عشْتَارُ الفُصُولِ: 11473 النَّفْسُ مَا بَيْنَ أَفْلَاطُونَ وَسُقْرَاطَ وَقِرَاءَاتِ العَاشِقِ الدِّمَشْقِيِّ رقم 2


اسحق قومي
2024 / 7 / 20 - 21:52     

مُقَدِّمَة
فِي البَحْثِ القَصِيرِ السَّابِقِ الذِي يَعُودُ فِي أُصُولِهِ إِلَى مَجْمُوعَةِ البُحُوثِ التِي تَرَكْتُهَا مَعَ أَكْوَامٍ مِنَ الكِتَابَاتِ الشِّعْرِيَّةِ وَالأَدَبِيَّةِ وَالقَصَصِيَّةِ وَالتَّارِيخِيَّةِ وَالفَلْسَفِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ تِلْكَ التِي بَقِيَتْ فِي بَيْتِنَا زَمَنًا ثُمَّ تَمَّ نَقْلُهَا إِلَى بَيْتِ أُخْتِي نَجَاحٍ فِي قَرْيَةِ أُمِّ غَرْكَانَ وَقَدْ ضَاعَتْ وَفُقِدَتْ هُنَاكَ عِنْدَمَا بَاعَ زَوْجُ أُخْتِي الشَّمَّاسُ أَدَا أَبْدَلَ عَمْدَ بَيْتِهِ وَالأَبْوَابَ وَالشَّبَابِيكَ لِرَجُلٍ مِنْ قَرْيَةِ شَمُوكَا.
وَالذِي حَمَلَ عُنْوَانَ: عِشْتَارُ الفُصُولِ: 11472/النَّفْسُ الإِنسَانِيَّةُ فِي قِرَاءَاتٍ تَحْلِيلِيَّةٍ لِذَاكِرَةِ عَاشِقٍ دِمَشْقِيٍّ بِقَلَمِ إِسْحَقَ قَوْمِي. أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ إِنَّ هَذَا البَحْثَ وَغَيْرَهُ كَانَ مِنْ بَيْنِ البُحُوثِ التِي كُنْتُ قَدْ كَتَبْتُ بِهَا مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ عَامًا وَنَيِّفٍ وَمَا أُعِيدَ كِتَابَتُهُ اليَوْمَ مَا هُوَ إِلَّا اسْتِحْضَارًا لِبَعْضِ تِلْكَ البُحُوثِ وَمَضَامِينِهَا مُسْتَقِينًا بِالتِّقْنِيَّةِ الحَالِيَّةِ مَا اسْتَطَعْتُ إِلَيْهَا سَبِيلًا.
غَايَاتُ البَحْثِ:الغَايَةُ الرَّئِيسُ مِنْ إِعَادَةِ تَشْكِيلِ تِلْكَ البُحُوثِ يَتْبَعُ أَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ:
1. مَدَى عِشْقِنَا وَشَغَفِنَا بِالبُحُوثِ التِي تَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ الإِنْسَانِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ تَخُصُّ مَعْسَكَرَ المِثَالِيِّينَ أَوْ مَعْسَكَرَ المَادِّيِّينَ، أَوْ تِلْكَ الإِرْهَاصَاتِ التِي تَقُودُ إِيَّ مِنَّا لِلتَّفْكِيرِ فِي مَصِيرِهِ الوُجُودِيِّ وَهَلْ عَلَيْنَا أَنْ نُسَلِّمَ بِتِلْكَ الأَفْكَارِ الدِّينِيَّةِ التِي لَيْسَ أَسَاسًا مَادِيًّا مَلْمُوسًا وَالتِي تَتْرُكُ المُتَأَرْجِحَ وَالمُشَكِّكِ فِي حِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ وَهَذَا حَقٌّ مَشْرُوعٌ لِلإِنْسَانِ سِيَمَا إِذَا بَلَغَ عِنْدَهُ التَّفْكِيرُ النَّقْدِيُّ دَرَجَةً عَالِيَةً مِنَ العُلُومِ وَالمَعَارِفِ وَالنَّتَائِجِ الحَتْمِيَّةِ لِلْفِكْرَةِ.
2. كَانَتْ تِلْكَ البُحُوثُ تُشْبِعُ لَدَيَّ عَطَشًا لَسْتُ أَدْرِي مَاذَا كُنْتُ أُسَمِّيهِ آنَذَاكَ لَكِنَّمَا كَانَتْ تَحَدِّيًا أَيْضًا بِنِسْبَةٍ لِي سِيَمَا بَعْدَ أَنْ كُنْتُ أَحُسُّ أَنَّ الدُّكْتُورَ عَادِلُ عَوَّا كَانَ يُبْدِي عَلَى طُرُوحَاتِي فِي الجَوَانِبِ العَقْلِيَّةِ إِيجَابِيَّةً لَمْ تَكُنْ عَبَثِيَّةً وَلَا تَأْتِي مِنْ خَلْفِيَّةٍ مَعْرِفِيَّةٍ بِشَخْصِيَّتِهِ بَلْ كُنْتُ طَالِبًا مُجِدًّا لَدَيْهِ وَلِهَذَا كَانَ التَّعَطُّشُ لِمَعْرِفَةِ النَّفْسِ الإِنْسَانِيَّةِ وَهَدَفِهَا فِي الحَيَاةِ وَمَا هِيَ طَبِيعَتُهَا وَجَوْهَرُهَا وَهَلْ لَهَا وُجُوهٌ مُخْتَلِفَةٌ وَتَأْتِي مِنْ عَوَالِمَ بَعِيدَةٍ وَتَذْهَبُ إِلَيْهَا عِنْدَمَا تَنْفَصِلُ عَنِ البَدَنِ وَلَكِنْ كَانَتْ مُشْكِلَةُ الانْفِصَالِ تُسَبِّبُ لِي حَالَةً إِشْكَالِيَّةً عِنْدَمَا نَقْرَأُ فِي العُلُومِ المَارْكِسِيَّةِ مِنْ أَنَّ الحَيَاةَ تُفَارِقُ الجِسْمَ عِنْدَمَا تَنْتَهِي صَلَاحِيَّةُ الخَلَايَا مِنَ العَمَلِ وَهَذَا كَانَ يَقُودُنِي إِلَى مَجْمُوعَةِ مَحَطَّاتٍ فِكْرِيَّةٍ أَهَمُّهَا.
وَلِئَلَّا نُسْهِبَ فِي المُقَدِّمَةِ فَالغَايَةُ مِنَ البَحْثِ هُوَ مُدَاخَلَتِي المُتَوَاضِعَةُ فِي دَحْضِ مَا قَالَهُ أَفْلَاطُونُ عَنِ النَّفْسِ كَمَا أُبَيِّنُ مَدَى تَأَرْجُحِ أَرِسْطُو فِي بَعْضِ جُزْئِيَّاتِ آرَائِهِ حَوْلَ النَّفْسِ الإِنْسَانِيَّةِ.
وَلِذَا فَإِنَّ نَفْسَ الإِنْسَانِ كَانَتْ وَلَا زَالَتْ مَطْمَعَ كُلِّ عَاشِقٍ لِلتَّعَرُّفِ عَلَيْهَا وَمِنْ أَجْلِهَا، ولَكَوْني أُحاوِلُ بِكُلِّ جِدِّيَّةٍ أَلَّا أُضيفَ على ما كُنْتُ قَدْ كَتَبْتُهُ في هذا الجانِبِ ولا أَدَّعي بِأَنَّني أَسْتَحْضِرُ كُلَّ تِلْكَ الكَمِّيَّاتِ مِمَّا كَتَبْتُها عَنِ النَّفْسِ. لِهَذا أَنا في حِلٍّ مِنْ أَمْرٍ يَقودُني لتقسيمِ البَحْثِ إلى مَحَطَّاتٍ. أَوْ أَنْ أُلَخِّصَ أَفْكارَ الفَيْلَسُوفَيْنِ وَأُبَيِّنَ نِقاطَ الاتِّفاقِ وَالاختِلافِ بَيْنَهُما.
وبهذا فَأَنا أَرى أَنَّني لا أَكْتُبُ وَأُعيدُ كِتابَةَ البَحْثِ بِأُسْلوبِ التَّهيِئَةِ مِنْ أَجْلِ كِتابٍ حَتَّى نَتْبَعَ الجانِبَ المِهَنِيَّ في كِتابَةِ الأَبْحاثِ ولا في المُقارَنَةِ الضَّرورِيَّةِ الَّتِي سَتَأْتِي في سِياقِ تَقْدِيمِي الدَّائِمِ لِفِكْرِ كِلَيْهِما ولكن أَوَدُّ أَنْ أَرْسَخَ في هذه المُقَدِّمَةِ البَسِيطَةِ أَنَّني أُحافِظُ على الأَمانَةِ التَّارِيخِيَّةِ فيما كَتَبْتُهُ قَبْلَ عَشَراتِ السِّنينِ حَوْلَ الفِكْرِ الفَلْسَفِيِّ اليُونانِيِّ الَّذِي أَجِدُ أَنَّهُ رَغْمَ غِناهُ وَرَغْمَ أَنَّهُ يُمَثِّلُ الأَساسَ الَّذِي تُبْنى عَلَيْهِ جَمِيعُ الوِلاداتِ الفَلْسَفِيَّةِ إِلَّا أَنَّني وَجَدْتُ هُناكَ مَواضِعَ أَشُكُّ أَنَّها تَقِفُ أَمامَ ما أَذْهَبُ إِلَيْهِ مِنْ استِنْتاجٍ وَاسْتِقْراءٍ وَحَتَّى في مَفْهومِ المَنْطِقِ الأَرِسْطُوطالِيّ.
وبَقِيَ أَنْ أُوضِحَ أَمْرًا وَهُوَ أَنَّ أُسْلُوبِي سَيَكُونُ إِلَى حَدٍّ ما يَعْتَمِدُ السَّرْدَ وَتَقْدِيمَ المَعْلُومَةِ وَمُناقَشَتَها قَدْر المُسْتَطاعِ وَلِتَكُونَ قَرِيبَةً مِنْ واقِعِ الأَبْحاثِ الَّتِي كَتَبْتُها سابِقًا وَتُناسِبَ العامَّةَ وَالخاصَّةَ فَهذهِ هي غايتُنا ووجهتي .وَعَلَيْنا أَنْ نَذْهَبَ الآنَ إِلَى رِحابِ ما نَكْتُبُهُ في هذا الجانِبِ المُتَعَلِّقِ بِوُجُهاتٍ خِلافِيَّةٍ ما بَيْنَ أَفْلاطونَ وَأَرِسْطو أَوَّلًا وَما بَيْنِي وَبَيْنَ أَفْلاطونَ وَأَرِسْطو ثانيًا. وَالبِدايَةُ تَتَضَمَّنُ النِّهايَةَ المَأْساوِيَّةَ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ المَعارِفِ المُتَعَلِّقَةِ بِالرُّوحِ أَوْ النَّفْسِ رَغْمَ أَنِّي مُعْجَبٌ بِما تُقَدِّمُهُ المَسِيحِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِتَفْرِيقِها بَيْنَ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ فَإِنَّني سَأَمْضِي إِلَى ما قالَهُ الفَيْلَسُوفُ اليُونانِيُّ أَفْلاطونَ عَن (خُلُودِ النَّفْسِ، وَأَنَّها كانَتْ في عالَمِ المُثُلِ وَنَزَلَتْ مِنْ هُناكَ نَتِيجَةَ حالَةٍ عِقابِيَّةٍ؟) وَقَد سَأَلْناهُ يَوْمَها وَحاكَيْناهُ عَن تِلْكَ المُثُلِ العُلْيا وَأَعْطَنا أَدِلَّةً ظَنَنّا بِأَنَّها كافِيَةٌ لِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ تِلْكَ المَعارِفِ الفَلْسَفِيَّةِ الَّتِي يَقولُ بِها أَفْلاطونُ وَرُبَّما وافَقْناهُ عَلى جُزْئِيَّاتٍ مِنْها لأَنَّها تُتَمَثِّلُ عَوالِمَ تَرْتَبِطُ بِتَفْكِيرِنا الدِّينِيِّ حينًا وَالَّتِي تُماهي حَقيقَةَ عَذاباتِ الواقِعِ حينًا آخَر.
وَلَكِنْ عِنْدَما يَسْتَيْقِظُ العَقْلُ وَيَنْبَرِي لِمَوْضوعِ نَظَرِيَّةِ المُثُلِ العُلْيا عِنْدَ أَفْلاطونَ فَهُوَ إِنَّما يُؤَكِّدُ عَقْلُنا عَلى عَدَمِ تَقْدِيمِ مَنْهَجِيَّةٍ عِلْمِيَّةٍ لِتِلْكَ المَعارِفِ وَيَرْفُضُ حالًا التَّسْلِيمَ بِقَولِ أَفْلاطونَ كَما تَفْتَقِرُ مُرافَعَةً لِلنَّتائِجِ العِلْمِيَّةِ إِذا ما وَضَعْنا ما يَقولُهُ في سِياقِ التَّجْرِبَةِ الحِسِّيَّةِ وَالنَّتائِجِ البُرْهانِيَّةِ عَلَيْها. وَمَعَ هذا فَنَحْنُ اليَوْمَ لا نُريدُ أَنْ نُعيدَ مَضْمونَ البَحْثِ السابِقِ بِجُزْئِيَّاتِه فَهذهِ استِحالَةٌ وَلَكِنْ نُؤَكِّدُ عَلى أَنَّ كُلَّ الفَلاسِفَةِ أَوْ أَغْلَبَهُمْ أَنْتَهى بِهِمُ الأَمْرُ إِلَى التَّخَلِّي عَنْ جُزْءٍ كَبيرٍ مِنْ مَنظومَتِهِمُ الفَلْسَفِيَّةِ الَّتِي قالُوا بِها بَعْدَ أَنْ تَأَكَّدَ لَهُمْ بِقُصورٍ في مُكَوِّناتِها وَعَدَمِ قُدْرَتِها عَلى الثَّباتِ في وَجْهِ العُلومِ التَّجْريدِيَّةِ وَالتَّجْريبِيَّةِ.
كَمَا وَنُؤَكِّدُ عَلى أَنَّهُ لا يُمْكِنُ لَنا مِنْ أَنْ نَتَوَصَّلَ إِلَى فَهْمٍ حَقيقِيٍّ لِمَوْضوعِ نَظَرِيَّةِ أَفْلاطونَ (المُثُلِ العُلْيا). إِلَّا حينَ نَقْرَأُ بَعْضًا مِنْ مُشاكَسَةِ تِلْمِيذِهِ أَرِسْطو وَنَكْتَشِفَ مَدى الخِلافِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَأَحَدُهُما يَعْتَمِدُ الشَّكْلَ الشاقولِيَّ لِلْمَعْرِفَةِ وَالآخَرُ الشَّكْلَ العامُودِيَّ وَلِهَذا تَعالَوْا نُشْرِكْ مَعَنا الفَيْلَسُوفَ أَرِسْطو صاحِبَ التَّفْكِيرِ الأَكْثَرِ مَنْطِقِيَّةً بِرَأْيِي فيما قالَهُ أَفْلاطونُ بِالنِّسْبَةِ لِمَوْضوعِ المُثُلِ العُلْيا وَمِنْ هُنا يَتَبَادَرُ لِذِهْنِنا السُّؤالُ التَّالِي:
كَيْفَ رَأى كُلٌّ مِنْ أَفْلاطونَ وَأَرِسْطو النَّفْسَ؟
هَلِ التَّفْكيرُ المَنْطِقِيُّ عِنْدَ أَرِسْطو قادَهُ إِلَى أَهَمِّيَّةِ المُلاحَظَةِ وَالتَّجْرِبَةِ كَطَرِيقٍ لِلْوُصولِ إِلَى المَبادِئِ المُطْلَقَةِ لِلْوُجُودِ؟
لِمَاذَا يُعْتَبَرُ أَرِسْطُو أَنَّ الرُّوحَ لَيْسَتْ كِيَانًا مُسْتَقِلًّا عَنْ الجَسَدِ؟ رَغْمَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الرُّوحَ أَوِ النَّفْسَ حَيَاةَ الجِسْمِ، وَهُوَ هُنا عَلَى عَكْسِ أَفْلاطُونَ. فَإِذَا مَاتَ الجِسْمُ عِندَ أَرِسْطُو تَمُوتُ الرُّوحُ. وَيُعْتَبَرُ الرُّوحُ بِأَنَّها هِيَ الكَمَالُ الأَعْلَى لِقُوًى الجِسْمِ. وَهِيَ عِندَهُ مُقَابِلٌ لِمَبْدَإٍ حَيَوِيٍّ مُلازِمٍ لِلجِسْمِ يَبْعَثُ الحَيَاةَ فِي الكَائِنَاتِ، مِنَ النَّبَاتَاتِ وُصُولًا إِلَى الإِنْسَانِ. وَهَكَذَا فَهُوَ يُمَيِّزُ بَيْنَ ثَلاثَةٍ أَصْنَافٍ مِنَ الرُّوحِ: الأُولَى الرُّوحُ النَّبَاتِيَّةُ وَلَهَا خَاصِيَّةُ النُّمُوِّ وَالتَّكَاثُرِ وَتَوَلُّدِ الشَّبِيهِ حَسَبَ النَّوْعِ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ النَّبَاتِ وَالحَيَوَانِ وَالإِنْسَانِ. وَأَمَّا الرُّوحُ الثَّانِيَةُ أَوِ النَّوْعُ الثَّانِي لِلرُّوحِ عِندَ أَرِسْطُو فَهِيَ تِلْكَ الَّتِي لَهَا مَلَكَاتُ الحَوَاسِّ كَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ وَقَدْ سَمَّاهَا الرُّوحُ الحَيَوَانِيَّةَ لِأَنَّها خَاصَّةٌ بِالحَيَوَاناتِ. أَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنَ الرُّوحِ تِلْكَ الَّتِي تَمْلِكُ العَقْلَ وَسَمَّاهَا الرُّوحَ العَاقِلَةَ، وَلَهَا قُدُرَاتٌ لَا تُوجَدُ عِنْدَ النَّوْعَيْنِ السَّابِقَيْنِ فَهِيَ نَاطِقَةٌ وَتُفَكِّرُ وَلَهَا قُدْرَةٌ عَلَى الاِحْتِفَاظِ بِالخِبْرَاتِ وَخَاصِيَّتُهَا الذَّكَاءُ وَلَهَا قُدُرَاتٌ تُجْرِي مِنْ خِلَالِهَا عَمَلِيَّاتِ التَّأَمُّلِ وَالاِسْتِقْرَاءِ وَالاِسْتِنْتَاجِ وَالتَّحْلِيلِ وَالوَصْفِ. وَهَذِهِ الخَاصِيَّةُ لَا تُوجَدُ إِلَّا عِنْدَ الإِنْسَانِ الحَيَوَانِ الاِجْتِمَاعِيِّ النَّاطِقِ. وَلِنَعُدْ إِلَى مَوْضُوعٍ هَامٍّ وَالسُّؤَالِ الأَهَمِّ يَقُولُ: لِمَاذَا رَفَضَ أَرِسْطُو نَظَرِيَّةَ المُثُلِ العُلْيَا عِندَ أَفْلاطُونَ وَيَنْتَقِدُهَا؟ يَرَى صَاحِبُنَا بِأَنَّ عَالَمَ المُثُلِ مَجْمُوعَةٌ مِنْ أَفْكَارٍ مِثَالِيَّةٍ وَبِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْنِيٍّ بِعَوَالِمَ لَا يَلْمِسُهَا وَلَا يُحِسُّ بِهَا وَتَفْكِيرُهُ يَتَمَيَّزُ عَنْ أَفْلاطُونَ بِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَنْطِقِيَّةً وَيَقُومُ عَلَى عَمَلِيَّاتٍ عِدَّةٍ مِنْهَا التَّحْلِيلُ لِلْوَاقِعِ المَادِّيِّ الَّذِي نَسْتَطِيعُ أَنْ نَلْمِسَهُ وَأَدَوَاتُ أَرِسْطُو فِي ذَلِكَ هِيَ المُلاحَظَةُ وَالتَّجْرِبَةُ وَهُمَا عَنَاصِرُ مُتَوَفِّرَةٌ عِنْدَ الإِنْسَانِ العَاقِلِ وَلَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ يَبْتَعِدَ كَثِيرًا فَهِيَ مَلَكَاتٌ ذَاتِيَّةٌ وَتَنْتَمِيَانِ إِلَى النَّزْعَةِ الواقِعِيَّةِ الَّتِي تَبْدَأُ مِنَ اللَّمْسِ وَرُبَّمَا أَدَّتْ إِلَى أَنْ نَنْطَلِقَ عَبْرَ عَمَلِيَّةِ التَّخَيُّلِ إِلَى حَيْثُ المَبادِئِ المُطْلَقَةِ لِلْوُجُودِ. وَنَرَى فِي نَقْدِهِ لِنَظَرِيَّةِ المُثُلِ عِنْدَ أَفْلاطُونَ بِقَوْلِهِ أَنَّ أَفْلاطُونَ لَا يُرِيدُ الدِّرَاسَةَ العِلْمِيَّةَ لِلطَّبِيعَةِ وَالْوَاقِعِ كَمَا أَنَّ أَرِسْطُو هُنا يُمَيِّزُ بَيْنَ المَجَالِ العَقْلانِيِّ لِلنَّظَرِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلنِّطَاقِ العَمَلِيِّ لِلْفِعْلِ الأَخْلاقِيِّ وَيُقَدِّمُ مُرافَقَةً أَكْثَرَ فِي كِتَابِهِ الأَخْلَاقِ حَيْثُ يُؤَكِّدُ وَيَرَى مِنَ الضَّرُورِيِّ أَنْ نَتَجَاوَزَ نَظَرِيَّةَ أَفْلاطُونَ فِي المُثُلِ العُلْيَا وَيَبْتَعِدُ كَثِيرًا فِي كِتَابِهِ المِيتَافِيزِيقَا حَيْثُ يَقُولُ عَنْ نَظَرِيَّةِ المُثُلِ العُلْيَا عِنْدَ أَفْلاطُونَ مُتَنَاقِضَةً وَخَاطِئَةً وَيَرْدِفُ قَائِلًا لِيَتَهَرَّبَ مِنِ استِحْقَاقِ الرَّأْيِ النَّافِذِ بِقَوْلِهِ قَدْ لَا نَكُونُ بِحَاجَةٍ إِلَيْهَا وَهُنَا أَرَى أَنَّ أَرِسْطُو يُسْقِطُ نِصْفَ حَقِّهِ فِي المُرافَقَةِ فِي تَثْبِيتِ رَأْيِهِ حَوْلَ مَا قَالَهُ أَفْلاطُونُ فِي مَوْضُوعِ أَنَّ الرُّوحَ بِأَنَّها جَاءَتْنَا مِنْ عَالَمِ المُثُلِ العُلْيَا. وَيُشْبِهُ فِي حَالَةِ تَأَرُّجِهِ كَمَا ذَاكَ السَّكِيرُ وَهُوَ عَلَى حَافَاتِ جُرْفٍ عَالٍ. وَإِذَا مَا فَكَّرْنَا بِأَنَّ المُمَاحَكَاتِ بَيْنَ أَفْلاطُونَ وَأَرِسْطُو تَنْطَلِقُ مِنْ قَضَايَا شَخْصِيَّةٍ فَفَذَا قَوْلٌ يُبْعِدُنَا عَنْ الحَقِيقَةِ لَكِنَّنِي مَعَ أَرِسْطُو حَيْثُ يَقِفُ مَوْقِفًا وَاضِحًا بِشَأْنِ العَلاقَةِ بَيْنَ المَحْسُوسِ وَالمَعْقُولِ لِأَنَّ أَفْلاطُونَ يَقَعُ فِي حِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ حِينَ يَقُولُ بِتَقْسِيمِهِ وَفَصْلِهِ بَيْنَ عَالَمَيْنِ (الواقِعِ وَالمُثُلِ العُلْيَا). فِي دِرَاسَتِنَا لِرَأْيِ أَفْلاطُونَ نَجِدُ استِحَالَةَ البَحْثِ عَنِ الوَحْدَةِ بَيْنَهُمَا. كَمَا أَنَّ أَفْلاطُونَ يَفْتَقِرُ إِلَى تَقْدِيمِ مُرافَقَةٍ تَقُومُ عَلَى المَنْهَجِ العِلْمِيِّ فَلَا يُوجَدُ طَرِيقَةٌ عِلْمِيَّةٌ نَسْتَدِلُّ مِنْ خِلَالِهَا عَلَى مَعْرِفَةٍ حَقِيقِيَّةٍ لِمَا يَقُولُهُ بِشَأْنِ المُثُلِ العُلْيَا. بَيْنَمَا المَعْرِفَةُ عِنْدَ أَرِسْطُو هِيَ الواقِعُ نَفْسُهُ تِلْكَ المَعْرِفَةُ الَّتِي تَهْدِفُ إِلَى الوَصْفِ وَتَصْنِيفِ الظَّواهِرِ إِلَى أَجْنَاسٍ وَأَنْوَاعٍ وَبِهَذا تَرَانِي أَمِيلُ لِلْوُقُوفِ مَعَ أَرِسْطُو حَيْثُ واقِعِيَّتُهُ تَجْرِيبِيَّةٌ تَتَجَلَّى فِي الإِنْسَانِ (جِنْسًا وَنَوْعًا). وَهُنَا عَلَى نَقِيدٍ مِنَ المُثُلِ الأَفْلاطُونِيَّةِ وَغَرَضُ المَعْرِفَةِ عِنْدَ أَفْلاطُونَ مِعْيَارِيٌّ. وَأَذْهَبُ بَعِيدًا لَا بَلْ أُشَارِكُ أَرِسْطُو الرَّأْيَ وَالشَّكَّ وَالتَّوَجُّسَ حَوْلَ مَوْضُوعِ عَلاقَةِ المُثُلِ العُلْيَا (الرُّوحِ) بِالمَحْسُوسِ (الجَسَدِ). إِنَّنِي أَرى تَناقُضًا صَارِخًا فِي مَا قَالَهُ أَفْلاطُونُ حَوْلَ عَالَمِ المُثُلِ العُلْيَا الَّذِي لَمْ يُحَدِّدْ مَكَانَ بَعْدِهِ إِلَّا أَنَّهُ بَعِيدٌ، وَلا يُشْبِهُ واقِعَنَا. فَكَيْفَ تَتَّفِقُ عَنَاصِرُ وُجُودِهِ مَعَ عَنَاصِرِ وُجُودِ الواقِعِ المَلْمُوسِ فِي عَالَمِنَا؟ هُنَا السُّؤَالُ الَّذِي نَقُولُهُ لِكُلٍّ مِنْ أَفْلاطُونَ أَوَّلًا وَإِلَى أَرِسْطُو الَّذِي تَرَكَ المَوْضُوعَ مُشْرَعًا لِلِاحْتِمَالَاتِ ثَانِيًا. هَلْ نَحْنُ أَمَامَ مُقارَنَةٍ بِتَقْدِيمِ شَوَاهِدَ لِكَيْ نَصِلَ إِلَى نَتَائِجَ إِيجَابِيَّةٍ وَنَكُونَ حُكَّامًا مُخْلِصِينَ وَفَاعِلِينَ لِهَدَفٍ مَا نَرْمِي إِلَيْهِ؟ إِنِّي أَرى أَنَّ المَعْرِفَةَ الفَلْسَفِيَّةَ وَالْوُجُودِيَّةَ لِمَوْضُوعِ المُثُلِ العُلْيَا تَشُوبُهَا حَالاتٌ مِنَ الصَّحْوَةِ وَالصَّفَاءِ وَالرَّجَاحَةِ حِينًا وَلَكِنَّهَا غَيْرُ كَافِيَةٍ فِي تَقْدِيمِ قِرَاءَةٍ فِلْسَفِيَّةٍ قَادِرَةٍ عَلَى الصُّمُودِ عِندَ أَفْلاطُونَ. كَمَا أَنَّ أَرِسْطُو نَرَاهُ يَتَأَرْجَحُ فِي نَتَائِجِهِ النِّهَائِيَّةِ.
وَلِكَيْ لَا نَسْتَغْرِقَ فِي هَذِهِ الجُزْئِيَّةِ أَقُولُ: مَاذَا تُقَدِّمُ لَنَا نَظَرِيَّةُ المُثُلِ العُلْيَا الأَفْلاطُونِيَّةُ مِنْ خِدْمَاتٍ نَسْتَفِيدُ مِنْهَا إِلَّا اللَّـهُمَّ تِلْكَ الَّتِي تَجْعَلُنَا نَعِيشُ عَالَمًا لَا يُمْكِنُ الوُصُولَ إِلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ قِيمَةٌ إِلَّا أَنَّهُ يَبْقَى بَعِيدًا عَنْ إِدْرَاكِنَا الحَسِّيِّ وَواقِعِنَا الَّذِي تَتَكَوَّنُ عُنَاصِرُهُ مِنَ المَحْسُوسِيَّاتِ وَالمُدْرَكَاتِ وَلَيْسَتْ تِلْكَ العَنَاصِرُ بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ نَرْبُطَهَا بِعَالَمٍ مِثَالِيٍّ حَتَّى تَزْدَادَ قِيمَتُهَا وَفَعَالِيَّتُهَا كَمَا أَنَّنِي أَرَى أَنَّ قِيمَهَا تَتَحَدَّدُ مِنْ خِلَالِ الجَوْهَرِ الخَاصِّ بِكُلٍّ مِنْهَا. وَهُنَا أَتَّفِقُ مَعَ أَرِسْطُو القَائِلِ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ العَالَمِ الَّذِي نَعِيشُ بِهِ هِيَ الأُولَى لِكُونِنَا نَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ نَعِيشَهُ وَنَسْتَهْلِكَهُ مَعْرِفِيًّا بِحَسَبِ رَأْيِ نَظَرِيَّةِ المَعْرِفَةِ أَوِ الإِبِسْتِيمُولُوجِيَا تِلْكَ الَّتِي تَقُومُ عَلَى دِرَاسَةٍ نَقْدِيَّةٍ لِمَبَادِئِ العُلُومِ وَفُرُوعِهَا وَنَتَائِجِهَا بِغَرَضِ تَحْدِيدِ أَصْلِهَا المَنْطِقِيِّ وَبَيَانِ قِيمَتِهَا وَحَصِيلَتِهَا المَوْضُوعِيَّةِ.
وَبِهَذِهِ المَنَاهِجِ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَدْخُلَ طَرِيقَ المُلاحَظَةِ وَالتَّجْرِبَةِ وَالَّتِي مِنْ خِلَالِهَا نَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ العِلَّةِ وَالمَعْلُولِ. وَعَلَيْنَا أَنْ نُمَيِّزَ بَيْنَ العِلَّةِ الشَّكْلِيَّةِ وَالْوُجُودِ الخَاصِّ بِالشَّيْءِ وَمُنْتَجَاتِهِ، وَلِمَاذَا وُجِدَ أَصْلًا وَمَا هِيَ غَايَةُ ذَاكَ الوُجُودِ.
وَلِئَلَّا نُطِيلَ وَنَتَوَقَّفَ عِنْدَ مَحَطَّاتٍ مُهِمَّةٍ فِي بَحْثِنَا هَـٰذَا وَالحَقِيقَةُ نَرَى أَنَّ هُنَاكَ خِلَافًا وَاضِحًا وَجَلِيًّا بَيْنَ أَفْلاطُونَ وَأَرِسْطُو حَوْلَ مُفْهُومِ وَنَظَرِيَّةِ المُثُلِ العُلْيَا الَّتِي طَرَحَهَا أَفْلاطُونُ.
وَقَبْلَ الدُّخُولِ فِي مُرَافَعَاتٍ قَدَّمَهَا أَرِسْطُو حَوْلَ مَوْضُوعِ المُثُلِ لَابُدَّ لَنَا مِنْ القَوْلِ فِي قِرَاءَةٍ عَاجِلَةٍ لِمَوْضُوعِ المَعْرِفَةِ عِنْدَ كِلَا الفَيْلُسُوفَيْنِ، فَالمَعْرِفَةُ عَنْ أَفْلاطُونَ تَأْخُذُ شَكْلَ الهَرَمِ أَوِ المُثَلَّثِ المُتَسَاوِيِ السَّاقَيْنِ بَيْنَمَا عَنْ أَرِسْطُو فَهِيَ أُفُقِيَّةٌ. وَهُنَا السُّؤَالُ يُقِيدُنَا: لِمَاذَا اسْتَخْدَمْنَا كَلِمَةَ هَرَمٍ فِي تَكْوِينِ المَعْرِفَةِ عِندَ أَفْلاطُونَ بَيْنَمَا اسْتَخْدَمْنَا كَلِمَةَ أُفُقِيَّةٍ عَنْ أَرِسْطُو؟
الجوَابُ السَّرِيعُ وَالأَكْثَرُ عَمَلِيَّةً هُوَ أَنَّ أَفْلاطُونَ يَنْحُو نَحْوَ عَوَالِمَ بَعِيدَةٍ نَرْمُزُ لَهَا بِالعُلُوِّ بَيْنَمَا أَرِسْطُو يَعْتَمِدُ عَلَى الواقِعِ الَّذِي نَعِيشُهُ فَهُوَ أَكْثَرُ حَسِّيَّةً.
وَمَوْضُوعُ نَظَرِيَّةِ المَعْرِفَةِ لَوْحْدَهُ يُشَكِّلُ بَحْثًا مُسْتَقِلًّا لَكِنَّنَا لَنْ نُوْغِلَ فِيهِ أَكْثَرَ، إِنَّمَا نَتَعَرَّضُ لَهُ بِقَوْلِ أَرِسْطُو أَنَّ إدْرَاكَ مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ المُجَرَّدِ وَالمَعْقُولِ يَبْدَأُ بِالحَوَاسِ وَيَمُرُّ عَبْرَ عَمَلِيَّةِ التَّخَيُّلِ فَيَسْتَقِرُ فِي العَقْلِ. وَبِهَذَا نَعُودُ لِمَوْضُوعٍ كَتَبْتُهُ أَثْنَاءَ بَحْثِ التَّخَرُّجِ مِنْ جَامِعَةِ دِمَشْقَ، كُلِّيَّةِ الآدَابِ قِسْمِ الفَلْسَفَةِ وَالدِّرَاسَاتِ الاجْتِمَاعِيَّةِ، وَكَانَ عُنْوَانُ ذَلِكَ البَحْثِ "عَنْ المَعْرِفَةِ وَكَيْفَ تَتَشَكَّلُ بَيْنَ الفَيْلُسُوفِينَ الحَسِّيِّينَ وَالفَيْلُسُوفِينَ المُثَالِيِّينَ"، وَلَكِنَّنِي أُضِيفُ الآنَ حَوْلَ مَوْضُوعِ العَقْلِ عِندَ الطِّفْلِ لَيْسَ صَفْحَةً بَيْضَاءَ كَمَا يُقَالُ بَلْ هَـٰذَا يَتَنَاقَضُ بِرَأْيِي مَعَ المُخْزُونِ الوِرَاثِيِّ الَّذِي حَمَلَهُ الجَنِينُ وَالطِّفْلُ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الأَبَوَيْنِ مُبَاشَرَةً أَوْ مِنْ سَبْعَةِ أَجْيَالٍ لِكُلٍّ مِنَ الأَبِ وَالأُمِّ أَيْضًا. فَالعَقْلُ يَحْمِلُ مَآثِرَ الوِرَاثَةِ وَالْبِيئَةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ لِكِلَا الأَبَوَيْنِ، وَلِذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَقْلُ الطِّفْلِ خَالِيًا مِنَ الخِبْرَاتِ وَالمَعَارِفِ، وَلَكِنَّنَا نُؤَكِّدُ عَلَى حَالَتِهَا الكُمُونِيَّةِ وَأَنَّهَا مَعَارِفُ بِالقُوَّةِ كَمَا أَنَّ الخَشَبَ عِندَ أَرِسْطُو نَارٌ بِالقُوَّةِ، وَلِذَلِكَ فَمَا أَنْ يَبْدَأَ الطِّفْلُ بِمُحَاكَاةِ الواقِعِ وَبُلُوغِهِ مَرْحَلَةَ النَّقْدِ فَإِنَّهُ يُبْدِي حَالَةً نَشِطَةً مِنَ الزَّخَمِ المَعْرِفِيِّ. وَبِهَذَا فَأَنَا مَعَ أَرِسْطُو فِي قَوْلِهِ: أَنَّ العَقْلَ الفَعَّالَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ واقِعًا مَلْمُوسًا مَعَ فَضَاءَاتِ الحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ حَتَّى نَنْتَقِلَ مِنَ القُوَّةِ إِلَى الفِعْلِ، وَيَعْنِي أَنَّ الواقِعَ كَانَ قُوَّةً بِالفِعْلِ وَإِدْرَاكُهُ يُمَثِّلُ مَرْحَلَةً مُهِمَّةً مِنَ المَعْرِفَةِ وَخَاصِيَّةً لِعَمَلِيَّةِ التَّمَثُّلِ وَالتَّأَقْلُمِ فِي استِيعَابِ ذَاكَ الواقِعِ.
وَنَخْلِصُ إِلَى الخِلَافِ بَيْنَ أَرِسْطُو وَأَفْلاطُونَ مِنْ حَيْثُ نَظَرِيَّةُ المَعْرِفَةِ وَهِيَ أَنَّ أَفْلاطُونَ يُؤَكِّدُ عَلَى أَنَّ العِلْمَ يَتَشَكَّلُ بِطَرِيقَةٍ رِيَاضِيَّةٍ بَيْنَمَا أَرِسْطُو يَعْتَمِدُ عَلَى المَنْطِقِ الَّذِي هُوَ جَوْهَرُ العِلْمِ وَخَاصِيَّتُهُ.
وَلِهَـٰذَا يُمْكِنُ أَنْ نَتَذَكَّرَ أَنَّ أَرِسْطُو قَدَّمَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَثَلاَثُونَ اعْتِرَاضًا عَلَى نَظَرِيَّةِ المَثَلِ عِندَ أَفْلاطُونَ وَكَيْ لَا نَقَعَ فِي مَتَاهَاتِ التَّخَصُّصِ وَأَعْنِي أَنْ يُفْهَمَ مَا أَقُولُهُ العَامَّةُ وَالخَاصَّةُ لَا أُرِيدُ أَنْ أَدْخُلَ إِلَى تِلْكَ الاعْتِرَاضَاتِ إِلَّا بِشَفَافِيَّةٍ كَيْ أُحَافِظَ عَلَى مَا أَهْدِفُ إِلَيْهِ.
وَهُوَ أَنَّ القَلِيلَ مِنَ القَارِئِينَ لِلْفَلْسَفَةِ وَالعَاشِقِينَ دُرُوبَهَا لَهُمْ قِرَاءَاتُهُمْ الَّتِي لَا تَعْتَمِدُ عَلَى التَّقْلِيدِ بَلْ هُمْ كَمَا تُوما الرَّسُولُ يُرِيدُونَ المُحَسُّوسَ قَبْلَ البَعِيدِ وَإِن كَانَ البَعِيدُ مُعَزِّيًا رُوحِيًّا إِلَّا أَنَّهُ يَبْقَى شَبَهَ خُدْعَةٍ وُجُودِيَّةً يَتَحَمَّلُ وَزْرَهَا مَنْ أَطْلَقَهَا وَمَنْ يُعْتَقِدُ بِهَا.
وَهُنَا لَا أُرِيدُ أَنْ أَدْخُلَ لِعَالَمِ الدِّيَانَاتِ لِأَنَّنِي لَا أُرِيدُ الخَوْضَ فِي ذَلِكَ وَحَتَّى أُحَافِظَ عَلَى جُمْهُورِ أولئك المُتَمَسِّكِينَ بِنَظْرَةِ المُثُاليات الَّتِي أَعْتَقِدُ أَنَّهَا سَتَسْقُطُ قَرِيبًا أَمَامَ دَافِعَةِ التَّقْنِيَّةِ وَالتَّطَوُّرِ الهَائِلِ فِي المُخْتَرَعَاتِ وَسَتَبْقَى مُجَرَّدَ أَمَاكِنَ أَثَرِيَّةً يُزُورُهَا مَنْ يُرِيدُ زِيَارَتَهَا. وَبَعْدَ هذا عَلَيْنَا أَنْ نَسْأَلَ.
مَاذَا قَدَّمَ أَرِسْطُو مِنْ مُرَافَعَاتٍ ضِدَّ نَظَرِيَّةِ المُثُلِ الأَفْلاطُونِيَّةِ؟
مَا يُهِمُّنَا مِنْ كُلِّ مَا قَدَّمَهُ هُوَ مَوْضُوعُ القَضَايَا. وَالقَضِيَّةُ لَدَى أَرِسْطُو جَوْهَرٌ وَمَحْمُولٌ وَالجَوْهَرُ لَهُ خَاصِيَّةُ الثَّبَاتِ وَأَمَّا المَحْمُولُ فَهُوَ مُتَغَيِّرٌ. وَهُنَاكَ قَضَايَا مُوجِبَةٌ وَتَكُونُ مُرَكَّبَةً وَمُكَوَّنَةً مِنَ المَوْضُوعِ وَالمَحْمُولِ وَالحُكْمِ وَأَيَّةُ قَضِيَّةٍ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالحُكْمِ. وَهُنَاكَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ لِلْقَضَايَا، فَهُنَاكَ قَضَايَا (التَّقَابُلِ وَالتَّنَاقُضِ وَالتَّضَادِ وَالتَّدَاخُلِ). كَمَا أَنَّ أَرِسْطُو يَسْأَلُ بِقَوْلِهِ: مَاذَا تُضِيفُ المُثُلُ لِلْأَشْيَاءِ المُحَسُّوسَةِ؟ وَيَرَى أَنَّهَا لَا تُضِيفُ لَا مَعْرِفَةً وَلَا وُجُودًا لَهَا. وَيَعْتَبِرُ أَنَّ نَمَاذِجَ الأَشْيَاءِ مُرَكَّبَةٌ وَجَوْهَرُ الشَّيْءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ. كَمَا يَرَى أَرِسْطُو أَنَّ الكِيْنُونَةَ مُوجُودَةٌ فِي العَالَمِ الحَقِيقِيِّ، وَلَهَا وُجُودُهَا المُسْتَقِلُّ بِذَاتِهَا، خِلَافًا لِأَفْلاطُونَ الَّذِي يَقُولُ أَنَّ الكِيْنُونَةَ مُوجُودَةٌ فِي عَالَمِ الأفْكَارِ.
وَقَبْلَ أَنْ نَأْتِيَ لِخِتَامِ هذا البَحْثِ نَرَى أَنْ نُقَدِّمَ مَا قَالَهُ أَرِسْطُو حَوْلَ هَدَفِ الفَلْسَفَةِ هُوَ المَعْرِفَةُ وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُ أَفْلاطُونُ بِالأَخْلَاقِ السِّيَاسِيَّةِ. وَبِهَذَا فَالْجَدَلِيَّةُ عَنْ أَفْلاطُونَ هِيَ العِلْمُ الأَسْمَى بَيْنَمَا عِندَ أَرِسْطُو يَعْتَقِدُ أَنَّ جَمِيعَ المَعَارِفِ تَتَسَاوَى فِي أَهَمِّيَّتِهَا وَاسْتِقْلاَلِهَا.
فِي النِّهَايَةِ نُؤَكِّدُ عَلَى أَنَّنَا لَا زِلْنَا فِي المَرْبَعِ الأوَّلِ مِنَ المُحَاوَرَةِ بَيْنَ أَفْلاطُونَ وَتِلْمِيذِهِ أَرِسْطُو حَوْلَ مَوْضُوعِ النَّفْسِ الَّذِي كَانَ مَوْضُوعَ اهْتِمَامِ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ عَبْرَ التَّارِيخِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِرَأْيِي الشَّخْصِيِّ فَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي عِدَّةِ مَحَطَّاتٍ مَرَّتْ مَعَنَا وَهُوَ أَنَّنِي أَتَحَفَّظُ عَلَى الرُّؤْيَةِ بِشَأْنِ عَالَمِ المَثَلِ كَمَا لَا أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ رَأْيِي مَطْبًّا فِي مَسِيرَةِ أَفْكَارِي بَلْ أُؤَكِّدُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ المَوَاضِيعَ مَكَانًا لِخِلَافَاتِ الرَّأْيِ.
لَا زِلْتُ لَمْ أَشْعُرْ بِأَنَّنِي أَوْفَيْتُ البَحْثَ دِرَاسَةً وَلَكِنَّنَا سَنَأْتِي عَلَى العَدِيدِ مِنَ الدِّرَاسَاتِ حَوْلَ النَّفْسِ حَتَّى عِندَ سَيْغْمُوند فْرُوِيدٍ وَهَيْجَلَ الَّذِي يُعْجِبُنِي بِتَشْخِيصَاتِهِ العِلْمِيَّةِ وَالْمَنْطِقِيَّةِ أَكْثَرَ حِينَ يَقُولُ: إِذَا كَانَ المَنْطِقُ هُوَ دِرَاسَةٌ لِلْحَيَاةِ البَاطِنَةِ لِلْعَقْلِ أَوْ مَلَكُوتِ الفِكْرِ وهذا المَلَكُوتُ هُوَ حَقِيقَةٌ فَإِنَّ فَلْسَفَةَ الرُّوحِ هِيَ دِرَاسَةٌ لِلْأَشْكَالِ الَّتِي يَتَجَلَّى بِهَا الرُّوحُ فِي التَّارِيخِ وَيَمُوضِعُ قُوَاهُ وَيُعْلِنُ ذَاتَهُ...
وَلِلْبَحْثِ اسْتِكْمَالٌ مُتَعَدِّدُ الجَوَانِبِ.
اسْحَق قومِي 20/7/2024م. شتاتلون . ألمانيا.