي لطالما استخدموها من أجل مخاطبة الشعب الأمريكي ككل.يلاحظ ليلا أن الأحاديث حول العرق أو الجنس أو الإثنية غالبًا ما تبدأ بالعبارة التي تدعي امتيازًا ما: «أتحدث بصفتي كذا».
لدى باتريك دينين المحافظ الكاثوليكي، مؤلف كتاب «لماذا ماتت الليبرالية»، كلمة يصف بها هذه الطبقة «الليبرالوقراطية». يقول دينين، ففي حين خلدت العائلة الأستقراطية نفسها عبر المُلكيات العقارية، فإن العائلة الليبرالوقراطية تؤسس نفسها على إرث الفردانية المتمثل بـ«العلاقات المفككة بين الأجيال وأوراق الاعتماد المحمولة ووراثة الثروات المتماثلة والوعد بسهولة التنقل».
في هذا الكتاب يرى دينين بأن كلاً من الليبرالية اليسارية واليمينية إنما هما ثمرة الشجرة السامة نفسها. إن ذلك الأصل المشترك هو الفردانية، التي ترى في الإنسان كائنًا مستقلاً يتميز عن أخيه الإنسان وعن ماضيه ومكانه. تعني الحرية في هذه الصيغة الحرية من الإكراه والحرية أن تفعل ما تشاء.
هل يفهم الليبراليون التضحية؟ برأي تروب، لقد تسببت الليبرالية بأضرار جسيمة لسمعتها في ستينيات القرن الماضي عبر مطالبة الناس العاديين بتقديم تضحيات حقيقية، ومطالبة النخبة، الذين لم يكن أولادهم يُنقلون بالحافلات إلى مدارس وسط المدينة الفقيرة والمزدحمة، ولم يجرِ تجنيدهم وإرسالهم للقتال في فيتنام، بتقديم القليل جدًا. هل تغير أي شيء اليوم؟
كثير من الأمور التي يفضلها الليبراليون، من عولمة وسياسة هجرة وزيادة الحدني للأجور، والعمل الإيجابي يعود عليهم بالخير ولا يؤثر سلبًا فيهم إلا قليلاً، فيما يمسّ، أو على الأقل يبدو وكأنه يمسّ بالأمريكيين القابعين على مستوى أدني ببضع درجات من السلم الاجتماعي. وكما يقول تروب، إذا ما أراد الليبراليون إيجاد طريقة التكلم مع الأمريكيين، فإن امتلاك السياسات الأفضل لن يكون كافيًا كما بينت هيلاري كلينتون. قد يكون قرع جرس موت الليبرالية مبكرًا، بالفعل، إذا ما استطاع الليبراليون إعادة اكتشاف المصادر العميقة لـ«نحن» الجمعيّة في مواجهة استراتيجية الـ«أنا» والـ«لنا» التدميرية التي يقودها دونالد ترامب.