من أجل ثقافة جماهيرية بديلة - خطوط أولية لنقد الاقتصاد السياسي - فريدريك إنجلس5


عبدالرحيم قروي
2024 / 7 / 15 - 04:50     

خطوط أولية لنقد الاقتصاد السياسي
فريدريك إنجلس5

يزعم مالتوس، مؤسس هذا المذهب - نظرية السكان - أن السكان يضغطون دائماً على وسائل العيش، وأن عدد السكان يتزايد بقدر ما يتزايد الإنتاج، وأن الميل الملازم للسكان إلى التكاثر أكثر من وسائل العيش الموجودة تحت تصرفهم هو سبب الفقر كله، والعيوب كلها. لأنه حيث يوجد عدد من السكان أكثر من اللزوم، تعين إقصاؤهم بنحو أو آخر: إما يجب تمويتهم بالعنف، وإما يجب أن يموتوا جوعاً. وما أن يحدث هذا، حتى تتشكل من جديد ثغرة تمتلئ في الحال من جديد بفضل تكاثر السكان الباقين، ويحل الفقر السابق من جديد. وهكذا يحدث، حسب زعمه، وفي جميع الظروف، لا في الحالة الحضارية وحسب، بل أيضاً في الحالة الطبيعية. إن متوحشي هولندا الجديدة* حيث يوجد إنسان واحد بكل ميل مربع، يعانون من فيض السكان بقدر من الشدة كما في إنجلترا. خلاصة القول، إذا شئنا أن نكون منسجمين، تعين علينا أن نعترف بأن الأرض كانت فائضة السكان حتى عندما لم يكن يوجد سوى إنسان واحد. ومن هذه المحاكمة ينجم استنتاج مفاده ما يلي: بما أن الفقراء على وجه الضبط هم الفائضون، فلا يتعين فعل أي شيء من أجلهم عدا تسهيل موتهم جوعاً قدر الإمكان، وإقناعهم بأنه يستحيل تغيير أي شيء في هذا الصدد، وبأن الخلاص الوحيد لأجل طبقتهم يتلخص في التكاثر أقل ما يمكن؛ وإذا لم يسفر هذا عن أية نتيجة، تعين على الأقل، إنشاء مؤسسات حكومية لأجل إماتة أولاد الفقراء بلا ألم، كما اقترح ""ماركوس""، علماً بأنه يجب أن يكون نصيب كل عائلة عمالية ولدين ونصف ولد وأنه يجب إماتة الأولاد الزائدين عن هذه النسبة بلا ألم. يعتبر منح الصدقات جريمة، لأن هذا يعزز فيض السكان! وبالمقابل يعتبر من المفيد جداً إعلان الفقر جريمة وتحويل البيوت لأجل الفقراء إلى مؤسسات قمعية كما فعل ذلك في إنجلترا قانون الفقراء ""الليبرالي"" الجديد. صحيح أن هذه النظرية تتطابق بصورة سيئة جداً مع تعاليم الكتاب المقدس بصدد كمال الرب وخلقه، ولكنه ""سيء ذلك الدحض الذي يواجه الكتاب المقدس بالوقائع!"".
فهل يتعين عليّ أن أعرض بمزيد من التفصيل هذا المذهب الخسيس، السافل، هذا التجديف الكريه على الطبيعة البشرية، وأن أتتبع استنتاجاته اللاحقة؟ أخيراً، تبرز هنا أمامنا لاأخلاقية الاقتصادي في أرفع أشكالها. ماذا تعني جميع حروب وويلات نظام الاحتكار بالمقارنة مع هذه النظرية؟ والواقع أنها بالذات حجر الزاوية في نظام حرية التجارة الليبرالي، الحجر الذي لا بد أن ينهار الصرح كله إذا ما سقط. لأنه ما دام قد أقيم البرهان على أن المزاحمة هي هنا السبب الأول للفقر والبؤس والإجرام، فمن ذا الذي يتجاسر، والحالة هذه، أن يقول كلمة في الدفاع عنها؟
إن أليسون قد زعزع في المؤلف المذكور أعلاه نظرية مالتوس باستشهاده بالقوة المنتجة الملازمة للأرض، وبمعارضة مبدأ مالتوس رواقع أن كل امرئ راشد يستطيع أن ينتج أكثر مما يستهلك، - هذا الواقع الذي بدونه ما كانت البشرية تكاثرت، وحتى، فضلاً عن ذلك – ما كانت تواجدت، وإلا، بمَ كان من الممكن أن يعيش الجيل الناشئ؟ ولكن أليسون لا يتسرب إلى كنه الأمور، ويتوصل بالتالي في آخر المطاف، إلى نفس النتيجة التي توصل إليها مالتوس. صحيح أنه يبرهن عدم صحة مبدأ مالتوس، ولكنه عاجز عن دحض الوقائع التي ساقت مالتوس إلى مبدئه.
ولو أن مالتوس لم ينظر إلى القضية بنحو أحادي الجانب، لكان رأى، بلا مناص، أن فيض السكان أو فيض قوة العمل يرتبط دائماً بفيض الثروة، وفيض الرأسمال، وفيض الملكية العقارية. ولا يكون عدد السكان مفرطاً في الكبر إلا حيث القوة المنتجة مفرطة في الكبر عموماً. وهذا ما تبينه بوضوح ما بعده وضوح حالة كل بلد فائض السكان، وبخاصة إنجلترا، منذ أن كتب مالتوس. هكذا كانت تلك الوقائع التي كان يجب على مالتوس أن يدرسها بمجملها والتي كان لا بد لدراستها أن تؤدي إلى استنتاج صحيح، وعوضاً عن هذا، تمسك بواقع واحد، وترك الوقائع الأخرى جانباً، ولهذا خلص إلى استنتاج جنوني. وتلخص الخطأ الثاني الذي اقترفه في الخلط بين وسائل العيش ووسائل الشغل. إما أن السكان يضغطون دائماً على وسائل الشغل، وأن عدداً معيناً من الناس يمكن توفير شغل له، وأن العدد نفسه منهم يجري إنتاجه، - خلاصة القول إن إنتاج قوة العمل قد ضبطها حتى الآن قانون المزاحة، وأنه تعرض بالتالي هو أيضاً للأزمات والتذبذبات الدورية – فإن هذا واقع يعود الفضل في إثباته إلى مالتوس. ولكن وسائل الشغل ليست وسائل العيش. ففي حال ازدياد قوة الآلات ونمو الرأسمال، لا تتزايد وسائل الشغل إلا كنتيجة أخيرة. أما وسائل العيش، فإنها تتزايد في الحال ما إن تزداد القوة المنتجة نوعاً ما على العموم. وهنا يبرز تناقض جديد في الاقتصاد السياسي. فإن الطلب كما يفهمه الاقتصادي، ليس الطلب الفعلي، والاستهلاك، كما يفهمه، استهلاك مصطنع. إن الممثل الفعلي للطلب، المستهلك الفعلي، ليس بنظر الاقتصادي إلا ذاك الذي يستطيع أن يعرض معادلاً لما يحصل عليه. ولكن إذا كان من الواقع أن كل امرئ راشد ينتج أكثر مما يستطيع أن يستهلكه، وأن الأولاد مثل الأشجار التي تعيد النفقات عليها بفيض وعلاوة – وكل هذا من الواقع – فإنه ينبغي الظن أنه كان لا بد لكل عامل أن تتوفر له إمكانية إنتاج كمية أكبر بكثير من الكمية التي يحتاج إليها، وأنه كان لا بد للمجتمع بالتالي أن يزوده بطيبة خاطر بكل ما يلزم؛ كان ينبغي الظن أنه يجب أن تكون العائلة الكبيرة بالنسبة للمجتمع هدية مرغوب فيها شديد الرغبة. ولكن الاقتصادي لا يعرف، بحكم غلاظة مفاهيمه، أي معادل غير ما يُدفع نقوداً رنانة محسوسة. وهو مقيد في متضاداته بدرجة من الشدة بحيث إن الوقائع الدامغة للغاية قلما تقلقه مثلها في ذلك مثل المبادئ العلمية للغاية.
نحن نقضي على التناقض بمجرد أننا نلغيه. وحين تتمازج المصالح المتضادة حالياً، يزول التضاد بين فيض السكان في جهة وفيض الثروة في الجهة الأخرى، يزول ذلك الواقع المدهش، المدهش أكثر من جميع عجائب جميع الأديان مأخوذة معاً، وهو أنه لا بد للأمة أن تموت جوعاً بسبب الثروة والوفرة، على وجه الضبط؛ يزول الزعم الجنوني القائل إن الأرض عاجزة عن إطعام الناس. إن هذا الزعم هو أسمى آيات الحكمة في الاقتصاد السياسي المسيحي؛ أما أن اقتصادنا السياسي هو مسيحي من حيث الجوهر، ففي وسعي أن أبرهن هذا في كل موضوعة، في كل مقولة – وسأفعل هذا في حينه. إن نظرية مالتوس ليست سوى التعبير الاقتصادي عن العقيدة الدينية بصدد التناقض بين الروح والطبيعة وبصدد فساد الاثنتين النابع من هنا. وبطلان هذا التناقض الذي كشف من زمان في ميدان الدين ومعه، قد بينته كذلك، كما آمل، نظرية مالتوس بأنه كفؤ طالما لم يوضح لي، انطلاقاً من مبدئها بالذات، بأي نحو يمكن أن يموت الشعب جوعاً – بسبب الوفرة على وجه الضبط – وطالما لم يجعل الاقتصادي هذا التوضيح متطابقاً مع العقل والوقائع.
ولكن نظرية مالتوس كانت عاملاً انتقالياً ضرورياً بالتأكيد، دفعنا إلى الأمام إلى ما لا نهاية. فبواسطتها، كما على العموم بواسطة الاقتصاد السياسي، شرعنا نهتم بالقوة المنتجة للأرض البشرية. وبعد التغلب على هذا النظام الاقتصادي لليأس، ضمنّا أنفسنا إلى الأبد دون الخوف من فيض السكان. ومن نظرية مالتوس، نستمد أقوى الحجج الاقتصادية في صالح التحويل الاجتماعي، لأنه حتى لو كان مالتوس على حق بالتأكيد، لكان من الضروري مع ذلك الشروع حالاً في هذا التحويل، لأنه وحده دون غيره، لأن تنوير الجماهير المحقق بفضل هذا التحويل، من شأنهما وحدهما دون غيرهما أن يجعلا من الممكن أيضاً الحد المعنوي من غريزة التكاثر، الذي يعتبره مالتوس نفسه أسهل وسيلة ضد فيض السكان وأكثر الوسائل فعالية. وبواسطة هذه النظرية صرنا نفهم خارق إذلال البشرية، وتبعيتها لظروف المزاحمة؛ وقد بينت لنا هذه النظرية كيف حولت الملكية الخاصة الإنسان في آخر المطاف إلى بضاعة إنتاجها وإبادتها لا يتوقفان هما أيضاً إلا على الطلب؛ وكيف قتل نظام المزاحمة من جراء ذلك ويقتل يومياً ملايين الناس. وكل هذا رأيناه، وكل هذا يحفزنا على وضع حد لإذلال البشرية هذا عن طريق القضاء على الملكية الخاصة والمزاحمة وتضاد المصالح.
ولكن لنرجع مرة أخرى إلى النسبة بين القوة المنتجة والسكان لكي نبين إلى أي حد يخلو الخوف الواسع الانتشار من فيض السكان من دون أي مبرر كان. فإن نظام مالتوس يقوم كله على الحساب التالي. إن عدد السكان ينمو، كما يزعم مالتوس، بمتوالية هندسية: 1+2+ 4+ 8+ 16+ 32 وإلخ: وإن القوة المنتجة للأرض تنمو بمتوالية حسابية: 1+ 2+ 3+ 4+ 5+ 6+. الفرق جلي، مرعب؛ ولكن هل هو صحيح؟ أين أقيم البرهان على أن القوة المنتجة للأرض تنمو بمتوالية حسابية؟ لنفترض أن مساحة الأرض المحروثة محدودة. إن قوة العمل المبذولة في هذه المساحة تنمو مع نمو السكان، وحتى لنفترض أن مقدار الغلة ليس دائماً يزداد مع ازدياد نفقة العمل بنفس القدر الذي يزداد به العمل؛ وفي هذه الحالة يبقى عنصر ثالث ليس له، بالطبع، أية أهمية بنظر الاقتصادي، هو العلم؛ والحال أن تقدمه لا نهاية له، ويجري، على الأقل، بنفس السرعة التي يجري بها نمو السكان، وبأي نجاحات تدين الزراعة في هذا القرن للكيمياء وحدها، وحتى لشخصين فقط، هما السير همفري ديفي ويوستوس ليبيخ؟ ولكن العلم ينمو، على القل، بالسرعة التي ينمو بها السكان. ينمو السكان بنسبة عدد أفراد الجيل الأخير، ويتحرك العلم إلى الأمام بنسبة كتلة المعارف التي ورثها من الجيل السابق، ولذا ينمو العلم هو أيضاً، في الظروف العادية تماماً، بمتوالية هندسية. وما هو المستحيل على العلم؟ ولكن من المضحك التحدث عن فيض السكان ما دام ""يوجد في وادي المسيسيبي من الأراضي غير المحروثة ما يكفي لأجل نقل كل سكان أوروبا إليه""، ما دام من الممكن على العموم اعتبار الثلث فقط من الأرض محروثاً، وما دام من الممكن زيادة منتوج هذا الثلث من الأرض إلى ستة أضعاف وأكثر، وذلك عن طريق تطبيق الأساليب المحسّنة المعروفة حالياً لحراثة الأرض، وعن طريقها فقط.
يتبع