مؤامرة اعتقال القائد عبد الله أوجلان كما يرويها بنفسه


عطا درغام
2024 / 7 / 23 - 10:22     

عشية الخروج من سوريا ، كانت الاستخبارات الإسرائيلية قد أصَّرت علي الإيماء بنحو غير مباشر بضرورة خروجي من سوريا. لم أكن أري ذلك مُناسبًا،تجنبًا لتكبد وضعنا في سوريا خسائر فادحة. كما ولم أكن أُصادق علي ذلك استراتيجيَا وأيديولوجيَا. لكن الحرب كانت ستسير في مجراها الطبيعي، وكنا سنعيش ما خبّأه لنا القدر، لم أكن قدريَا إلا أن تغيير المسار والتخلي علي حين غرة عن النهج الأيديولوچي والسياسي والعسكري السائد قرابة ثلاثة عقود بحالها ، ما كان ليكون عصيانَا ذا معني علي القدر المحتوم.
كان يتعيَّن الالتزام بالصدق، وما كان لي أن أجهد أساسًا لإنقاذ نفسي.وبعد الإنذار الأخير الذي أطلقه أتيللا أتيش غلاديو الناتو، لم يكن بإمكاننا تصعيد الحرب إلي مستوي أعلي، إلا في حال مساندة سوريا وروسيا لنا بثبات لا يتزعزع .لكن ، ومثلما لم يؤمن هكذا دعم أو مساندة، فإن كلا البلدين لم تكن لديهما القدرة ،بل وحتي النية علي تحمل وجودي شخصيًا علي أراضيها.وقد كان هذا مستحيلًا فعلًا بالنسبة إلي سوريا.إذ كان من الوارد أن تُحتل بين ليلة وضحاها من طرف الجيشين التركي شمالًا والإسرائيلي جنوبًا.
ولو أنهم لم يهتاجوا أو يتوتروا لكان بوسعهم خلق إمكانيات تموقع أفضل بالنسبة لي. إلا أنهم لم يستطيعوا المجازفة في ذلك ،أما موقف روسيا فكان ذليلًا أكثرـ حيث أرغمتني علي الخروج من موسكو، مقابل مشروع التيار الأزرق وقرض من صندوق النقد الدولي مقداره عشرة مليارات من الدولارات.
من عظيم الفائدة والأهمية الإمعان عن كثب في سياق ما قبل الخروج وأثناءه قبل الخوض في مغامرة أثينا وروما.
لن نستطيع فهم المجريات بصورة كاملة ، ما لم ندرك ثنائية انقلاب 28 شباط /فبراير بشكل صحيح فجناح من الانقلابيين كان قد اقترب منا مع مقترحاته الموضوعية بشأن السلام،وأعتقد أن أرشيفنا يحتوي علي الوثائق المتعلقة بذلك. وعلي غرار ما حصل إزاء موقف تورغورت أوزال ونجم الدين أربكان كنت مقتنعًا بجديتهم وبرغبتهم في السلام، إلا أن هذا الموقف الموالي للحب السلمي والسياسي كان قد أفضي إلي حصول انقلاب داخل الانقلاب.والآن يتضح للعيان علي أفضل وجه أن كلا من إسرائيل وأمريكا لم تكونا في مصاف الحل السلمي والسياسي قطعيا آنذاك ؛ أي إلي حين اعتقالي، بل كانتا تتطلعان بإصرار شديد إلي استمرار الحرب ولو بمستوي منخفض، وإلي تخبط القضية الكردية في العقم واللا حل.إذ كانتا بأمَّس الحاجة إلي ذلك في سبيل التحكم بزمام الأمور في الشرق الأوسط عمومًا،ولأجل إسقاط الحكم في العراق بصورة خاصة،حيث ما كان لهما أن تحدا من فاعلية تركيا ، ولا أن تطبقا مخططاتهما، إلا عن طريق ذلك.
وهكذا، كان قد أُطيح بتورغورت أوزال ونجم الدين أربكان وبولند أجاويد ؛لأنهم لم يأبهوا لهذه المخططات ، بل سلكوا موقفا أناضوليًا وقوميًا عمومًا، ومواليًا للسلام وللحل السياسي علي صعيد القضية الكردية خصوصًا.أما انتهاء أمر إزاحتهم بالموت أو بعدمه فلم يكن يتسم بأهمية تُذكر بالنسبة إلي موالي الحرب؛ لأنهم كانوا في قلب الحرب من الأساس،لقد كانوا يطمعون في بلوغ مآربهم بالاستمرار بالحرب حتي الأخير، وتذليل كل عائق ينتصب أمامهم، بما في ذلك الحسم العسكري المطلق للواقع الكردي، وسلوك ضرب من ضروب التطهير العرقي . وما كان للقوي المهيمنة أن تُحرز النجاح المأمول أبدا، ما لم تساند هذا المفهوم، الذي يُعد امتهانا لنهج الاتحاد والترقي الكلاسيكي .
ونظرًا لأنها علي دراية بذلك؛ فقد كانت تشعر بالحاجة المطلقة إلي دعم ومؤازرة أمريكا وإنكلترا وإسرائيل لها. وكان هذا الدعم قد تحقق أثناء خروجي من سوريا في 1998 .
كان ثمة طريقان أمامي أثناء الخروج :أولهما كان طريق الجبل،والثاني كان طريق أوربا.اختيار طريق الجبل يعني تصعيد الحرب،بينما ترجيح طريق أوربا كان مفاده البحث عن فرصة الحل الدبلوماسي والسياسي.
معروف أن الاستعدادات لشق طريق الجبل كانت قد جرت قبل ذلك بأيام،وكانت كفة الاحتمال ترجح في هذه الوجهة.كانت مشكلة المسؤولين السوريين تتجسد في أن أخرج بأقصى سرعة من هناك , إلا إنهم لم يبدوا مرتاحين كثيرًا لانطلاقي نحو أوربا، وعدم إيجادهم البديل في هذا المضمار إنما هو مأخذ جاد مسجّل عليهم.
في واقع الأمر، لم يكن الانطلاق نحو أثينا في موضع الحسبان، بل كانت فرصة مسنوحة لم أتجنب الاستفادة منها ؛ لإيمانا مني بجدية أصدقائنا هناك. ولو كنت أعرف أنهم كما قابلتهم علي أرض الواقع، لما انطلقت إلي هناك إطلاقًا.
كان المسؤولون السوريون قد التقطوا أنفاسهم بعدما حطَّت بي الطائرة التي تقلَّني في أثينا يوم التاسع من شهر تشرين الأول.انتصب كالندريديس أمامي عندما هبطت في مطار أثينا.كان كالندريديس قد مكث طويلًا في تركيا أيضًا بصفته ضابطًا مسؤولًا في الناتو،وكان ثابرًا علي المهمة عينها في السويد أيضًا. لذا ،ربما هو تابع لغلاديو اليونان.كان يتظاهر بالصداقة إلي أبعد مدي ،كما وكان ثمة مراسل غريب الأطوار وسيط بيننا ،سرَّب إليَّ بعض وثائق الناتو. قد يكون فعل ذلك لزرع الثقة ، وهو من أخذني في نفس المطار إلي عند ضابط المطار ورئيس المخابرات ستافراكاكيس، والذي كان ينتظرني في غرفة هناك، والذي قال لي بغطرسة وعناد لا يحتمل الجدل، إني لن أستطع دخول اليونان ،ولو مؤقتًا .لم يظهر الأصدقاء الذين تواعدنا معهم إلي الوسط هناك،وتراشقنا الكلام حتي المساء،وبمحض صدفة ،دخل علي الخط وسيطنا الذي في موسكو نومان أوچار.
وهكذا، غيَّرنا وجهتنا صوب موسكو علي متن طائرة يونانية خاصة،وبمساعدة رئيس"الحزب اليمقراطي الليبرالي" چيرينوسكي تمكنا من الهبوط بموسكو،ونجحنا في الدخول إلي روسيا التي كانت تعاني الفوضي الاقتصادية في تلك الأيام .لكن رئيس المخابرات الداخلية الروسية انتصب أمامنا هذه المرة،وهو أيضَا كان متعجرفًا وعنيدًا.لذا ما كان بوسعنا البقاء في روسيا في ظل تلك الظروف،فمكثت حوالي ثلاثة وثلاين يومًا بشكل قيل إنه سري.
من نزلت عندهم واعتنوا بي كانوا من أصول يهودية ،كنت مقتنعًا بصدقهم؛إذا كانوا يودون فعلًا إخفائي عن الأعين ، لكن ما كان لي أن أُصادق علي هذا الأسلوب.كان رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون ووزيرة الخارجية الأمريكية أولبرايت قد وفدا إلي روسيا خلال تلك الفترة،أما رئيس الوزراء في روسيا فكان بيرماكوڤ وجميعهم من أصل يهودي،علاوة علي أن رئيس الوزراء التركي مسعود يلماژ أيضا كان في حراك حينها.وفي آخر المطاف أمَّنوا خروجي من روسيا بعد الاتفاق علي"مشروع التيار الأزرق" ،وقرض مالي من صندوق النقد الدولي قدره عشرة مليارات من الدولارات.
تفضيلي الفوري لموسكو، كان يتأتي من إيماني بأنه " أيًا يكن، فقد عاشوا تجربة اشتراكية دامت سبعة عقود بأكملها. لذا ،سوف يقبلون بي بكل يسر، سواء بدافع من مصلحتهم ، أم من الموقف الأممي".ورغم انهيار نظامهم لكني لم أتوقع أن يكونوا مصابين بهذا القدر من الشح المعنوي.
لقد كنا وجهًا لوجه أمام أنقاض رأسمالية بيروقراطية أنكي بكثير من الرأسمالية الليبرالية. لذا أُصبنا بخيبة الأمل جراء موقف الأصدقاء الذين في موسكو،بقدر ما تسبب به الأصدقاء في أثينا علي أقل تقدير.أو بالأحري كان قد تجلي بوضوح أن علاقات الصداقة المعقودة لم تكن محل ثقة.
بُني مسارُنا الثالث بمحص الصدفة ثانيةً علي الاستفادة من علاقتنا في روما ؛ فبدأنا مغامرة روما بمساعدة من نائبين صديقين من صفوف " الحزب الشيوعي- البنية الجديدة"، والذي كان قد عُقدت العلاقة معه قبل فترة وجيزة. وهكذا،بدأت هذه المرة أيامنا التي كانت ستطول ستة وستين يومًا في مشفي بروما كجزء من السيناريو الاستعراضي الذي أعدته الاستخبارات الإيطالية.كان موقف رئيس وزراء ذاك الوقت ماسيمو داليما حميمًا ولكن ناقصًا،حيث عجز عن إعطاء الضمان السياسي التام، وترك أمرنا للقضاء.وكنت قد اغتظت من ذلك فعقدت العزم علي الخروج من إيطاليا في أول فرصة سانحة. وفي آخر تصريح أدلي به داليما ،كان قد أفاد أنه بوسعي البقاء في إيطاليا قد ما أشاء، إلا أنني وجدت ذلك وكأنه موقف متخذ علي مضض.وإن لم يخني ظني ، فقد حصلت مبادرة عربية مشتركة في تلك الأثناء، حيث ذكروا لي أنهم يودون أخذي إلي مكان لم يبوحوا به ،لكني رفضت لغياب الرسمية والضمان.
كان ثاني ذهاب لي إلي روسيا خطأ، لقد خُدعت.أتذكر أنني تنفست الصعداء من الأعماق فور خروجنا من الساحة التابعة للناتو علي متن الطائرة الخاصة بداليما. لكن هذا الخروج كان أشبه بمن يستجير من الرمضاء بالنار.وفي هذه المرة أخذتني المخابرات الروسية الداخلية إلي المطار،بعدما أقنعتني أن ذهابي سيكون صوب أرمينيا،وحسب السيناريو المُعَدُّ مُسبقًا حسب اعتقادي،قالوا لي في المطار إن الذهاب إلي أرمينيا قد أُغلِّق ، وأنه بمقدوري الذهاب إلي طاچكستان لمدة أسبوع إن شئت، وأنهم سوف يجدون البديل في غضون هذه المدة
وبعد نوع من الخداع أقَّلوني علي متن طائرة الحمولات،لتحَّطَّ بي في دوشنبه عاصمة طاچكستان ،وانتظرنا لمدة أسبوع في غرفة لم نغادرها قط،ثم عدنا أدراجنا إلي موسكو مرة أخري .ومرة ثانية استجرنا بالأصدقاء اليونانيين مكرهين .و خلال يومين انعطفنا صوب أثينا ثانيةً ، بعد يومين مليئين بالمغامرات والبرد القارس والمُثلج داخل موسكو.
وحسبما يجول بخاطري ،فقد بت أهمسُ في قرارة نفسي أنني انجررت هذه المرة إلي ألاعيب الآلهة الأولمبية بكل ما للكلمة من معني، وكنت أتوسط تلك الأشباح الإلهية تمامًا.وكنت قد استذكرت الإله هادس Hades علي وجه التخصيص،حيث دخلت من صالة كبار الشخصيات في المطار.
وفور دخولي بدأت ملاحقة إله السعير هادس لي بلا هوادة، وتمكنت من قضاء ليلة واحدة فقط في المنزل المبعثر جدا لحماة صديقي ناغزاكيس، التي كنت أشبه بساحرات العصر القديم،كنت قد سألتها "ما عساه يفعل بانغالوس؟" ولكن، وكأنها أشارت إلي مدي انقطاعها عن حقائق العصر عندما أجابت "سيستمر ذلك في الانتخابات". لقد ذكَّرتني نوعًا ما بحقيقة الشعب اليوناني القديم البالغ في الأصالة، ولكن الخائر القوي أيضًا.وإثر تلك الليلة بدأ السير نحو ماهو أقرب إلي معسكر الموت، لقد كان هادس فقط يصول ويجول في الميدان،وكانت كل الأقوال والأفعال مشحونة بالزيف والرياء، أو لم يكن ثمة عناصر وفية؟ كانوا موجودين ولكن ما كان بيد أي منهم أية حيلة في وجه وحش الحداثة.
وأثناء الانطلاق صوب أفريقيا بات رمز مانديلا نافذًا هذه المرة تمامًا مثلما كان رمز لينين نافذًا في الانطلاق صوب موسكو. فحسب المزاعم كنت سأذهب إلي جنوب أفريقيا ، وسأعقد العلاقات الدبلوماسية المتينة من جهة،وسأحظي بجواز سفر رسمي وساري المفعول من الجهة الأخري.
كان زيف الدولة اليونانية قد أحرز النجاح في هذه اللعبة أيضًا.في الحقيقة كان عليّ تعاطي الأمر إدراكًا مني بأن ديمقراطية الشعب اليوناني قد خُدعت طيلة التاريخ من قبل هذا الطرف المُرائي،وأوقعت في مخاضات مآسي فجيعة.إلا إن إيماني بالصداقة كبراءة طفل، هو الذي ساد في موقفي وأثناء الخروج من اليونان والتوجه إلي كلا المطارين ،كان سائقا السيارة التي تقلني قد بذلا جهودًا مُضنية كي أعود إلي رشدي ،فأرفض الذهاب، وأعربا عن صدقهما وإخلاصهما بفعل كل ما في وسعهما لتبيان مدي فداحة المؤامرة المحاكة.قد يكونان – هما أيضًا- موظفين من المرتبة الدنيا في المختبرات. فأولهما صدم السيارة بالطائرة، مُعيقًا بذلك الذهاب. وثانيهما تذرَّع بحصول عطب ، فأوقف السيارة سبع مرات ولدقائق طويلة في مكان قريب من المطار الذي يجب أن نمرّ منه سرًا.لكني كنت أثق بالوعود المقطوعة لدرجة أني لم أتيقظ بتاتًا ،بل وعلي النقيض كنت أود الذهاب بسرعة ،حبًا مني في رؤية ما خبئه لنا القدر لحظة قبل أخري.كانت الطائرة التي تقلني تُستخدم في التمشيطات السرية لشبكة الغلاديو.
لكن، كنت قد سبقت ذلك رحلة إلي مينسك ؛إذ كنت سأدخل الأراضي الهولندية عن طريق مينسك قبل الذهاب إلي نيروبي. لذا، وعلي متن طائرة خاصة مرة أخري، انتظرت ما يزيد عن الساعتين في أحضان البرد القارس في مينسك.لكن الطائرة المنتظرة لم تأت ، وقامت شرطة مطار روسيا البيضاء بتفتيش الطائرة دقائق عدة. يُحتمل أنهم كانوا سيتركونني في مطار مينسك ، وربما كآخر فرصة أمامي. وما تبقي كان متروكًا لإنصاف إدارة روسيا البيضاء.
المُثير في الأمر أن وزير الدفاع الوطني التركي عصمت سيزكين أيضًا كان في زيارة إلي مينسك في تلك الأثناء،وعندما لن تأت الطائرة زعم أن آخر فرصة لنا قد أفلتت من أيدينا.أما عودة أدراجنا القهقرى ،فكانت أشبه ب"الموت الأبيض"،وعندما انسلت طائرة الغلاديو في كبد سماء البحر الأبيض المتوسط كنت قد شبَّهت هذا الرحيل في سرودي اللاحقة بنقل الضحايا في قوافل القطارات المستخدمة في إبادة اليهود.فما تمثل في شخصي كان ولوج احرج أوقات نظام الإبادة الجماعية المطَّبقة علي الشعب. وقد رأيت الوجه الباطني والقيقي للناتو في غضون هذه الرحلات. وعندما عدنا من مينسك كان قد أُطلق الإنذار بألا تخُط الطائرة في أي مطار يقبل بهبوط الطائرة فيه آنذاك،عدا مطار مينسك في روسيا البيضاء،الدولة الوحيدة العاقة.
وفي جهنم نيروبي ، كان قد وُضع أمامي ثلاثة سبل : أوهما ، موت مُزيَّن بمشهد اشتباكي بحجة عدم الإذعان للأوامر لمدة طويلة. ثانيهما ، امتثالي لأوامر وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA دون جدل واستسلامي لها . وثالثهما ، تسليمي إلي وحدات الحرب الخاصة التركية ، المعدة منذ زمن بعيد.
من بين الأشخاص الذين رافقوني في نيروبي ،هي أيضًا كانت متوترة نفسيًا،ولو أنها كانت قد صرّحت عن أفكارها بشكل تام، ودفعت منظمات المجتمع المدني إلي الحراك؛ لربما كان بمقدورنا إفساد المؤامرة جزئيًا أو إفراغها من مضمونها كليًا. كنت قد رفضت اقتراحها بحماية نفسي بمسدس ؛ ذلك أن هذا كان يعني الانتحار بالنسبة لنا، وبالنسبة لي . وما كان لي نية بالانتحار،وكانت تبذل قصاري جهدها وحتي آخر لحظة كي أتحصن بالمسدس، ولو كنت حاملًا للسلاح، وحاولت الضغط علي الزناد؛لكان هذا الموقف سيكون الموت بعينه دون بد. وأثناء فترة التحقيق اللاحق،قيل إنه كان قد أُطلق الأمر بقتلي في حال استخدامي السلاح.كما قالوا إن خروجي من السفارة أيضًا كان سيعني الموت المحتوم،وأفادوا بأني سلكت الموقف الأكثر عقلانية. لا أدري مدي صحة قولهم ذاك.لكن موقف السفير كوستولاس في سياق الأسبوعين اللذين قضيتهما في نيروبي خليق بالفهم حقًا.تُري،هل كان مُسخرًا؟ أم كان أعد كجزء من المخطط قبل ذلك بفترة طويلة؟ أنا بنفسي لم لأستطع تحليل ذلك.
هذا، ولم يأت البتة إلي منزله - الذي يُعد مكان إقامته أيضًا- قبل تسليمي.وكان قد تشاجر بحدة نوعًا ما مع زبانية نيروبي بسبب رغبتهم فيما كان أشبه بإكراهي علي الخروج من السفارة،ولكن قد يكون موقفه ذاك زائفًا ومُرائيًا.وفي هذه المرة أيضًا كان بانغالوس قد استصدر الإذن للذهاب إلي هولندا حسبما زُعم ،لكني لم أثق بذلك كثيرًا حينها؛لأن الوحدات الخاصة اليونانية كانت ترصد الفرصة المواتية للمداهمة بغية إخراجي رغمًا عني،في حال رفضي الخروج من المنزل.
كما ،وكانت الشرطة الكينية أيضًا متأهبة لفعل الشيء عينه. وبطبيعة الحال،فالذهاب إلي جمهورية أفريقيا الجنوبية كان قد أمسي حكاية تضليل وخداع منذ أمد غابر.أما الاقتراحات المطروحة من قبيل اللوذ إلي الكنيسة أو هيئة الأمم المتحدة ،فقد كانت محفوفة بالظنون والمخاوف.لذا،كنت مُصِّرًا بعناد علي عدم الخروج.
كانت مذهلة فترة الشهور الأربعة الممتدة من 9 تشرين الأول 1998 حتي 15 شباط 1999.وما كان لأية قوة في العالم عدا أمريكا أن ترَّتب لهذا التمشيط الممتد أربعة أشهر بحالها في تلك المرحلة،أما دور قوات الحرب الخاصة حينذاك ( رئيس تلك القوات كان الجنرال أنكين آلان)؛فكان منحصرًا في نقلي إلي إمرالي علي متن الطائرة ،وذلك تحت الإشراف.
كانت فترة شاهدة علي تنفيذ أهم العمليات التي عرفها تاريخ الناتو بالتأكيد،وقد كان هذا ساطعًا بجلاء إلي درجة أن أيَّ شخصٍ لم يقم بأي تصرف شاذ في أي مكان حللنا فيه، ومن فعل ذلك شُل تأثيره علي الفور.في حين إن موقف اليونانيين كان كافيًا أساسًا لإيضاح كل شيء، كما إن الإجراءات الأمنية المثتخذة داخل وخارج المنزل الذي أقمت به كانت تسرد الوضع علي الملأ إلي حد كبير.لقد كانوا اتخذوا تدابيرًا استثنائية بخصوص الأسر، ولم يسمحوا حتي بخطو خطوة واحدة إلي الخارج. وكانت وحدات الأمن الخاصة تراقب علي مدار الساعة كل مكان ،وحتي باب غرفتي.كانت حكومة داليما يسارية ديمقراطية،وكان داليما قليل الخبرة وقاصرًا عن اتخاذ قرار بمفرده. لقد جاب أوربا بأكملها،وبيَّنت إنجلترا له ضرورة اتخاذ قراره الذاتي،ولم تتعاون معه كثيرًا،في حين كان موقف بروكسل غامضًا.
وفي النتيجة أُحلنا إلي القضاء .هذا وكان مُحالًا عدم رؤية تأثير الغلاديو في اتخاذ هذا الموقف، وبالأصل؛ فإيطاليا كانت واحدة من البلدان التي يتمتع الغلاديو فيها بالثبات والرسوخ.
كان بيرلسكوني قد استنفر كل قواه،وهو بذاته كان رجل الغلاديو.ولأنني علمت بعدم قدرة إيطاليا علي تحملي،كنت مرغمًا علي الخروج.وبالطبع ،كانت تركيا قد صُيِّرت مقابل ذلك واحدة من أكثر البلدان التي تثق بها أمريكا وإسرائيل،بعدما جعلتاها تدور في فلكهما. من هنا، فالسياق الذي يزعم أنه عولمة طائشة،ماهو في واقع الأمر سوي حكاية تقديم تركيا هبة للرأسمالية المالية العالمية.
كان كلينتون يخص حملة الهيمنة تلك بأهمية بليغة في تلك الفترة ،مشددًا دائمًا علي مدي أهمية دور تركيا أيضًا في ذلك،وكان مستشاره الخاص الجنرال چالتيري قد صرَّح بذات نفسه أنهم أشرفوا علي التمشيط الذي استهدفني بأمر مباشر من كلينتون.أما فيما يتعلق بموضوع "الحرب العالمية الثالثة"،فيكفي لاستيعاب حقيقة هذه الحرب،بأن ننتبه إلي كون إحصائيات الأحداث والمُجريات القائمة في العديد من البلدان الرئيسية يتصدرها في هذا السياق كل من العراق وأفغانستان، ولبنان وباكستان وتركيا واليمن والصومال ومصر؛ قد تخطت منذ زمن سحيق وعلي أصهعة مختلفة إحصائيات الحربية العالميتين الأولي والثانية.
أما كون"الحرب العالمية الثالثة" ستكون متقطعة وغير متواصلة وممتدة علي مسار زمني بعيد المدي، وستسير بتقنيات مختلفة ومغايرة؛ فهو أمر من الأساس بسبب الأسلحة النووية. وقمة لشبونة التي عقدها مؤخرًا، وتشديد من أمريكا طوق الحصار حول إيران،إنما يزودنا بالمعلومة اللازمة بشان مجري"الحرب العالمية الثالثة".
إن "الحرب العالمية الثالثة" حقيقة قائمة ، ومحورها المركزي هو جغرافيا الشرق الأوسط وأوساطها الثقافية، والأحداث المُعاشة في العراق بصفته مركز تركز "الحرب العالمية الثالثة"؛إنما يوضح بشكل كاف ووافٍ كون الحرب المندلعة فيه ليست معنية ببلد واحد، بل بمصالح ووجود قوي الهيمنة العالمية أيضًا.ولا يمكن إنهاء هذه الحرب،إلا بشل تأثير إيران كليًا ، وباستتباب الأمن والاستقرار في أفغانستان والعراق، وبإخراج كل من الصين وأمريكا اللاتينية من كونهما عنصر تهديد.وعليه لا زلنا في منتصف الحرب التي ستدوم فترة قد تصل إلي عشر سنوات أخر بأقل تقدير،علي الرغم من عدم صواب الجزم بذلك علي صعيد العلوم الاجتماعية (آخر المخططات الإستراتيچية للناتو أيضًا،ترتأي استمرارها مدة قدرها عشر سنوات)هذا ،وسيتكاثف الحراك الدبلوماسي فيها أحيانًا والعنف أحيانًا أخري، وسيجري التدخل في الأچندة عبر أزمات اقتصادية شديدة ومضبوطة،سوف تتغير أولويات المناطق والساحات ، لكن الحرب ستستمر في العديد منها بمنوال شمولي ،سواء بهذا الشكل أو ذاك.
من هنا، لن يكون بالوسع الفهم بأفضل صورة لدوافع تسيير تمشيط 1998 الذي استهدفني علي الصعيد الدولي،ولأسباب كونه أكبر تمشيط للغلاديو يدبره الناتو؛إلا في حال وضع هذه الطبيعة الأساسية للحرب نصب العين. وما لا شك فيه هو أن من يربح دومًا في الحروب الكبري ليس قوي الهيمنة فقط ، بل قد تكسب الشعوب أيضًا الكثير الوفير.بل وقد تخسر قوي الهيمنة علي صعيد النظام ، وتكسب الشعوب بالمقابل وعلي صعيد النظام أيضًا.
مرحلة إمرالي:
دارت المساعي لتطبيق أهم فصل في سيناريو مؤامرة الغلاديو علي أرض الواقع في جزيرة إمرالي.فوظيفة الجنرال أنكين آلان رئيس الخلية التي جلبتني إلي الجزيرة تكفي وحدها لتسليط الضوء علي هذه الحقيقة. إذ كان قائد القوات الخاصة آنذاك ؛أي بمثابة الرئيس الرسمي للغلاديو التركي.أما موقف مسؤول المفوضية الأوروبية،والذي استقبلني في الجزيرة ؛فكانت تكشف النقاب أكثر عن بُعد المؤامرة المتعلق بالاتحاد الأوربي.وهكذا كانت قد طفت علي وجه الماء المعاهدة المبرمة بين امريكا والاتحاد الأوربي والإدارة التركية.وعليه، ما من برهان قاطع ومنوِّر علي أن التمشيط قد سُيِّر علي يد غلاديو الناتو وبرعاية سياسية أمريكية وأوربية ؛أكثر من هذا الدلائل الثلاثة (تصريحات المستشار الخاص للرئيس الأمريكي كلينتون الجنرال چالتيري؛ ومواقف الفتاة المسؤولة في المفوضية السياسية للاتحاد الأوربي ، ودور رئيس قيادة القوات الخاصة التركية أنكين آلان).وقبل هذه الحقائق التي كانت ستبرز ‘أي الوسط لاحقا،لم يكن يساورني الشك أن قوات الأمن في الحكومة التركية ليست هي القوة التي تشل تأثيري وتكبح جماحي ؛إلا إني كنت عاجزًا عن إدراك آلية التمشيط بصورة تامة.حيث كان السياق يعكس بنحو مغاير تماما لما هو عليه في أرض الواقع. وكان ثمة عناد شديد علي خلق أجواء تومْيء بأن الحكومة التركية تسحقنا وتجني ثمار قمعها . فإقرار رئيس الوزراء بولند أجاويد بجهله لأسباب اعتقالهم إياي ، وعدم استيعابه لدوافع رغبتهم في إعادتي إلي تركيا، إنما هو بحد ذاته برهان حاسم يثبت مصداقية ادعائي هذا,وسوف تبرهن صحة ادعائي مع زيادة الغوص في تحليل الأحداث واتضاح المستجدات.
أول من استقبلني في الجزيرة كان جنديًا برتبة عقيد ،وبرتدي البزة العسكرية الرسمية.وكان قد عرَّف نفسه علي أنه ممثل عن هيئة الأركان العامة.وهو من قام بالمحادثات المهمة التي وجد أنه من المفيد أن تكون ثنائية منحصرة بكلينا ،وأن تبقي سرية .هذا وكان لنفس المسؤول أحاديثه المهمة والمختلفة،عندما بدأ التحقيق رسميًا بعد ذلك أيضًا.
وكان قد استمر عشرة أيام ذاك الاستجواب الذي أجرته هيئة مؤلفة من أربع خلايا أمنية (هيئة الأركان العامة،قوات الدرك، مديرية الأمن ، والمخابرات الوطنية). وقد تخلله حديث لي مسجل علي الكاسيت،وموجهٌ إلي قيادات تلك القوات . كما وأجريت بعد ذلك أيضًا محادثات متبادلة بمثابة دردشة دامت لشهور. وكانت شخصيات أخري تدخل في بعض الأحايين ،كما كانت تاتي هيئات من أوربا بين الفينة والفينة.
أوليت الأولوية لمفهوم مرافعة تضع ماهية المؤامرة الدولية نُصب العين فيما يخصُّ سياق إمرالي.فالمتحركون باسم التركياتية كانوا قد بتروا أواصرهم مع الحقيقة، بسبب الوعي التركياتي المتشدد الذي يحيونه. بالتالي ؛فإدراكهم الفلسفة المستترة وراء المؤامرة كان مخالفًا لطبيعتهم.ذلك أنهم-هم أيضًا- كانوا ثمار البني التي شادتها تلك فلسفة المؤامرة تلك طيلة مائة عام علي الأقل.وعليه،كان من غير المتوقع أن يتنكروا لتلك البني المُشادة،أو يتناولوها بعين ناقدة،وكما وكان لا طائل من انتظار أن يبيدوا أية إرادة للتغير الإيجابي لديهم، سواء أثناء كوميديا المحاكمة أم خلال سياق الاعتقال.
أما تصديق أنه سيتم التصرف بمقتضي الأقوال التي همس بها ممثل رئاسة الأركان العامة، فكان سيغدو سذاجةً وبساطة في ظل الظروف القائمة. فبالأصل،إنهم مجرَّدون من قوة القرار التي تُخولهم لتطبيق أقواله.لقد ابتكر نظام تدعمه أمريكا في الخفاء،ويشرف عليه الاتحاد الأوربي.كانت إنكلترا هي من صمم هذا النظام في حين أن تطبيقه كان من حصة الأتراك.
فمثلًا؛إنكلترا هي الأكثر خبرة من بين تلك القوي،وهي القوة التي أطلقت الرصاصة الأولي للإنذار بعدم السماح بمزاولتي السياسة ضمن أوربا.وما إن وطأت قدماي أرض أوربا حتي سارعت لإعلاني" Persona nom grata " "الشخص المنبوذ" .لم تك هذه خطوة بسيطة ، بل كانت إحدي الخطوات التي تقرر النتيجة النهائية سلفًا.حسنًا ولماذا اتُخذ إزائي هكذا موقف فوري ام يتخذ حتي إزاء خميني أو لينين ؟ لقد سعيت إلي توضيح العديد من البوادر والعلائم المعنية بذلك في العديد من فصول مرافعتي .لذا لا داعي لمزيد من التكرار .وباقتضاب كنتُ حجر عثرة لا يُستهان به علي درب حسابات الهيمنة المعمِّرة قرنين من الزمن بشان الشرق الأوسط ،وبالأخص سياستها المتعلقة بكردستان (باختصار بسبب السياسة التي مفادُها" إليك كركوك والموصل، واقض علي الكرد الذين داخل حدودك".وكنت قد أمسيت خطرًا يهدد كل مخططاتها ،ويقض مضاجع منفذيها.
أما هم أمريكا فكان مختلفًا؛إذ كانت لها مطامعها في إدراج "مشروع الشرق الأوسط الكبير" في جدول الأعمال. لذا ، كانت المستجدات الجارية في كردستان ذات أهمية حياتية وحرجة،بالتالي فإن شل تأثيري بصورة أكيدة كان ضرورة من ضرورات الأجواء المفصلية والحرجة السائدة حينذاك بأقل تقدير.هذا وكان القضاء عليَّ يتناسب والسياسات العالمية في تلك الأيام. أما روسيا التي كانت تمر بأزمة اقتصادية بالغة الأهمية في تاريخها ، فكانت في مسيس الحاجة إلي قرض معونة عاجلة. ولئن كان سيُصبح دواء لدائها فلن يبقي أي سبب لعدم لعب دورها واحتلال مكانها في المؤامرة المحاكة ضدي.
أعتقد أني أسلط النور أكثر قليلاً علي الحقيقة،عندما أقول ذلك فمناصرة حرية كردستان ونيل الكرد هويتهم في تلك الأيام، كان يقتضي تذليل شتي أشكال المصالح الليبرالية اليومية والبراغماتية والأنانية، ويأمرنا بالتخلي عن حياة الحداثة الرأسمالية بيمينها ويسارها،ويُرغمنا علي الانتفاض في وجهها.وخلاف ذلك ،فعالم تلك الأوقات ،كان عالم الأيام الشاهدة علي انتعاش الليبرالية العالمية في حرب غزوها للعالم.كانت تُعاش آنئذ السنوات التي أُعلنت فيها الفاشية الليبرالية سيادتها عالميًا.أما من الناحية السياسية ،فكانت منطقة الشرق الأوسط تمثل بؤرة صراع الهيمنة.لذا كان الصراع علي كردستان يتسم بدور المفتاح من جهة حسابات الهيمنة ، وكان شأن PPK الأيديولوجي والسياسي علي تناقض صريح مع تلك الحسابات.بناء عليه،فالقضاء عليه كان يعني إفساح المجال أمامها.
وبالمقدور استشفاف تطور سياق هذا الفكر السياسي في مرافعاتي التي دوَّنتها في هيئة ثلاث نسخ.وهكذا كانت النتائج التي توصلت إليها بخطوطها العريضة.
لم تُنسج خيوط المؤامرة ضد الكرد فقط متمثلين في شخصي بل وضد الأتراك أيضًا.فشكل تسليمي، ونية الذين لهم دورهم في ذلك لا يُشير إلي الحل والحد من الإرهاب،بل تجذير وتعبيد أرضية الخلاف والشقاق بحيث يطول عمره قرنًا آخر من الزمن.وإيقاعهم إياي في فخ المؤامرة كان قد قدم لهم فرصة مثالية لتحقيق نواياهم المغرضة تلك.وكانوا سيطمعون في انتهاز هذه الفرصة حتي الأخير.إذ ما كان ممكنًا التفكير بالعكس،حيث لو أنهم شاء وإن كان بمقدورهم هو الإسهام في إنجاز مستجدات إيجابية جدًا في هذا الاتجاه.لكنهم كانوا يدفعون الأمور نحو الهاوية دومًا ويصيرون المشكلة عقدة كأداء بدلًا من حلها.كانت ثمة مساع لخلق ثنائية نموذجية علي غرار ثنائية إسرائيل- فلسطين. فكيفما خدم الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني الهيمنة الغربية في الشرق الأوسط قرنًا كاملًا من الزمن،فكان بإمكان الصراع التركي- الكردي الأوسع آفاقًا بكثير، أن يخدم حسابات الهيمنة قرنًا آخر من الزمن بأقل تقدير.وقد رُعي الهدف عليه أساسًا تصعيد العديد من القضايا الأثنية والمذهبية وجعلها تتخبط في اللاحل ضمن المنطقة خلال القرن التاسع عشر.لقد أنضجت حقيقة إمرالي الخامة جيدًا في هذا المضمار.إلا إن المعضلة الأهم التي انتصبت في وجهي ،كانت إفهام ذلك إلي المسؤولين الأتراك.
بالتالي؛ فالإقناع بأن المؤامرة مُحاكة ضد الأتراك أكثر منه ضدي أو ضد الكرد ،كان قد أمسي أهم إشكال لدي وكنت أشدد علي ذلك مرارًا إزاء المحققين معي.لكن هؤلاء كانوا مهووسين بنشوة النصر،وقد استمر موقفهم هذا إلي أن أدركوا عام 2005 أن حركة الهوية والحرية الكردية ازدادت حيوية وانتعاشًا عما كانت عليه في الماضي. وأدي تركيزي علي الموضوع بإمعان أكبر،رأيت عن كثب العناصر التآمرية الكائنة في سياق الحكم الدستوري وعهد الجمهورية ،وفطنتُ إلي أن الحدث المسمي بالاستقلال التركي ، ماهو إلا أسوأ أشكال التبعية.لقد كانت تبعية الأتراك أيديولوجية وسياسية. ومع مُضي الوقت استطعت الإدراك أكثر فأكثر بأن القوموية والوطنياتية المنشأتين ذاتا منشأٍ غريب، وأن علاقاتها نادرة جدًا مع الظاهرة الاجتماعية التركية وتاريخها.لقد كانت القوي المهيمنة عالمة بمدي ضعف النخبة الحاكمة التركية بشأن السلطة وتستفيد منه.كما إن السيطرة اللامحدودة التي بسطتها هذه الأخيرة علي الكرد كانت تتـاتي من نقاط الضعف عينها.لكن هذا التحكم كان يأسرها في نفس الوقت، فحاكميَّتها كانت موجهة علي الدوام، وكانت تفتقر إلي الأيديولوچية الذاتية أوبالأحري كانت تفعَّل ميدانيا قاعدة" الحاكمية كل شيء والأيديولوچيا لاشيء.
كان أسلوب "اهرب يا أرنب ،امسكه يا كلب الصيد" هو الأسلوب الذي اتبعته قوي الهيمنة في تكريس الصراع التركي- الكردي،بحيث كان الأرنب وكلب الصيد سيسقطان منهكين في هذه المطاردة،وسينهمكان في نهاية المطاف بخدمة أربابهما واستثمارها إياها كما تشاء.وما طُبق عليَّ شخصيَا إنما كان يؤكد إتباع هذا الأسلوب.فمواقف المفوضية الأوربية من جهة، وقرارات محمكة حقوق الإنسان الأوربية من الجهة التانية كانت تخدم مزاولة هذه السياسة بكل ما للكلمة من معانٍ.
ومنطق ربط الطرفين بذاتهم بلا حدود هو الذي كان ساريًا.لم يك الهدف من ذلك إحلال العدالة واستباب الحل. لذا فقد بينت مرافعاتي علي فضح هذا المنطق بالأكثر.ذلك أن إجلاس شبكة الغلاديو علي قمة جهاز الدولة بشكل لا نظير له في أي بلد من بلدان ملف الناتو،أمر يستحيل إيضاحه بالنوايا الطيبة ودواعي الأمن، بل كانت القوي المهيمنة قد تغاضت عن امتدادات الغلاديو داخل تركيا، باعتبار يضع زمام الأمور في حوزتها من جهة ويقدم لها فرصة نفيسة للتحكم بالبلد علي مزاجها. ولدي التمحيص في شبكة الغلاديو ككل متكامل عن كثب ، وإماطة اللثام عن فلسفتها ، فسيلاحظ أن الغاية مؤلبة علي بعضها البعض.هذا ويكشف هذا الواقع عن نفسه ضمن امتداداتهم التي في منطقة الشرق الأوسط علي وجه الخصوص من خلال الممارسات المُعاشة بكثافة.لقد كانت هذه الوسيلة الأكثر تأثيرًا للتحكم بشعب ما،حيث يستفزون الشعب ضد الدولة من جانب ،ويحرضون كليهما علي سحق بعضيهما بعضًا من جانب ثانٍ.
كما كانوا يقضون علي من يرونه خطيرًا باتباع الأسلوب عينه.لقد كانت هذه الظاهرة لافتة للانتباه بنحو فاقع في حقيقة الحكم داخل تركيا خلال الأعوام الستين الأخيرة.إذ وكأن البلد قد صُيِّر مختبرًا لتسيير اشتباكات ونزاعات الغلاديو. فالصدامات التي تسبب بها الغلاديو في كافة المراحل المهمة من تاريخ PPK، كانت تفي بمفردها لوضع حد نهائي لعلاقات الصداقة التقليدية المستمرة منذ قرون مديدة بين الدولة وشعوبها.
قيَّمت مرحلة إمرالي كمحفل نموذجي لإفساد هذه اللعبة.فعززت أرضيتي النظرية اللازمة من أجل ذلك.وطورت جميع المقومات الفلسفية والعملية المطلوبة لاستتباب السلام وتوفير شروط الحل السياسي. وركزت علي خصوصية الحل السياسي الديمقراطي. لقد كان بمقدور هذه الأنشطة العصيبة المستلزمة للصبر وسعة الصدر، أن تحطم جدران الدوامات العقيمة للمؤامرة،وتخلق بدائل الحل المرتقب. لم يكن أمامي فذ هذا المضمار سوي الثقة بالنفس.
في الحقيقة كانت نوايا القائمين علي مهامهم في سياق المؤامرة مختلفة. إذ كانوا يتطلعون إلي إنهاء وجود PPK ،وحركة الحرية متجسدا في شخصي.هذا وكانت ممارسات السجن وجميع مواقف محكمة حقوق الإنسان الأوربية والاتحاد الأوربي مرتبطة بهذه الغاية. كان يجري التطلع إلي حركة كردية مصطفاة ومنقاة مني،وكان يُراد خلق نسخة حديثة للتواطؤ التقليدي ، بحيث تكون مخصية ومسخَّرة لخدمة أسيادها . وفعاليات أمريكا والاتحاد الأوربي علي المدي الطويل بشكل خاص كانت تتمحور حول ذلك. وقد كانوا منفتحين علي التحالف مع النخبة التركية الحاكمة بناءً علي هذه الأراضي. باختزال ؛ فنموذج الخَصي هذا الذي نجحت الهيمنة الإنكليزية بوجه خاصٍ في تطبيقه علي حركة الطبقة العاملة ثم علي حركات التحرر الوطني والحركات الثورية والديمقراطية، وقد أحرز النصر مع أسلوب حقوق الإنسان وحرياته الليبرالية ، حيث قاموا بتصفية القيادات والتنظيمات الثورية. وعلي غرار أساليب التصفية التي مارسوها طيلة قرون عديدة ،كان يُطَبَّق أسلوب مشابه علي PPK والحركة الثورية وحركة المساواة والحريات العامة أيضًا.
كانت هذه هي النتيجة الأولية المأمولة من سياق إمرالي ،وهذا هو المخطط المعمول عليه بكثرة ، والمراد تطبيقه بمهارة. وقد كانت الإستراتيچية والتكتيكات تُصاغ مؤَّطرة بهذا المخطط .أما المرافعة التي طوَّرتها مقابل ذلك ، فلم تكن تعتمد علي الموقف الأرثوذكسي الدوغماني التقليدي، ولا علي إنقاذ نفسي وتحسين ظروفي.بل إن طريق الحل السلمي والديمقراطي المشَّرف والمبدئي والمتماشي مع واقع الشعوب التاريخي والاجتماعي هو الذي رسم مرافعتي.