من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - بول باسكون - الفترات الكبرى للقايدية 3


عبدالرحيم قروي
2024 / 7 / 30 - 13:57     

أسياد الحرب

لقد كان أول هم ايبطاط بعد أن أصبح قائدا هو أن يستقر في تلوات أي في الحوض الأول الصغير الذي تضطر كل قافلة أن تعبر منه قبل اجتياز مضيق قبل اجتياز مضيق تيزي نـ -كلاوة، نحو الشمال وقد شيد قصره في ذلك المكان، وأصبح قاعدة حربية له تولي وجهها نحو الجنوب بشكل أكبر. كما أقام في تلوات بطلب من تاقبيلت التي كان يحكمها، سوقا أسبوعيا (سوق الخميس) ومأوى للقوافل حيث يتوقف حتما التجار المارون والمتجهون إلى الاتجاهين الاثنين عبر الأطلس. واعتراف السلطة المركزية به وتشييده للحصن العالي قد أعاد للزاوية حمايتها التي كانت قد اندثرت. وكان يتلقى، باسم السلطان، الضرائب على السوق وعلى اجتياز المضيق. وستبدو تلك الاداءات ضرورية أو جديدة مما سيدفع المخزن سنة 1856 إلى توسيع سلطة ايبطاط لتشمل آيت أوزارهار ، أي من الحوض الصغير لاسيف ايفرادن، ينحدر إلى شمال المضيق إلى حوض تلوات. وهنا أقام سوقا ثانية ومأوى آخر للقوافل بالقرب من زرقطن ومن المعبد اليهودي الإسلامي لمولاي اغي. ومنذ ذلك الحين وهو يستولي على المضيق في الاتجاهين الاثنين ويفتح آفاقا سواء على شعبة ردات التي توصل إلى الحوز أو على تيميدرت التي توصل إلى ورزازات ودرعة.
وفي سنة 1680-1870 انفجر النظام القديم للحكم المخزني الذي كان يحافظ على توازنه بالاقتطاع الضريبي المقنن أي أنه كان شرعيا ولم يكن ذلك الاقتطاع مرتفعا فكان محتملا، أقول أنه انهار في كل مكان ذلك أنه وجد نفسه عاجزا عن فرض الاقتطاع اللازم للحرب الناتجة عن التسلل والتسلط الاستعماريين هذا وقد كان القياد المكلفون بتصريف غالبية فائض الإنتاج، هم قياد النظام الشرعي القديم ورثة مولاي إسماعيل. فهم ليسوا موظفين بالمعنى الدقيق، ولكنهم أبناء أسر مخزنية كان لها جاهها ونفوذها من قبل ولكن اندثر كل ذلك. بحيث تصدق عليهم نظرية ابن خلدون. أما هذه الأزمنة التي تحتاج على دكتاتورية ضريبية غير شرعية فيلزمها رجال جدد، رؤساء حربيون بكل معنى الكلمة.
ولم يلح سوسيولوجيو ومؤرخو القرن التاسع عشر بشكل كاف على الآثار السياسية والاجتماعية لظهور الضرائب القايدية لتفسير الموقف الغامض والغريب للقبائل. فرغم اعترافها بالسلطة الروحية للسلطة المركزية، فهي ترفض أو تحاول رفض السلطة الزمنية للقياد مع أن تلك السلطة تصدر عن السلطة المركزية ذاتها. ليس لأن القبائل تجهل أن الضرائب الجديدة يطالب بها المخزن ذاته ولكن لأن الاستيلاء على الفائض الذي أدت إليه تلك الالزامات الجديدة كان يقضي على سلطة الاوليغارشيات القبلية نفسها. وقد كانت مجالس الشيوخ المسنين تدعم سلطاتهم في تاقبيلت انطلاقا من الضرائب القبلية التي يقتطعونها باسم الدفاع (شراء الأسلحة تحصين مخازن الحبوب، غرامات، ثمن التحكيم) وبفضل عمليات النهب والتسلط على الجماعات المجاورة.
وخدمة الضريبة لصالح المخزن معناه إما نهاية استقلال شيوخ القبيلة (الممثلين لها) وإما زيادة محسوسة وسريعة في الإنتاج، أي حدوث تغير تقني يصعب تصوره غالبا خارج إطار الجو العام المحيط بالمتنازعين. وبديهي أن الاحتمال الأول هو الغالب عن طريق الخضوع التركزي لتاقبيلت لجماعات أصبحت قوية نتيجة لوضعيتها الجيوسياسية، ونتيجة لمساندة المخزن لها. إن خط تسلسل العوامل بدءا من الاستيلاء على المضايق إلى قيادة قبيلة كبرى ومحاربة نتيجة للاغتناء بفضل مدخول الضرائب المفروضة على البضائع الواردة: «الصنك»، والتسلح بأسلحة حديثة، إنما هو خط تبسيطي لا فائدة منه. ولكنه يفسر بشكل إجمالي التطور الذي عرفه القياد الكبار في الأطلس مع ما في هذا التطور من صعود ونزول.
وعلى أية حال فإن الشيء الأكيد هو أن أية جماعة قوية، أي تاقبيلت عليها أن تؤدي في النهاية نصيبا إلى المخزن وهذا لا يفتح أمامها سوى بابين: إما الخضوع وإما أن تسيطر على جيرانها وتجعلهم يدفعون ذلك النصيب عوضا عنها.
وقد قام قياد الحرب بتوحيد القبائل انطلاقا من السيطرة على «تاقبيلت»، ولكن كانوا يلجأون في كل مرة إلى الحصول على تصريح بالتقليل من الانشقاقات بواسطة ظهائر التسميات على رأس تاقبيلت، والقبائل. ويظهر أنه على الأقل في بداية هذه المرحلة، كان القياد يتلقون ظهير تسمية يمنحهم مشروعية التصرف وإعانة مادية (تسليح) مقابل الالتزام بتحصيل الضريبة، وتحدد هذه الضريبة قبل تسميتهم على حسابهم. وسنرى أنه في مرحلة تالية كان المقدم يدفع مسبقا الضريبة عن القبيلة التي يحصل على ظهير تسميته عليها، ويتحمل هو استرجاع المبلغ المدفوع من القبيلة بعد أن يتولى حكمها. كما أن ظهائر التسمية لم تكن تمنح سوى سلطة اسمية، تضمن للمخزن أن هذا القائد معترف به كمسؤول عن مراقبة هذه القبيلة . ويبقى على القائد بعد ذلك أن يظهر مهارته وقدرته على تحويل تلك السلطة الشكلية إلى سلطة فعلية.
وفي مرحلة القايد سيد الحرب لا يهتم هذا لا بالملكية العقارية ولا بالحق في المياه ولا بأية مصادر إنتاجية أخرى. ومداخيله تأتي كلها من الاغتصاب والأداء المباشر. والاقتطاعات بواسطة تقسيم الغنائم بين رجال العصابة عند نهب جماعة معادية تؤدي إلى زيادة المصادر المنتظمة للإمدادات الغذائية (مونة) ، واقتطاعات استثنائية للضرائب (فريضة) . وهدايا الولاء (هدية) وأشغال شاقة في خدمة القائد (كلفة) : بناء الحصون، قطع الأخشاب، النقل، ثم من فترة لاحقة، فلاحة (العزيب) (الضيعة).
وهاته الاقتطاعات لها أصولها العريقة في التقاليد ذاتها بما أنها كانت غالبا مقننة لصالح مجالس القبيلة أي شيوخها أو لصالح أمغار الحرب، وذلك حتى يكفل لمؤسسات تاقبيلت وسائل العمل. لا يعود الأمر إذن أن يكون تطورا بسيطا وذلك بتغير القابض والمؤسسة، ويتم ذلك أحيانا مع الحفاظ حتى على المصطلحات المستعملة في ظل النظام القبلى (تويزة = كلفة).
وإن معالجة دقيقة لهذه الفترة لتجعلنا نعتقد أن المداخيل الأولى المهمة كانت هي الناتجة عن نهب (أكادير) أي مخازن الحبوب، والحصون، والبيوت أكثر مما كانت ناتجة عن الزيادة في الضرائب. ذلك أن الجماعة لا تقبل دفع الضريبة إلا حين تفقد احتياطها من الحبوب والخيول وحين تسقط حصونها بحيث لا يبقى لديها الثروة اللازمة لمواصلة الصراع.
وهكذا نجد محمد ايبطاط انطلاقا من قاعدته بتلوات، يساعده فرسان «تاقبيلت» الذين يترأسون القبائل، يقوم بحملات عسكرية ضد آيت واوزكيت. ويفرض على القبيلة التي أصبحت تحت رحمته ريالا حسنيا عن كل بيت بعد أن يكون قد نهب كل احتياطها، وتحالف مع أعيان ورزازات الذين فضلوا التفاوض مع حارس المضيق الذي تمر منه بضائعهم، على التنازع معه. كما تحالف أيضا مع أوريكة حتى يطبق فكيه على مسفيوة، الجار القوي الذي يشد على زمام الطريق في السهل وفي الحوز بين مراكش وتلوات. وشارك أيضا في حملة بقيادة المخزن ضد الكوندافي ولكن بطريقة غير حازمة وفي ظروف غامضة، ولا ندري إذا ما كان الكوندافي قد حصل سرا على قبول انسحابه من الحملة مقابل تحالف معه أو مقابله مبلغ مالي .
وحينئذ عاقت سلسلة من الفشل المتوالي تطور صعود الكلاويين: ففي الشرق قايد دمنات جد قوي، وفي الغرب سلطة الكوندافي لها شوكة، وفي الشمال مسفيوة الكثيرة العدد، بالإضافة إلى هزيمتين أمام الأمغار محمد آيت زينب وأواركيت في الجنوب، كل ذلك أضعف ادعاءات الكلاويين. وتوفي محمد ايبطاط بعد أن قوى قاعدته ولكن دون أن يتجاوز المناطق الجبلية المحيطة بها. وقد كان له ستة أولاد ذكور من زوجاته الأربع (أول حادثة تعدد الزوجات في القبيلة)، وسيكون مدني ثاني أبنائه هو مؤسس قوة الكلاويين.
يتبع