الكريبكائية المكية وأصحاب القرية


طلعت خيري
2024 / 7 / 14 - 10:23     

قلنا في المقالة السابقة ان أمثال الدوغمائية - الكريبكائية ، التي ضربها الله على المعارضين للدعوة القرآنية ، أكدت على استحالة التغير العقائدي للمجتمع المكي ، فاخبر الله محمد ما معناها ، لا تتعب نفسك ، وسواء عليهم أأنذرتهم ، أم لم تنذرهم فهم لا يؤمنون ، لكن محمد استمر في محولاته الدعوية ، لعل ذلك ان يأتي بنتيجة ايجابية ، طالبا من الله توسيع الحوار، فضرب له مثلا تاريخيا على أصحاب القرية ، المثل له أبعاد كثيرة منها ، أولا - الكريبكائية القروية المكية لن تستجيب لدعوتك ، ثانيا - الكريبكائية القروية المكية ستنتهي قريبا بعد الانتقال الى المدينة ، ثالثا - الاستفادة الجغرافية من المؤمنين من خارج مكة ، رابعا - لا فائدة من الحوار مع الكريبكائية المكية ، واضرب لهم مثلا أصحاب القرية اذ جاءها المرسلون ، ليس رسول واحد ، إنما عدد من المرسلين

وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ{13}

من خلال مثل أصحاب القرية ، أراد الله إيصال فكرة لمحمد مفادها ، ان الكريبكائية المكية لا تختلف عن كريبكائية أصحاب القرية ، فلا تستغرب من تكذيب أهل مكة لدعوتك ، فأصحاب القرية كذبوا ثلاثة رسل ، اذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما ، فعززنا بثالث ، فقالوا أنا إليكم مرسلون

إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ{14}

طمس الدين السياسي والميثولوجيا في مكة بشرية بعثة الرسل ، لتكذيب أي دعوة رسول من جنس البشر، فلم يبقى فيها من دعوات رسل أهل الكتاب ، والكتب المنزلة ، غير اسم الله الشكلي ، فالعقيدة السياسية ،ادلجة المجتمع المكي على جيو ثقافية - كريبكائية ، رافضة لأي بعثة جديدة تخالف محيط الاعتقاد ، أو تتعارض مع المصالح السياسية والاقتصادية للميثولوجيا والدين السياسي ، فالمجتمع المكي لن يرغب بأي رسول إلا من جنس الملائكة ، وفقا لعقيدته الملائكة بنات الله ، وكذلك ميثولوجيا ابن الله ، لن ترغب إلا بإنسان يحمل صفات اله له دور مع الله ، فلما بعث الله الرسل الى أهل القرية كذبوهم ، وقالوا ما انتم إلا بشر مثلنا ، وما انزل الرحمن من شيء ، وما انزل الرحمن ، أي لم يجعل الرحمن البشرية منازل للرسل ، فقالوا وما انزل الرحمن من شيء ، انتم إلا تكذبون ، قالوا ربنا يعلم أنا إليكم لمرسلون ، وما علينا إلا البلاغ المبين

قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ{15} قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ{16} وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ{17}

غالبا ما يصادف دعوات الرسل ، اختلال معيشي أو اقتصادي ، أو انحباس مطري ، أو ظرف استثنائي له تأثير على المجتمع بشكل عام ، فينسب المكذبون ذلك الاختلال الى سخط الآلهة عليهم ، بسبب دعوات الرسل ، وكرد فعل سياسي أطلق المكذبون عبارة التشاؤم على دعوات الرسل ، لمنع المجتمع من الانجرار وراء التغير العقائدي ، فالتشاؤم معتقد وثني يؤمن بتأثير بعض الأشياء على مفاصل الحياة ، حسب اعتقادهم ، ان وجود الرسل في القرية ، جاء إليهم بالشؤم ، قالوا إنا تطيرنا بكم ، تطيرنا ، تشاؤمنا بكم ، ان لم تنتهوا عن تسفيه آلهتنا ، لنرجمنكم قتل بالرجم ، وليمسنكم منا عذاب اليم ، رد الرسل عليهم ، قالوا طائركم معكم ، شؤمكم معكم وفيكم ، مجرد ان ذكرناكم بالله ، علقتم شؤمكم بنا ، بل انتم قوم مسرفون

قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ{18} قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ{19}

كذب أصحاب القرية الرسل الثلاثة ، رافضين التغير العقائدي جملة وتفصيلا ، وتزامنا مع التكذيب ، جاء الى القرية رجل من أقصى المدينة يسعى لمكاسب معيشية ، ولما سمع بمقاطعة أهل القرية للرسل ، قال يا قوم اتبعوا المرسلين ، فالحدث التاريخي لأهل القرية ، يضع فارقا فكريا وعقليا ، ما بين كريبكائية المجتمع القروي ، وانفتاح المجتمع المدني ، في إشارة توحي لمحمد ان مستقبل الدعوة ليس في مكة ، إنما في المدينة ، لأنها أكثر انفتاحا ، وفي إشارة أخرى تدعو الى التفاعل مع مؤمنين المدن من خارج مكة ، لأن ذلك سيجعل لهم دورا مستقبليا في استقبال المهاجرين من بطش واضطهاد الكريبكائية المكية ، وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ، قال يا قوم اتبعوا المرسلين ،اتبعوا من لا يسألكم أجرا ، لا يسألكم اجر ، لا يريد منكم مالا ، ولا أجرا معنويا وهم مهتدون


وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ{20} اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ{21}

أفصح رجل المدينة عن إيمانه بالله واليوم الأخر ، لحث أصحاب القرية على إتباع الرسل ، موضحا لهم أهم مرتكزات الإيمان بالله واليوم الأخر ، في دعوة أخروية خالية من الشرك بالله ، ومن الشفاعة الدنيوية لشركائهم مع الله قائلا ، وما لي لا اعبد الذي فطرني، واليه ترجعون ، أاتخذ من دونه آلهة ان يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ، ولا ينقذون ، إني إذن لفي ضلال مبين ، إني أمنت بربكم فاسمعون

وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ{22} أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ{23} إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ{24} إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ{25}

وضح رجل المدينة لأصحاب القرية ، تفاصيل الإيمان بالله واليوم الأخر، التي تستند على عبادة الله وحده ، وعدم الإشراك به ، مبطلا مضار ونفعية الآلهة التي يعبدونها من دون الله ، وشفاعتهن من الأخطار ، ليستبعد عقائديا دورهن في جلب الخير والشر للإنسان ، في دعوة أخروية ، منجية من النار، وموصلة الى الجنة ، قيل ادخل الجنة ، قال يا ليت قومي يعلمون ، قاعدة الإيمان بالله واليوم الأخر، مكفرة للذنوب والخطايا ، بما غفر لي ربي ، وجعلني من المكرمين

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ{26} بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ{27}

محاولات الرسل الثلاثة ورجل المدينة باءت بالفشل ، لان الدوغمائية - الكريبكائية القروية ، حالت بينهم وبين الإيمان بالله واليوم الآخر، فالقرية لم تحتاج الى زخم من جند السماء للقضاء عليها ، مجرد زجرة واحدة من الله ، أنهى وجودها ، ولكي يؤكد الله لمحمد ان الكريبكائية المكية ستنتهي كنهاية أصحاب القرية قال ، وما أنزلنا على قومه ، أي على قوم رجل المدنية ، أصحاب القرية ، من بعده ، من بعد ما تولى عنهم ، جند من السماء ، وما كنا منزلين ، لا يستوجب ان ننزل بهم فاجعة من تدخل السماء ، ان كانت إلا صيحة واحدة ، الصيحة ، هو الرعب والخوف والصراخ من الموت السريع والمفاجئ للوباء ، فإذا هم خامدون ، يا حسرة على العباد، ما يأتيهم من رسول ، إلا كانوا به يستهزئون

وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ{28} إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ{29} يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون{30}