من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى للقايدية 4


عبدالرحيم قروي
2024 / 7 / 31 - 16:49     

تسلم المدني السلطة في الأسرة بعد وفاة أبيه وكان حينئذ هو اكبر أبناء ايبطاط ذلك أن أخاه البكر امحمد قتلته في ظروف غامضة سنة 1876 إحدى إماء أبيه. والمدني هو الذي قاد المعارك الفاشلة ضد جيرانهم وتحت إمرة أبيه. وقد فضل في بداية توليه السلطة أن يلجأ إلى الديبلوماسية والدسائس بدلا من الالتجاء إلى القوة. ثم أنهى بناء حصن تلوات، وورزازات وتازرت في مشارف مقاطعته. وأخذ ينتظر ساعته ويدعم سيطرته التجارية على المبادلات بين درعة والحوز.
ولا يوجد في البادية محتسب فالقياد هم المكلفون بجباية الضرائب لحساب المخزن ونظرا للصعوبة المتناهية في التحقق من الحسابات واستلام مجموع المبالغ المؤداة وجدت الدولة من الأفضل تأجير الأسواق مقابل أداء سابق لمبلغ تقدري، أو تأجيرها في مزايدة وتمنح لمن دفع أكثر. وكانت النتيجة هي سحق التجار والمراقبة المباشرة على تنقل البضائع من طرف القايد. فكان التجار يهربون من الأسواق التي يراقبها القياد ويحاولون إقامة أسواق أخرى غير رسمية بل بطريقة خفية تحت حماية إحدى الزوايا. وفي سنة 1888 علم المدني أن القوافل التي كانت تخترق الأطلس ليبيع تمور وادي درعة بعد أن تؤدي الضريبة للكلاوي في تلوات وزركتن قد نظمت سوقا أخرى بين سوق إنزل (بقرب سيدي رحال) وسوق آيت ورير، الأول يراقبه الكلاوي والثاني المسفيوي. فقامت كتيبة من الفرسان ونزلت فجأة على ذلك السوق وقتلت البائعين ونهبت البضائع. ولم يتحمل أحد مسؤولية العملية. لكن محتسب مدينة مراكش الذي كان يراقب سرا القوافل الذاهبة من مراكش على السوق قدم رسالة احتجاج إلى السلطان مولاي الحسن. وقد رد عليه هذا بالعبارات التالية: «لقد توصلنا برسالتك المتعلقة بأحداث سوق الخميس توكانة والأعمال التي قام بها كلاويو الخليفة الكلاوي. تقول أنه يوجد في السوق كل أنواع المنتجات والفواكه القادمة من وادي درعة وأن ذلك السوق يتوجه إليه أناس كثيرون حتى يتفادوا دفع الضرائب المفروضة على الأسواق الأخرى، وتقترح فيها أن لا يقوم المخزن باقتطاع ضرائب من هذا السوق لأن السلع التي تباع فيه تتجه في النهاية إلى مراكش لصالح العامة، وقد بحثنا اقتراحك وقبلناه. وقد كتبنا إلى الكلاوي طالبين منه أن لا يتدخل في السوق وأن يتركه .
غير أن المدني لم يمتثل للرسالة الملكية فلم يقبل أن تفلت من قبضته الضرائب، وقام بمحاولات عديدة ضد سوق توكاني. وقد رد عليه السلطان بظهير:
«لقد طلبت إلينا توكانة بواسطة قايدهم الإذن بإقامة سوق على أرضهم كما كان الأمر سابقا. وقد أبدوا استعدادهم لدفع الضرائب الواجبة عليهم للمخزن كما هو الأمر بالنسبة لمسفيوة وكلاوة جيرانهم. غير أن السوق الكلاوي (أنزل) الذي يقع بين مسفيوة وزمران وتوكانة لا يدفع ضرائب للمخزن مع أن تجار وادي درعة والحوز يذهبون إليه وقد طلبت إلينا (أي المحتسب) أن لا نفرض ضريبة على السوق (توكانة، انظر أعلاه) وذلك حتى يظل تموين مراكش بالفواكه الجافة عاديا ومستمرا، وقد امتثلتم للأوامر المعطاة في رسالتنا الموجهة إلى القائد (مدني الكلاوي) حتى لا يقبض أي واحد منكما أية ضريبة. لكن الكلاوي لم يطع أمرنا، إذ يقال أنه يقبض سرا واجبات السوق لحسابه الخاص، وقد ذكرتم أن أحدهم عرض عليك استئجار هذا السوق (أنزل) مقابل 25 ألف مثقال في السنة. وقد أعطيته له في النهاية مقابل مساندته ومساعدته» . ولم يتوان الكلاوي عن تعلية المزاد فطالب المخزن حينئذ بـ 32500 مثقال حتى يعجز المدني الذي انسحب:
«لقد قررنا أن نرفع قيمة إيجاز السوق أنزل كلاوة إلى 32500 وقد أخبرنا خديمنا القايد الكلاوي أنه يستطيع أن يستأجره بهذا السعر إذا رغب في ذلك أو أن يتركه للمزايدين. وقد كتب إلينا يخبرنا بتخليه عن شراء السوق بهذا الثمن» .
ويتفق كل المؤلفين المغاربة والأجانب الذين درسوا هذه الحقبة على أن الصعود الحقيقي لكلاوة كان إثر مرور مولاي الحسن في الأطلس. ونعلم أنه بعد القيام بحملة على تافلالت أراد أن يعود إلى مراكش عن طريق مضيق تلوات وقد استقبله المدني استقبالا حافلا فخما بحيث جعل تحت تصرفه الخيول المسرجة من فركلة إلى سيدي رحال ومد كل حاشية السلطان بالمواد الغذائية لمدة 25 يوما. وقد أكد كل المعاصرين لذلك الحدث على فخامة وأبهة الاستقبال وعلى الفضل الكبير الذي أولاه السلطان للمدني بتعيينه خليفة على كل الجنوب (تودرهة وتافيلالت وفيجة) وأهداه مدفعا نوع كروب Krupp وأسلحة حديثة .
وقد كان مولاي الحسن أكثر مهارة سياسيا ويقظة. فعلى ما يبدو ترك ذلك السلاح لأنه لم يستطع اجتياز الأطلس به، ولأن بعض الصناديق اختفت عند وصوله إلى هناك فلم يكن ليتهم بها شخصا مثل المدني الذي استقبله استقبالا رائعا. وقد سجل أحد المسؤولين عن البعثة العسكرية الفرنسية الذي كان موجودا بسيدي رحال ساعة وصول مولاي الحسن وجيشه: «إن أقسى محنة مرت بها فرقة تافلالت كانت بسبب المنطقة الجبلية الوعرة في الأطلس. إذ توفي العديد من الرجال جراء البرد القارس، كما أن الخسائر في البغال والخيول كانت فادحة. أما المدفعية التي كانت تشتمل على مدفع ميدان كروب من عيار 9 بوصات ومدفع كووي Couet من عيار 75 مم ومدفع الهاون من عيار 15 مم وذخيرتها فلم يستطيع السلطان العودة بها فتركت القطع كوديعة لدى قايد دمنات والكلاوي اللذين سيعيدانها حين تصبح الطريق سالكة .
والذي حدث هو أن المدفعية لم تعد أبدا فبعد ستة أشهر توفي مولاي الحسن واستولى بامحمد على السلطة الفعلية وقد كان هذا يسيطر على مخزن مولاي عبد لعزيز بفضل شخصيته القوية. والغريب أن الكلاويين لم يهتموا بمنطقة الحوز طيلة فترة حكم فترة حكم بامحمد. ولم يشاركوا في تنافس محمد وحسين وعبد العزيز على العرش: كما أنهم لم يتدخلوا في تمرد الرحامنة سنة 1894. لقد كان المدني يرغب في أن يتأكد أولا من سيادته التامة على قاعدته الجبلية في حين أن السهل كان منشقا ولم يقم سوى ببعض الغرات لنهب وسلب مسفيوة وزمران حين هوجمتا من طرف جيش المخزن. كان أمامه إذ ذاك مهام عديدة في الجبل وفي اتجاه الجنوب، أي في المجال الذي عيد فيه بظهائر السلطان المتوفى. وجدد ذلك التعيين مخزن بامحمد. وقد قام تنافس قوي بينه وبين أمغار آيت زينب وعلى نـ آيت بن حدو بن محمد الذي هزم ايبطاط. وقد اختبأ في حصن تامدخت التي لم تستطع المدافع أن تنال منه شيئا نظرا لتحصنه الطبيعي. وقد انتصرت الدسائس والمنكر والاغتيالات على آيت حدو. وبذلك أصبحت آيت زينب والجنوب مفتوحا أمام الكلاويين.
لن نتابع هنا تحركات المدني مع كل صغار الأمغاريين في الجبال الذين كان يهزمهم إثر قصف حصونهم بالمدافع أو إزاحتهم بعقد الزيجات مع بناتهم لعدم توفرهم على أسلحة . وحين كان القياد الكبار المنافسين له ينهكون أنفسهم في مشاكل المخزن المعقدة وفي صراع الأطراف حول القصر، وفي الحوز، وفي حملات بعيدة كان الكلاويون يقوون مركزهم في الجبل ويمدون سلطتهم على الجنوب. وليس من الممكن معرفة نصيب السلوك المتبصر والإرادي من نصيب السلوك اللاشعوري في تسلسل الأحداث. وفي هذا الاختيار سنلاحظ فحسب أن نتيجته ستجعل الكلاويين فيما بعد أكثر قدرة على تحمل تقلبات ثروتهم السياسية وعلى البقاء فترة أطول من المتوكيين والكوندافيين .
يتبع