المفكر الكبير لويس عوض
فهد المضحكي
2024 / 8 / 3 - 13:02
كتب د. لويس عوض الأشكال الأدبية المختلفة: الشعر، والقصة القصيرة، والرواية، والمسرحية، والمذكرات، إلى جانب المقالات والدراسات النقدية، وترجم العديد من النصوص الشعرية والنثرية عن لغاتها الأصلية من الأدب اليوناني، واللاتيني، والإنجليزية في عصوره المتتالية.
وننقل عن مجلة «الهلال» قراءة للناقد المصري نبيل فرج، يقول فيها: يمكن تقسيم حياة لويس عوض (1915-1990) إلى قسمين أساسيين: يبدأ القسم الأول في أواخر الثلاثينات،أو عقب عودته من بعثته في كامبردج سنة 1940.. وينتهي بفصلة من الجامعة سنة 1954.. ضمن 50 أستاذ! ومدرسًا جامعيًا، وكانت على الترجيح بسبب آرائه الجريئة في دستور الشعب التى عبر عنها في ثلاث مقالات نُشرت قبل ثلاثة شهور من الحملة، وطالب فيها بحقوق للشعب مستمدة من حقوق الإنسان. وهي بلغة القدماء، الحرية والمساواة والإخاء وبلغة العصر.. والحرية والمساواة والسلام.
في هذه المرحلة وضع لويس عوض في كتاباته أسس المنهج التاريخي في النقد الأدبي الذي يرى الإبداع محصلة للتيارات السائدة في زمنه، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، تنهض دراسته على التحليل والتفسير.
ويذكر الناقد فرج أننا نطالع هذا بجلاء في «فن الشعر» لهواري. «وبومثبوس طليقًا» لشيلي (1947) وفي الأدب الإنجليزي (1950).
فمن يقرأ هذه الكتب يضع يده على أركان هذه النظرية العلمية التي تتناول العمل الأدبي، كشكل ومضمون في ضوء المرحلة التاريخية التي ينتمي إليها، يسري عليه ما يسري عليها، ويعتبر الشاعر هو المجتمع أو بعضه. ولكن بما يؤكد في الجانب النقدي نزعة التجديد والتقدم النابع من الصراع القائم.
وتُعد الثوره والتجديد في معتقد لويس عوض، قيمة أساسية لا غنى عنها إن أراد الفكر والفن أن يكون تعبيرًا عن عصره.
بيد أن الثورة على المقاييس القديمة لا تتم في تصوره، إلا بعد استيعابها ونشرها بالكامل، وإلا غدت مجرد فوضى وركاكة.
التراث إذن، ضرورة.. وتجديده أيضًا ضرورة مماثلة والجهل بالقديم جهل بالحديث.
وكما يوضح، والأمثلة على ذلك، تعتبر رواية «العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح» من إنتاج (1946-1947).. تجسيدًا لإيمانه العميق بالجديد، الذي يخرج من شرنقة القديم.. كانت هذه المرحلة في الجامعة.. فترة التحصيل، واستكمال التكوين أو البناء الثقافي والروحي والتسلح بدروع الفكر والوعي.
أما المرحلة الثانية من حياته الفكرية، فقد أرتبطت بالصحافة، وبدعوة من الأدب للحياة (لا للمجتمع).. وتحول فيها لويس عوض من النقد الأدبي عبر دراسة الأدب العالمي، إلى النقد التطبيقي للأدب المصري المعاصر.
وكتب لويس عوض. مثل: «دراسات في أدبنا الحديث» (1961).. «الأشتراكية والأدب» (1962).. «دراسات عربية وغربية» (1964).. «الثورة والأدب» (1965).. «الحرية ونقد الحرية» (1971).. تقدم صورة عريضة للحركة الثقافية في مصر، التي فجرت ثورة 1952.. طاقاتها في الشعر، أو القصة والرواية أو المسرح.
وبرؤية نقدية، أوضح فرج، ومع أن أزدهار المسرح المصري، في هذه الفترة تحقق بالعروض المسرحية، التي يتضافر فيها التآليف والإخراج والتمثيل والموسيقى في جدلية واحدة، إلا أن نقده المسرحي يقتصر على النص الأدبي فقط، ولا يتناول فنون العرض الذي كتب النقد في غضونه.
وداخل هذا النطاق سقط من حساب لويس عوض مجموعة من أسماء كتّاب المسرح، كان ينبغي الأهتمام بها لدفع الحركة المسرحية وغرس تجاربها الأصيلة في التربة.
و في مقال آخر نُشر بجريدة الأهرام سبتمبر 2018، يرى فرج أن كتابات عوض عن هوميروس وشكسبير ودانتي وميلتون، والحقب التي عاشوا فيها، تُعد من أنضج هذه الكتابات.
وتتضمن الأعداد الأولى من جريدة التي صدرت في ديسمبر 1953 حوارًا عقده لويس عوض مع طة حسين عن محنة الأدب، أكد فيه عميد الأدب العربي أن هذه المحنة تتمثل في توقف المجلات الثقافية، وضعف ما يصدر من انتاج لا يعني بالجانب الفني أو الموضوعات، وإنما يهبط بالأسلوب إلى مستوى عامةً القراء، بدلًا من أن يرتفع بهم، بينما يرى لويس عوض إن هذه المحنة ترجع إلى التحولات الجذرية التي تجرى على المجتمع بثورة يوليو 1952، ويقصد بهذا تصدع التقاليد المتوارثة، والظمأ إلى المعرفة، وبزوغ الجديد الذي تنهض عليه الدولة العصرية المتحررة من قيود الماضي.
ومن الواضح أن رؤية لويس عوض كانت أكثر صوابًا لأن،كما يقول، التقاليد التي تصدعت بفعل الثورة صحبها تسلط النظام لتأمين نفسه، وإن لم يمنع هذا التسلط طاقات الإبداع من الظهور في الخمسينيات والستينيات، واستفادة الثورة منها في تدعيم أركانها، ونشر أولويتها، وفق توجهاتها السياسية.
ويرى أن نقد لويس عوض يتغلغل في أعماق النص لكي يستخلص منه ومن روحه وجوهره ما يصعب استخلاصه، بفضل ثقافته العريضة المتفتحة التي تضرب بقوة في الآداب والثقافات المختلفة، وتقوم على عقد المقارنات بين الأعمال الفنية، وبين الظواهر الكلية، وبيان موطن الأخذ والعطاء والترابط والتطور بينها. ولاشك أن دراساته العليا في إنجلترا وأمريكا، ورحلاته الصحفية إلى الشرق والغرب للكتابة عن حركاتها الأدبية والفنية، قد مكنتاه من إعداد هذه الدراسات المقارنة العديدة، التي تتميز بالعمق، سواء دراساته النظرية في الجامعة، قبل فصله منها في 1954، أو في مقالاته التطبيقية خارجها، التي لم تقل في تأثيرها العام عن دراساته للطلاب.
ويتضح للقراء من هذه الرحلات أن مصر لم تكون تجهل فقط ما يدور في أوروبا من أحداث ثقافية في مراكزها العاليه، بل كانت تجهل أيضًا الأحداث الثقافية في الأقطار العربية كبيروت وغيرها، التي كان لويس عوض يزورها في أسفاره، ويقضي فيها أيامًا مع أدبائها وأصدقائه من أساتذة الجامعة.
في إحدى الأمسيات التي نظمها اتحاد كتاب وأدباء الإمارات قال الناقد الأدبي والأكاديمي الراحل صلاح فضل، إن لويس عوض يمثل ظاهرة حقيقية في الثقافة العربية، معتبرًا فكر عوض الذي بدأ به منذ أربعينات القرن الماضى هو الذي نحتاجه، «لأنه يجذبنا إلى قلب الواقع الراهن في الفكر العالمي، ويطرد عنا كل الأرواح الشريره التي غزتنا في العقود الأخيرة».
وتوقف د. صلاح فضل أمام الخواص الجوهرية والأسس الحقيقية في فكر لويس عوض، التي استشفها من خلال حواراته معه، ومن أبرز هذه الخواص أنه كان مثقفًا ليبراليًا من الطراز الأول، خصوصًا أنه تتلمذ على يد الدكتور طه حسين، وسلامة موسى، وتأثر بفكرهما، كما كان لديه شغف شديد بالثقافة الأوروبية، مشيرًا إلى أن عوض بدأ مبدعًا متمردًا، وكتب ثلاثة كتب قبل أن يكمل عامه الـ30، كل منهما يعتبر ثورة، هي: ديوان «بلوتو لاند وقصائد أخرى» الذي قال في مقدمته إنه سيكسر رقبة البلاغة العربية، ليخرج عن كل الأعمدة الشعرية سابقًا الشعر الحر بسنوات، والكتاب الثاني هو «مذكرات طالب بعثة» الذي كتبه بالعامية المصرية، ودوّن فيه تجربته عندما أوفد في بعثته دراسية، ولم يستطيع نشره إلا بعد 20 عامًا، لأنه لم يجد ناشرًا يقامر بسمعته ويطبع كتاب بالعامية. أما الكتاب الثالث فهو رواية «العنقاء» التي تعتبر الأهم لديه، وهي ذات قيمة توثيقية، لكنها لا تضارع أعمال كتاب من جيل عوض، مثل نجيب محفوظ وغيره. وأوضح فضل أن تجربة لويس عوض في السجن خلال حكم الرئيس جمال عبدالناصر كان لها أثر كبير على شخصيته، فقد كسرت روحه، وبعد خروجه اتخذ سياسة جديدة بعيدة عن التمرد.
وبحسب د. صلاح فضل، فإن السمات الأساسية في فكر لويس عوض أنه كان علمانيًا بالفطرة، وهو ما كلفه الكثير لأنه اصطدم بالأصولية الدينية، كما في معركته الشهيرة مع الشيخ محمود شاكر، أكبر محققي التراث في مصر، الذي شن هجومًا شديدًا عليه بسبب فكره، واضطر عوض إلى الدفاع عن نفسه باستماته من خلال مجموعة كبيرة من المقالات، لافتًا إلى أن المفكر الراحل قاوم التيارات الرجعية والأصولية، واتجهت كتاباته إلى تسفيه دور الآباء الدينيين للنهضة المصرية، مثل جمال الدين الأفغاني الذي كان يراه شخصية مبهمة، بينما احترام تجربة الإمام محمد عبده. وعن علاقة مصر بالعالم العربي، كان لويس عوض من دعاة الثقافة المصرية، مع إيمانه بأن الحرف العربي هو الجامع للثقافة، وأن علاقة مصر بالعروبة تقوم على فكر ولغة وليست على عرق ونسب.