من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - حول الطبقة العاملة - عبدالسلام المدن منظمة 23مارس. المغرب 6
عبدالرحيم قروي
2024 / 7 / 26 - 15:49
. مفهوم الفائض البروليتاري
يقسم ماركس الفائض البروليتاري إلى ثلاثة أنوع:
1- الفائض الكامن: ويعني جماهير الفلاحين الذين مازالوا مرتبطين بالأرض، ولم يندمجوا بعد في صميم العلاقات الرأسمالية. لكنهم يشكلون بالضرورة احتياطا لتلك العلاقات، بحكم منطق التراكم الرأسمالي الذي يقود حتما إلى بلترتهم.
إن هذا الفائض كان يمثل أغلبية السكان العاملين في معظم البلدان الأوربية في ذلك الوقت. والنقاشات النظرية الساخنة التي كانت في تلك المرحلة، تدور بين الاقتصاديين البورجوازيين الكلاسيكيين، كان أحد محاورها الأساسية، هو بالضبط الموقف من جماهير الفلاحين المستقلين. إذ كان الاقتصاد السياسي الكلاسيكي البورجوازي، يعتبرهم جماهير غير منتجة، لأنهم خارج إطار علاقات الانتاج الرأسمالية وبالتالي فهم لا ينتجون فائض القيمة، الذي هو أساس ""ثروة الأمم" حسب التعبير الشهير لآدام سميث. إن المنتج الحقيقي، من وجهة النظر تلك، هو الذي ينتج الربح للرأسمال. ولذلك كان نضال أولئك الاقتصاديين، يستهدف تقليص عدد الفلاحين الخارجين عن مراقبة الرأسمال إلى أقصى حد (لنلاحظ مثلا أن عمال التجارة والمال، الذين هم حقا غير منتجين، فإن الرأسمال يعتبرهم منتجين لأن وظائف التجارة والأبناك ضرورية لحركة الرأسمال).
2- الفائض العائم: ويعني جماهير العمال الذين يتم تسريحهم من المعامل، بسبب تطور المكننة والانتاجية. لكن هذا التسريح (بالنسبة للاقتصاد الاوربي)، هو بوجه عام تسريح مؤقت. إذ سرعان ما يعود الرأسمال إلى امتصاصهم من جديد. وهذا يخضع لقانون التراكم الرأسمالي التالي: إن تطور المكننة يؤدي حتما إلى البطالة، بالنسبة للجزء من العمال الذي أصبح فائضا. والبطالة تؤدي حتما إلى تخفيض سعر قوة العمل المعروضة للبيع. وهذا السعر المنخفض يشكل حافزا جديدا لاستثمارات جديدة في القطاعات الأقل تطورا من ناحية المكننة. لكن التطور اللاحق للمكننة في هذه القطاعات، يقود بدوره حتما إلى البطالة، فإلى انخفاض سعر قوة العمل، فإلى حفز الرأسماليين الجدد إلى استثمارات جديدة، ثم امتصاص الفائض البروليتاري... وهكذا تكرر الدورة، إلى أن تحدث أزمة كبرى تشل الاقتصاد الرأسمالي. وسبب الأزمة هو بالطبع، أن التطور الكبير للمكننة ينجم عنه بروز حجم ضخم من البضائع المعروضة للبيع، لا تقوى على شرائها القوة الشرائية المتوفرة، تاريخيا لقد كانت الوسيلة الأولى التي لجأت إليها الرأسمالية في البداية، من أجل حل هذه الأزمة، هي البحث عن أسواق جديدة خارج حدودها، وهذا هو دور المستعمرات الكلاسيكية. ثم في مرحلة لاحقة، أصبح التوسع الامبريالي لكل رأسمال احتكاري قومي في مناطق نفوذه الخاصة، هو الذي يقوم بدور حل الأزمة. لكن هذه الوسيلة هي الأخرى، ستستنفذ إمكاناتها الموضوعية، لذلك تم اللجوء إلى وسيلة جديدة تمثلت في إعطاء الدولة دورا اقتصاديا واجتماعيا هاما، وكذلك في رفع مداخل العمال وأجور الجماهير الشعبية عموما، من أجل خلق قوة شرائية متطورة تكون قادرة على امتصاص البضائع الرأسمالية المتكاثرة. وهذا التوجه الجديد، هو بالضبط ما عبرت عنه النظرية الكينزية التي مثلت قطيعة مع الفكر الليبرالي للاقتصاد السياسي الكلاسيكي، كما عبرت عنه بشكل أكثر تقدما سياسة الأحزاب الاشتراكية-الديمقراطية. وبالطبع إن خصوصية هذه المرحلة التاريخية، قد سمحت بترويج العديد من الأوهام والأساطير حول محاسن النظام الرأسمالي المزعومة، بل إن بعضهم ذهب إلى حد القول - عن حقد أو جهل - بأن كينز قد حفر قبر ماركس.
لكن هذه المرحلة بدورها، ستصطدم مح المنطق العنيد الذي يحكم قانون التراكم الرأسمالي. لذلك إن الثورة التكنولوجية التي شهدتها مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، قد أدت إلى تطور هائل للانتاجية لم يسبق له مثيل، مما أدى إلى إغراق الأسواق بسيول ضخمة من البضائع، لم يعد بمقدور التحسينات التي أدخلتها الرأسمالية على نظام الأجور، أن تمتصها.
من هنا اضطرار الرأسماليين إلى التراجع عن الاستثمارات، وتخفيضها إلى حد أدنى، ما دامت البضائع المعروضة في الأسواق لم تعد تجد من يشترها. وبالطبع لقد أدى ذلك إلى تسريح جيوش عرمرمة من العمال، وإلى تصفية العديد من المكتسبات العمالية. (إن الآلة الإعلامية الامبريالية الرهيبة، هي نفسها قد أصبحت عاجزة عن ستر عورة النظام الرأسمالي القبيحة).
فلم يعد الماركسيون الأمريكيون وحدهم الذين ينتقدون الرأسمالية، بل إن صحافة رأس المال الاحتكاري الأمريكي في واشنطن ونيويورك، هي نفسها أصبحت تنشر تقارير يومية عن بؤس ملايين الأمريكيين الذي لا يختلف كثيرا عن بؤس شعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية). إن نظرية ماركس لقائلة بوجود تناقض عميق بين تطور قوى الانتاج وعلاقة الانتاج... بين تمركز الثروة في قطب وتمركز البؤس في القطب الآخر، هذه النظرية لم تجد لها في أية فترة سابقة من عمر الرأسمالية المديد، من مصداقية قاطعة، أكثر من الفترة التي نعيشها اليوم.
إن عصرنا شاهد على أكبر الاستقطابات تكثيفا، في تاريخ البشرية كله على وجه الاطلاق: من ناحية، هناك تمركز الثروة في القطب الشمالي وتمركز الجوع والموت في القطب الجنوبي. ومن ناحية أخرى هناك الرأسمال الاحتكاري الأمريكي الذي يملك الثروات الخيالية والأسطورية، وهناك في عقر داره تظاهرات تشابك الأيدي التي غطت مجموع الولايات المتحدة، من أجل جمع التبرعات لإغاثة ملايين العمال الأمريكيين الذين لفظتهم معامل الرأسمال الاحتكاري. (والطريف في الأمر، أن التعويضات التي كانت تدفع إلى عمال البطالة، بدأ الآن يتم التراجع عنها بسبب إرتفاع نسبة البطالة. فالرأسماليون الأمريكيون والكنديون، يناقشون اليوم المقاييس الجديدة التي يجب أن تخضع لها عملية دفع التعويضات للعاطلين. وفي رأيهم أن العامل العاطل الذي يملك بيتا أو سيارة، يجب أن يُستثنى من الاستفادة من تعويضات البطالة، لأنه، حسب زعمهم، عامل ميسور ! !).
يتضح إذن مما سبق، بأن البطالة تدخل في صلب النظام الرأسمال وهذا في الحالتين معا: 1- حالة الازدهار الاقتصادي، حيث أن الاستثمارات الجديدة هي غير ممكنة بدون توفر قوة عمل رخيصة، وهذه القوة توفرها القطاعات التي تطورت فيها المكننة، مما يؤدي حتما إلى رمي الفائض العمالي إلى الشارع، قبل أن يشكل منطلقا جديدا لاستثمارات جديدة. إن قانون التراكم الرأسمال يقوم إذن، على الحركة المتكررة لعملية التعاقب بين الانتفاخ والانكماش في حجم العمال، الناجم عن التطور المستمر للمكننة... 2- ثم بطيعة الحال في حالة الأزمة الشاملة.
إن هذا النوع من الفائض البروليتاري، قد أطلق عليه انجلز منذ سنة 1895، في كتابه "وضعية الطبقة الكادحة في انجلترا"، اسم الجيش الاحتياطي الصناعي.
3- أما النوع الثالث من الفائض البرولتاري، فيسميه ماركس الفائض الراكد، وهو الجزء من ترسبات العمال العاطلين بشكل دائم، الذين لا يجدون الشغل في المعامل مهما كانت الظروف.
إن الأشكال الثلاثة من الفائض البروليتاري، التي حللها ماركس، وهي الفائض الكامن، والفائض العائم، والفائض الراكد، كلها موجودة والواقع المغربي. فبالنسبة للأول، لازال يمثل 56% في البادية المغربية، وبالنسبة للثاني، واضح الدور الذي تلعبه المكننة وتطور الانتاجية، في تسريح العمال، وخاصة في بعض القطاعات الاستراتيجية مثل الزراعة التصديرية، والفوسفاط (استيراد الحافرات العملاقة من الولايات المتحدة).
لكن خصوصية المغرب تتعلق بالضبط، بالموقع المتميز للفائض الراكد. فإذا كان هذا الفائض، لا يلعب سوى دور ثانوي في بلدان المركز الرأسمال، بسبب هامشية حجمه، فإنه في المغرب له دور أساسي، بالنظر إلى حجمه المتعاظم باستمرار. إن الفائض الراكد في المغرب، يشبه من حيث الحجم، الفائض العائم في بلدان الغرب في ظروف الأزمة. ومن هنا يمكن القول، بأن الاقتصاد المغربي يعيش أزمة دائمة، يعكسها العدد المتزايد باستمرار للشغيلة المهمشة.
لكن ما هوسبب وجود هذا الحجم الضخم من المهمشين في المغرب ؟
لمعرفته يتعين علينا، مقارنة جدلية التراكم الرأسمالي في المغرب بجدلية التراكم الرأسمالي في بلدان الغرب.
إن حركة التراكم في البلدان الأخيرة، تخضع للقانون التالي: تاريخيا، لقد كان المنطلق الأصلي لنشأة الرأسمالية هو البادية. والانتاج الذي كان سائدا في البادية، وهو الانتاج الصغير بنوعيه: إنتاج الفلاحين المستقلين الذين كانوا يتحكمون في جموع محاصيل إنتاجهم، وإنتاج الفلاحين الأقنان الخاضعين للاقطاع الأوربي، الذين لم يكونوا يتصرفون سوى في جزء من إنتاجهم، وهو الجزء الضروري لمعيشتهم وإعادة إنتاج قوة عملهم، بينما فائض الانتاج كان يستحوذ عليه الاقطاعيون.
إن تطور الصرع الطبقي في البادية الأوربية بين الاقطاع والأقنان، قد أدى إلى تحسين ميزان القوى لصالح الأقنان، مكنهم من تقليص حجم فائض الانتاج الذي يذهب إلى الاقطاع، وبالتالي الرفع من دخل الفلاحين الأقنان الخاص، إن تحسن دخل الفلاحين، سمح لهم بتخصيص جزء منه لتطوير الانتاجية. والنتيجة لهذه الصيرورة، هي تقوية طبقة الفلاحين المستقلين أو الطامحين للاستقلال عن الاقطاع.
لكن تبلور هذه الطبقة الجديدة، سيؤدي بدوره إلى إطلاق صيرورة من الانقسامات داخل تلك الطبقة نفسها: صعود أقلية من الفلاحين الأغنياء، وتبلتر جماهير الفلاحين المفلسين (الذين انضم إلى صفوفهم أيضا، الأقنان الذين تم تسريحهم من طرف الاقطاع).
إن الفلاحين المتبلترين، سينقسمون إلى قسمين: قسم تحول إلى عمال زراعيين يعملون في مزارع الفلاحين الأغنياء الجدد، والقسم الفائض سيغادر البادية إلى المدينة ليشكل الفوج الأول من العمال الصناعيين، الذين بدأت تحتاجهم الصناعة الناشئة.
وفي صلب هذه العلاقة المتبادلة، بين الرأسمالية الزراعية الناشئة في البوادي، والرأسمالية الصناعية الناشئة في المدن، تكونت السوق الداخلية الوطنية: من ناحية كانت البادية تمد المدينة بالفائض البروليتاري للصناعة، وبالمنتوجات الغذائية لاطعام العمال، ومن ناحية أخرى كانت الصناعة تمد الزراعة بوسائل الانتاج، وكان العمال يشكلون قوة شرائية أساسية للمنتوجات المصنعة.
وبقدرما كانت العلاقات الرأسمالية تتوسع، والصناعة تتطور، بقدر ما كانت السوق الداخلية بدورها تنمو وتتوسع. إن هذا التطور المتبادل بين الرأسمالية في الزراعة، والرأسمالية في الصناعة، سيؤدي فى النهاية إلى بلترة كاملة للفلاحين المستقلين، وبالتالي إلى تفريغ البادية من فلاحيها ونزوحهم إلى المدن، لكن الصناعة الرأسمالية التي كانت تتطور جنبا إلى جنب، مع الزراعة الرأسمالية، كانت قادرة بالتالي على امتصاص جيوش الهجرة الفلاحية، إن كون النظام الرأسمالي في أوربا، قد خضع في تطوره إلى حركة داخلية، كانت تتكامل فيها أدوار البادية والمدينة، عبر صيرورة متمركزة على الذات، هو الذي يفسر هامشية وضعف حجم الفائض البروليتاري الراكد. أي أن ضعف ذلك الحجم هو من قوة وسعة السوق الداخلية.
أما في المغرب، فقد كانت هناك حلقة مفقودة أساسية، بالنسبة للطريقة التي تم بها تطور الرأسمالية هنا. وهذه الحلقة هي حلقة السوق: فمنذ المنطلق كانت الرأسمالية في المغرب، تقوم على أساس خدمة القوة الشرائية للسوق الخارجية، بشكل انتقائي، وليس على أساس السوق الداخلية المنسجمة والمتكاملة بين البادية والمدينة.
والنتيجة المباشرة لغياب تلك الحلقة الحاسمة، هو التنافر الكبير في وتيرة التطور، بين قطبي التراكم الرأسمالي: البادية والمدينة. ذلك أن التراكم في البادية، القائم على تمركز الملكية العقارية، ومكننتها، وتدمير الانتاج الصغير، أدى حتما إلى فصل الفلاحين عن وسائل انتاجهم ودفعهم للهجرة إلى المدن، لكن بدون أن تكون الصناعة في المدن مهيأة لاستقبالهم أو قادرة على استيعابهم، من هنا كان لابد أن يكون ما لهم هو التهميش الدائم كفائض بروليتاري راكد.
يتبع