الكريبكائية المكية والبعث والنشور الأخروي


طلعت خيري
2024 / 7 / 28 - 09:46     

لطالما استوعب المجتمع المكي، مثل أصحاب القرية بكل مفاهيمه العقائدية والتاريخية ، إذن التهديد بالعذاب الدنيوي لازال مطروحا،وقد لا يقع فعليا،لكنه فاعلا بالنسبة للذين بدأت عقولهم تدرك جدية التحذير الدنيوي والأخروي، وقد يقع فعليا ، ولكن ليس بآلية التدمير الشامل كالأمم السابقة ، إنما بآلية الانهيار السياسي والاقتصادي والسلطوي والعسكري ، وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم ، اتقوا بعدوا أنفسكم عن العذاب الذي سيحل بكم بسبب ما قدمته أيديكم ، لعلكم ترحمون ، ترحمون نؤخر عذابكم ، أو إزالته كليا

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ{45}

معظم المعارضين للدعوة القرآنية من أهل مكة ، هم من الرأسماليين والزعماء والكهنة ، وأحبار ورهبان الدين السياسي لأهل الكتاب ، وأصحاب المصالح المرتبطة بتجارة الملائكة بنات الله ، فالجهات المتنفذة اقتصاديا وسياسيا ، لها نفوذ سلطوي يدعمه المنافقون من كافة الطبقات الاجتماعية ، ذلك مما عزز من إصرارهم على التصدي لدعوة الحق ، وما تأتيهم ، أي تأتي المتنفذين سياسيا واقتصاديا وسلطويا والمنافقين ، من آية من آيات ربهم ، إلا كانوا عنها معرضين

وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ{46}

اسم الله مصدر ريعي للرأسمالية الدينية كالوثنية والدين السياسي ، وكذلك للمنتفعين من الشرائح والطبقات الأخرى، التي ارتبطت مصالحهم بالدين ، فجميع الأنشطة الاقتصادية والمهنية والحرفية والتجارية التي يزاولها الإفراد أخضعت لاسم الله ، فبات المجتمع بأسره يستنزف دخله على النذور والقرابين والهدايا وتكفير الخطيئة ، فالرأسمالية بكل أشكالها تستغل الطبقة الفقيرة والكادحة والشرائح الأخرى بما تقدمه لهم من قروض مالية وعقارية وربا وبيوع آجلة ، وهذا إجراء أخر ساهم في استنزاف دخل الفرد ، ادعت الطبقة الرأسمالية الدينية على ان ما تحصل عليه من أموال سواء كان من الأنشطة الاقتصادية ، أو من الشعائر والطقوس والمناسبات والمواكب ، تنفقه في سبيل الله على الفقراء والمعدومين ، كشف الله زيف ادعائها ، أمام الطبقة الفقيرة والمعدومة ، داعيا إياها الى الإنفاق العلني الفعلي الميداني قائلا ، وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله ، قال الذين كفروا للذين امنوا ، أنطعم من لو شاء الله أطعمه ، ان انتم إلا في ضلال مبين ، ما معناه أيها الفقراء ان الرأسمالية لا تنفق عليكم لأنها تؤمنون بان الفقر انتقام من الله ، فالرأسمالية الدينية صنفت نفسها على أنها طبقة مفضلة عند الله ، معيار التمايز الطبقي لديها ، هو ان الله فضلهم بالمال لينتقم من الفقراء

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ{47}

ما لا يقبل الشك ان التهديد بالعذاب الدنيوي ، سيكون له رد فعل على الذين أيقنوا جدية التحذير، بينما للمنكرين هو تحدي للرسل بإنزاله ، ان تحدي المعارضين للعذاب الدنيوي ، هو طرح سياسي لتكذيب وقوعه ، ويقولون متى هذا الوعد ان كنتم صادقين ، رد التنزيل على المنكرين للعذاب ، بآلية التدمير الشامل كأصحاب القرية ، ما ينظرون إلا صحية واحدة ، عذاب مباغت يأخذهم وهم يخصمون ، يخصمون الشؤون اليومية للناس كالعمل والبيع والشراء والسفر وغيرها من الأنشطة ، فالعذاب المباغت سيشل الشؤون اليومية بشكل كامل ، فلا يستطيعون توصية ، ولا الى أهلهم يرجعون

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{48} مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ{49} فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ{50}

الحياة الدنيا مرحلة عابرة يمر بها كل من قدر الله له العيش فيها ، فليس كل من كتبت له الحياة يبعث يوم القيامة ، فالفئات العمرية الصغيرة لن تبعث ، لان آلية الحساب الأخروي قائمة على الأعمال ، بما ان أعمارهم غير مؤهلة للعمل الأخروي ، فما الفائدة من بعثهم ، فما نقله التراث الإسلامي على ان الأطفال طيور الجنة لا صحة له ، أما الفئات العمرية التي وعيها وإدراكها محدود، سيكون حسابها حسب درجة الوعي ليعفوا الله عن كثير من الأمور، أما الفئات العمرية الواعية سوف تخضع للحساب الكلي، ان ديناميكية الخلق البشري منذ بداية الخلقية فأئمة على الآخرة ، فلن يصل الفرد إليها ، دون المرور بالحياة الدنيا ، طرح التنزيل على الكريبكائية المكية والدين السياسي لأهل الكتاب آلية البعث والنشور الأخروي قائلا ، ونفخ في الصور، الصور آلة موسيقية نحاسية تصدر صوتا عاليا ، ذكره التنزيل كمرحلة أولى للبعث ، أما الصوت يشير الى نسق وانتظام الحشر الأخروي ، فإذا هم من الأجداث ، الأجداث لا تعني القبور، إنما ركام الأرض المتبعثر، الى ربهم ينسلون ، ينسلون لا تعني النسل البيولوجي ، إنما الى ربهم الذي كثرهم بالنسل

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ{51}

يحشر الأفراد البالغين المنكرين للبعث والنشور الأخروي ، بكل قواهم العقلية والفكرية ، ويبدو ذلك واضحا من خلال تعليقهم على الواقع الأخروي ، نستدل من هذا على ان الكتب المنزلة ، ودعوات الرسل أوصلت مفاهيم البعث والنشور الى المعارضين بكل وضوح ، حتى رسخت في أفكارهم وعقولهم ، لذا جاء قولهم مطابق للتصورات الغيبية الاخروية التي وضحها الرسل في الدنيا ، قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ، المرقد ليس القبر ، إنما الاختلاف المكاني ما بين الرقود الدنيوي والحضور والأخروي ، هذا ما وعد الرحمن في الكتب المنزلة ، وصدق المرسلون في دعواتهم

قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ{52}

الم يروا، يروا رؤية تصورية تاريخية ، وليس جغرافية كاشفة لآثار التدمير، كم أهلكنا قبلهم من القرون ، القرون الشعوب السابقة ، أنهم أي الشعوب التي سبقت ، إليهم ، الى أهل مكة لا يرجعون ، لا يرجعون حالة من الفصل الدنيوي تشير الى ان الأمة التي هلكت لن تعود الى الدنيا مرة أخرى ، أبعاد هذا الطرح لقطع الحاضر المكي عن الانتمائية التاريخية للماضي التراثي ، أما أخرويا فلا تعترف امة ، بأمة أخرى ، متى هذا ، وان كل لما جميع لدينا محضرون ، نأتي الى الآلية الثانية ، آلة الحضور الطوعي للمصير الأخروي ، انه موقف صعب جدا على الذين لا يؤمنون بالآخرة ، ونظرا لما يعتلي الفرد من خوف ورعب ، بسبب غياب المشهد الدنيوي، ذلك مما سيجعله شديد الانصياع لأي صوت يسمعه ، ان كانت إلا صيحة واحدة ، فادا هم جميع لدينا محضرون

إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ{53}

للإيمان بالله واليوم الأخر عمل دنيوي مؤهل للآخرة ، والمنكر لهما ، أيضا عمل دنيوي لكنه لا يؤهل للآخرة ، بما ان آلية الحساب الأخروي قائمة على ما يقدمه الفرد من عمل ، فالجزء سيكون من جنس العمل ، فاليوم لا تظلم نفس شيئا ، ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون

فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ{54}

بعد الحضور الطوعي للمؤمنين والمنكرين للبعث والنشور الأخروي ، تبدأ عملية الفصل المصيري بينهم ، لاطلاع المجتمع المكي على واقع حال تجمع أهل الجنة ، قائلا ان أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون، شغل تعني انشغال بفكاهة الحديث معبرين فيما بينهم ، عما في داخلهم من فرح وسرور واطمئنان ، هم وأزواجهم ، أزواجهم لا تعني زوجاتهم ، إنما أمثالهم من نفس الصنف من الذكور والإناث ، في ظلال على الأرائك متكؤون ، لهم فيها فاكهة ، ولهم فيها ما يدعون ، يدعون، يطلبون ، سلاما قولا من رب رحيم

إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ{55} هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ{56} لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ{57} سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ{58}