فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي (الحلقة الأولى)


عبد الحسين شعبان
2024 / 8 / 8 - 18:16     



التسامح: حصاد الفصول

I
حين طلب مني القاضي د. زياد شبيب، مدير دار النهار ، كتابة مقدمة ثانية لإصدار طبعة جديدة من كتابي "فقه التسامح في الفكر العربي – الإسلامي"، لنفاذ الطبعة الأولى، سررت بذلك كثيرًا، ففي العام المقبل 2025، يصادف مرور ثلاثة عقود من الزمن على صدور قرار اليونيسكو (الدورة 28 للمؤتمر العام - 1995)، واعتبار 16 تشرين الثاني / نوفمبر "اليوم العالمي للتسامح". ولأن الفترة الزمنية التي تفصل بين الطبعتين تقارب عقدين من الزمن، فقد ازداد فيها الحديث عن التسامح ونقيضه اللّاتسامح، بفعل ظواهر عديدة سلبية وإيجابية.
فالأولى اتّسمت بنوع جديد من التعصّب ووليده التطرّف، وخصوصًا في مجتمعاتنا، وكان من نتاجهما استفحال العنف والإرهاب بكلّ صنوفهما وأشكالهما الفردي والجماعي، المجتمعي والحكومي، المحلي والدولي، وشمل الأمر المجتمعات المتقدمة في الغرب والبلدان النامية على حدّ سواء، ومنها بلادنا العربية، حيث شهد الغرب شعبوية وعنصرية وكراهية للأجانب لدرجة العداء، ولاسيّما ضدّ العرب والمسلمين، لم تكن معروفة في السابق، وبالنقيض من القيم الإنسانية التي يبشّر بها، كما شهدت مجتمعاتنا طائفية سياسية منفلتة من عقالها، إضافة إلى شحن وتمترس في الهويّات لدرجة الاحتراب، وبسبب عدم التسامح اندلعت نزاعات مسلحّة أدّت إلى تفتت مجتمعاتنا وتذرّر الوحدة الوطنية، التي قامت عليها الدولة المعاصرة في مجتمعاتنا.
أمّا الثانية، فقد أصبح صدور إعلان مبادئ التسامح والاحتفال العالمي به، مناسبة كونية لمراجعة وتدقيق العديد من الممارسات والسياسات الرسمية وغير الرسمية، في مدى تمسّكها بمبادئ التسامح واعتماده كجزء من منهجها العام المرتبط بشرعة حقوق الإنسان الدولية، والذي اتّخذ قنوات ومسارات قانونية واجتماعية وثقافية، وإن كان الأمر بدرجات متفاوتة، علمًا بأن ثمة عقبات وتحدّيات تواجهه، فما تزال العديد من المجتمعات النامية تعاني من ترسبات الماضي، وتتغذّى حروبها ونزاعاتها عليه بفعل عوامل مختلفة داخلية، منها التعصّب وغياب العقلانية ومحاولات التسيّد والإقصاء والتهميش، وخارجية، دولية وإقليمية، تسعى لفرض الاستتباع والهيمنة.
وعلى الرغم من تصاعد أعمال العنف والإرهاب على المستوى الدولي، والتي كانت إحدى محطّاتها الأساسية أحداث 11 أيلول / سبتمبر 2001 الإرهابية الإجرامية، إلّا أن رصيد فكرة التسامح أخذ بالارتفاع لدى أوساط واسعة، وأصبحت حساسيتها غالبة إزاء نهج اللّاتسامح، وشيئًا فشيئًا بدأت تتلمّس عمق الحاجة إلى التسامح كضرورة لا غنى عنها للتطوّر والتنمية وحماية الأفراد والمجتمع من غلواء التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب(1).
وتأخذ هذه الدعوة اليوم أشكالًا مختلفةً ومتنوعةً من التفاعل بين الحضارات والتواصل بين الثقافات، من خلال القيم الإنسانية المشتركة، حيث اكتسبت فكرة التسامح بُعدًا أمميًا، شمل العديد من المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، علمًا بأن ميثاق هذه الأخيرة الذي صدر في العام 1945 قد جاء على ذكر فكرة التسامح(2).


المصادر والهوامش:
1- أنظر: شعبان، عبد الحسين - في الحاجة إلى التسامح: ثقافة القطيعة وثقافة التواصل، مكتبة النهضة العربية، بغداد، 2020.

2- ورد في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة: نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب، التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف، وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، وأن نبيّن الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي، وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح. وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار، وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي، وأن نكفل بقبولنا مبادئ معيّنة ورسم الخطط اللازمة لها ألاّ تستخدم القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة ، وأن نستخدم الأداة الدولية في ترقية الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعها، قد قرّرنا أن نوحّد جهودنا لتحقيق هذه الأغراض، ولهذا فإن حكوماتنا المختلفة على يد مندوبيها المجتمعين في مدينة سان فرانسيسكو الذين قدّموا وثائق التفويض المستوفية للشرائط، قد ارتضت ميثاق الأمم المتحدة هذا، وأنشأت بمقتضاه هيئة دولية تُسمّى "الأمم المتحدة".
أنظر: ميثاق الأمم المتحدة، والنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، الأمم المتحدة، نيويورك، 1995.