حديث عن تغييب العقل وغياب الوعي
فهد المضحكي
2024 / 7 / 20 - 11:30
إن أخطر معضلة تعاني منها مجتمعتنا العربية هي عملية تغييب العقل بعملية ممنهجة وموجهة. يقول الكاتب السوداني أحمد سالم شيخ العلهي: «فبتغييب العقل يغيب الإدراك والوعي ويصبح الإنسان مسخًا ومتلقيًا ومتمرسًا بعصبية وغلو لما تم تلقينه، فاقدًا للغة الحوار والنقاش والتحليل المنطقي. وبهذا المنهج الخطير، منهج تغييب العقل والسيطرة عليه، يصبح الناس كالقطيع فاقد الإرادة والحكمة».
حين ناقش الكاتب والناقد الأردني موفق ملكاوي إشكالية تغييب العقل وانحدار الفكر، أبرز ما توصل إليه هو، ليس هناك مجتمع متقدم بطبعه، أو بوعيه الجمعي، فالتقدم، برأيه، يتأتي من تأثير أفراد قليلين يمارسون حراكًا معينًا، مستهدفين بنياته التقليدية في محاولة للهدم والبناء من جديد.
وإبان حديثه عن هذه المسؤولية تجاه البناء والتقدم، فإن نجاح أولئك الأفراد سيظل مرهونًا على الدوام بمدى قابلية المجتمعات على التواصل مع الأفكار الجديدة، ومدى انخراطها في بحث وجدل إيجابيين، حتى لو تم رفض تلك الأفكار، بعينها. في النهاية، إنما المهم هو تكوين استعداد للمناقشة من دون اتخاذ مواقف مبدئية رافضة للأفكار الجديدة.
ولكن إن ما يحدث في المجتمعات التي تعتقد أنها أنجزت مشروعها وأنه ليس عليها أن تنخرط في سياق فكري جديد لتطوير ذاتها وموقعها الأممي، هو أنها تغلف نفسها بـ«أفكار غير قابلة للدحض»، مستمدة من التراث مقولات تضفي عليها القداسة، سواء لجهة تقديس النص التراثي غير السماوي أو الأشخاص غير المقدسيين في الأصل، وتتخذ وضعية المقاوم لكل ما يمكن أن يأتي به أي مفكر أو باحث رصين.
هذه المجتمعات تنقاد بواسطة ثيوقراطيات «قديمة متجددة، استندت إلى سلطة احتكار تفسير النص الديني والتراث، وسلطة أخرى لا تقل أهمية عنها، وهي سلطة الفرز بين المكونات المختلفة انطلاقًا من المفهوم الديني المتشعب، بحيث بات على عاتقها وحدها مهمة إفراد صفات» الفرقة الناجية «بالمفهوم المتجذر في كثير من الأديان، خصوصًا في الثقافة الإسلامية التي لا تتورع فيها الفرق المختلفة من تراشق التكفير، ولكل يتمسك بما أهدته إليه سلطته الدينية، من غير أن يسمح بمناقشة أفكار الآخرين بانفتاح، أو يسمح لنفسه بالانتماء إلى الثقافة نفسها لمن أطلق عليه صفة الاختلاف وجعله آخر».
في هذه المجتمعات يتحدد الإنجاز بـ«الخطاب» لا بالعمل، وتصبح «الإحيائية» طريقًا إلى صناعة وهم المستقبل، والتدثر بالمنجز الماضوي حاجة أساسية لتغطية عرى التخلف المعاش، لتحيا المجتمعات، وبالتالي، حالة فصام حقيقي عن سياقات الحاضر، وتنقاد مخدرة إلى مزيد من التخلف والانفصام والانغماس بالماضي الذي يمنحها مخدرًا زائفًا تستعيض به عن عجزها في مجاراة ما هو حاصل لدى المجتمعات الأخرى.
في هذه المقدمة القصيرة تتحدد بوضوح «سيكولوجية التخلف» في مجتمعات ترفض أن تغادر متردماتها بعد أن تحول رجال الدين فيها إلى طبقة تمنح الغفران وشهادات الإيمان والكفر، معيدة إلى البال حالة أوروبا خلال الحقبة الأولى للقرون الوسطى، والتي سميت بـ«الحقبة المظلمة». ولو دققنا في سبب التسمية لرأينا أنها توصيف موضوعي لانحدار مستوى التفكير وتغييب العقل، ولتحكم الغيبيات بجميع مناحي الحياة، ما أدى إلى حروب دينية طاحنة داخل الديانات نفسها، لم يكن فيها غالب أو مغلوب.
يقول ملكاوي، لو تصفحنا قائمة «النجوم» على مواقع التواصل الاجتماعي لوجدنا المعنى الحقيقي لـ«سلطة احتكار تفسير النص الديني»؛ فمئات الشيوخ الجدد يحاولون التأطير لمجتمعات منفصلة عن الواقع، وغير مطلوب منها البحث أو العلم أو العمل، فما دام منهجها الديني قويمًا فالمجتمع بذاته الخيرة، سوف يتقدم وينتصر، حتى لو كان عبارة عن مجموعة من الجاهلين والأميين واللاجئين المشردين في قارات العالم جميعها.
ما سبق ذكره يقودنا إلى حديث أو بالأحرى إلى وجهة نظر الشاعر والأديب والناقد اليمني د. عبدالعزيز مقالح عن تداعيات تغييب الوعي.
يقول مقالح: لم ينجح العرب في شيء، نجحنا في تغييب الوعي، ولن أبالغ وأقول تغييب العقل، والواقع بتفاصيله الصغيرة والكبيرة شاهد على وعي المواطن العربي الذي هو أنا وأنت وهو.
و تشير وجهة النظر هذه التي نُشرت بموقع «Khabaragency» قبل عدة سنوات، إلى أن هذا التغييب وراء كل ما حدث ويحدث لنا جميعًا، وفي الوقت ذاته هو الذي أوصلنا إلى وضع يصعب تقييمه. وضع أمة كل أبنائها يعانون حالة من الانفصال أو الانفصام بينهم وبين الواقع الذي يعيشونه، ولا هم لهم سوى مناقشة القشور وإطالة الوقوف أمام الأمور السطحية والتافهة التي لا تستحق أن ينشغل بها مواطن يريد لنفسه ولوطنه أن يخرج من مستنقع التخلف، ليكون جزءًا من العالم الذي يتحرك ويسجل كل يوم علامة جديدة من علامات النهوض العلمي والفكري والثقافي.
ويستطيع المراقب من خارج الحالة العربية أن يدرك أن العرب دون استثناء يشغلون أنفسهم ويبددون وقتهم في قضايا لا تنفع الإنسان ولا تسهم في تغيير جزء من حياته المعيشية والاجتماعية. والمشكلة الأكبر أن سلطات هذه الأمة المغيبة ومفكريها ومثقفيها هم من يصنعون هذه الحالة من التغييب وهم يمارسون ذلك بل رضا وارتياح لأنهم ضحايا التغييب وفقدان الوعي، ولو لم يكن الأمر كذلك لما ساد الصمت وسيطرت حالات اللامبالاة والتبلد ولما اتسعت دائرة الحروب والخلافات التي تؤدي بدورها إلى إعادة إنتاج الحروب وإلى ما هو أمرّ وأقسى: الفرقة والتفتت.
وكما يقول، وقد سبق لبعضنا - وما زال ذلك هو دأب البعض - تحميل الاستعمار الأجنبي كل الشرور والويلات التي نعاني منها، وقد يكون في ذلك بعض الحق لكن الحقيقة تقول أن المسؤولية الكبرى نتحملها نحن، فقد دخل الاحتلال إلى شعوب كثيرة وحاول إفساد حياتها وتدمير اقتصادها وتفتيت نسيجها الوطني من خلال إحياء النعرات الطائفية والمناطقية وغيرها من الأمراض إلا أن تلك الشعوب قاومت مخططاته وتمكنت بالوعي العالي والشعور الوطني الصادق أن تتجاوز العوائق وأن تبنى نفسها في أقل وقت من الزمن، مع أن بعضها بدأ من الصفر، وبعض هذه الشعوب نجحت في التفوق على مستعمريها صناعيًا واقتصاديًا، في حين بقينا نحن نتجرع الأوهام ونحمل أسباب تخلفنا على الآخرين دون أن نتمكن من إنجاز الخطوة الأولى على طريق تجاوز ذلك المعيق الخطير.
لقد لعب تغييب الوعي في حياتنا مترافقًا مع فقدان الأحساس بالمسؤولية الوطنية، والتاريخية دورُا بالغ السوء، وكان سببًا في كل ما جرى ويجري في هذا الجزء (اليمن) من الوطن العربي وفي بقية الأجزاء. وكان ذلك التغييب وضعف الأحساس بالمسؤولية شاملاً لم يقتصر على منحى واحد من مناحي الحياة، ويمكن لنا توضيح ذلك على النحو التالي:
- تغييب الوعي بالانتماء الوطني.
- تغييب الوعي بمخاطر التخلف.
- تغييب الوعي بأهمية التعايش
- تغييب الوعي بمخاطر التدخلات الأجنبية.
- تغييب الوعي بأهمية التعليم الحديث.
- تغييب الوعي بأهمية العمل والإنتاج كطريق للتنمية المستدامة.
والسؤال المهم الذي يطرحه هو: هل آن الأوان لكي نستيقظ أفرادًا وشعوبًا من الغيبوبة والتغييب؟ سؤال تحتاج الإجابة عليه بخطوات عملية لا بالكلام.
في كتابه «اغتيال العقل.. محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية» تحدث المفكر برهان غليون عن تلك الإشكالية قائلاً: «ينبغي ألا نفهم فهمًا جامدًا تجريديًا ونجعل منها جوهرًا ثابتًا أزليًا لا يتغير بعكس حقائق أو عبقريات جغرافية أو تاريخية أو اجتماعية أو بيئية أو عرقية كما هو سائد في بعض الدراسات المنشورة في الشرق وفي الغرب وحتى داخل هذه المسألة لا بد من التمييز بين مسائل فرعية عديدة يجب عدم الخلط فيما بينها، منها مسألة التراث أو الإرث الثقافي العربي، ومسألة الهوية والذاتية والجماعية التي تطرح مشاكل عديدة اليوم على الشعوب التابعة، والمسألة الدينية التي تتعلق أساسًا بمطالب روحية وميتافيزيقية خاصة المسألة المعرفية المتعلقة بإنتاج المعرفة وضبطها وتوزيعها وتعميمها».
ما يقصده غليون بـ«اغتيال العقل» - وفق تفسير الكاتب بجريدة «اليوم السابع» المصرية أحمد إبراهيم الشريف - هو قتل العقل بسبب الصراع بين دعاة التحديث ودعاة الأصالة، ما يجعل الحرب الفكرية بينهم تأخذ شكلاً انفعاليًا عدوانيًا، وتفقد العقل والأخلاق وتغليب منفعة الأمة والوطن، وبهذا يضللون الجماهير، ويستغلهم بعض الساسة في إحداث حالة من التوازن بين القوى وفي إشغال بعضهم ببعض.
حدد «غليون» محنة الثقافة العربية في أن الفكر العربي والعقل العربي واقع بين دواعي السلفية ودواعي التبعية وغياب دواعي النهضة والتقدم، رغم أنهم يرفعون مثل هذا الشعار، وعلاقة العرب بثقافتهم علاقة معقدة وكثيرة التفاصيل والتشعب ومتناقضة أي تارة تؤخذ وتارة تترك على حساب مقتضبات الفكر السائد أو الغالب أو النافع مثل أن تجد من يتحدث عن مفاهيم الإسلام بإطار سلفي، ثم يتحول إلى الإطار الحداثي، فيتكلم عن الوسطية وقبول الآخر واحترام الخصوصيات.