52 عامًا على اغتيال الأديب غسان كنفاني
فهد المضحكي
2024 / 7 / 13 - 12:28
غسان كنفاني من أشهر الكتاب والصحفيين العرب في القرن العشرين، «غسان كنفاني»، ابن عكا، والذي ظل عاشقًا لوطن تمت سرقته بفعل أخطر و«أقبح» مؤامرة في التاريخ الإنساني.. وطن قال عنه: «جدير بأن يحمل َ المرءُ السلاح ويموت في سبيله».. وهو السارد الفلسطيني لقضية «أرض البرتقال الحزين».
ما ذكرناه مقدمة لمقال كتبه فتحي خطاب تحت عنوان «غسان كنفاني».. مبدع فلسطيني في صورة «لواء فكري مسلح» نُشر على موقع «الغد».
بعد إنفجار عبوة ناسفة، وضعها الموساد، في سيارته حين كان برفقة إبنة شقيقته «لميس نجم» وعمرها 17 عامًا. تناثرت أشلاء المناضل كنفاني مع الصغيرة لميس، وهي التي كانت أقرب إلى قلبه، حيث كان يكتب لها القصص ويهديها إياها في مناسباتها الجميلة.
وفي ذات المقال، يذكر خطاب، عقب إغتيال كنفاني علقت رئيسة وزراء إسرائيل وقتئذ، غولدا مائير، العملية قائلة: «اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح. فغسان بقلمه كان يشكل خطرًا على إسرائيل أكثر مما يشكله ألف فدائي مسلح»، وهي التي أصدرت قرارًا في ذات العام بتصفية عدد من أعلام الفلسطينيين وقياداتهم.
كان «غسان» المولود عام 1936 مسكونًا بالهاجس الفلسطيني، وقد عاش المأساة الفلسطينية وحمل جراح شعبه وآلامه وهمومه اليومية في أعماق قلبه وسكبها في قوالب فنية جميلة وأصيلة جاءت تجسيدًا صادقًا لواقع البؤس والشقاء والحرمان والظلم والقهر الاجتماعي الذي يعيشه الفلسطيني المشرد والمطارد في المخيمات الفلسطينية وفي جميع أصقاع العالم.. لقد عاش الأرض والوطن الفلسطيني، بسهولة وهضابه ووديانه وبرتقاله وزيتونه ورمانه ومدنه الثابته، ولذلك أحبته الجماهير الشعبية الفلسطينية وحظى بتقدير رفاقه وشعبه وتياراته السياسية واتجاهاته الفكرية.
حين كان مولده مع إنطلاقة شرارة ثورة 1936 في مدينة يافا ضد قوات الانتداب البريطاني، كأنه على موعد مع القضية الفلسطينية في بدايتها، ومن أول يوم في حياته، ليظل طفلًا شغوفًا بوصف المعارك التي خاضها أبطال ثورة 1936 وتحصنهم بالجبال كما لو كان أحد شهودها، وظهر بعض أبطالها في إبداعاته فيما بعد، وحتى استشهاده في ريعان الشباب،في الثامن من يوليو عام 1972 في بيروت بانفجار سيارة مفخخة على أيدي عملاء إسرائيليين.
غسان كنفاني، الروائي والأديب والصحفي، قدَّم صورة جلية للمناضل الفلسطيني العاشق، ليس لأسوار عكا ودروب حيفا ويافا فقط، بل العاشق لتاريخ وجغرافية فلسطين، حيث كانت مؤامرة الاحتلال «كارثة بلا بديل».. معترفًا بجرح صبي (12 عامًا) نزح مع عائلته قسرًا من عكا شمال فلسطين، في عام النكبة العربية الكبرى 1948، وأجبر على اللجؤ مع عائلته في بادئ الأمر إلى لبنان ثم إلى سوريا، وظل الجرح غائرًا في وجدانه ويعترف «أنا لا أستطيعُ أن أجلس فأرتِّقَ جراحي مثلما يرِّتقُ الناس قمصانهم، سأظل أناضل لاسترجاع الوطن؛ لأنه حقِّي وماضي ومستقبلي الوحيد، لأنه لي فيه شجرة وغيمةً وظلًا وشمسًا تتوقد، وغيومًا تمطِرُ الخصب وجذورًا تستعصي على القلع».
«كنفاني».. السارد والشاهد الفلسطيني لمرحلة التهجير واللجوء ونشوء المقاومة الفلسطينية، كانت كتاباته عن التحرر، وكان متبنيًا وداعمًا لكل المواهب والإبداعات الفلسطينية، وهو، كما ننقل عن خطاب، من اكتشف عبقرية ريشة الفنان المبدع الراحل ناجي العلي، عندما شاهد ثلاثة أعمال من رسوم العلي في زيارة له في مخيم عين الحلوة فنشر له أول لوحاته وكانت عبارة عن خيمة تعلو قمتها يد تلوّح، ونشرت في مجلة «الحرية» عام 1961.
ولا يختلف ناجي العلي (الذي خطّ أكثر من 40 ألف رسم)، عن معلّمه غسان كنفاني. فكلاهما من نفس طينة فلسطين التي أخرجت هؤلاء المقاتلين بالريشة والقلم، وكلاهما هاجرا إلى لبنان، والكويت. كما كانا أبناء المخيم، إلى حين التقى كنفاني بناجي، في مخيم عين الحلوة، ليرى رسوماته، وليعلم أنه اكتشف كنزًا وإرثًا عظيمًا سيخلد الثورة الفلسطينية.
كما لايختلف كلاهما عن الأرق الذي سبباه لعدوهما، الأول والأكبر، الاحتلال الإسرائيلي.. وهواجس القلق لدى دولة الاحتلال، كانت تتربص بالغدر والرصاص لأصحاب الأرض، من يمسك بالقلم والريشة، وهو ما عبر عنه ناجي آلعلي قائلًا: «اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حاله: ميت»، لتتحقق كلماته، على صعيده الشخصي، وعلى صعيد صديقه ورفيق دربه، غسان كنفاني، والفرق بينهما أن رصاصةً اخترقت رأس الأول، وقنبلة دمرت جسد الثاني.
وتسجل ذاكرة فلسطين، انحياز المثقف الثوري «غسان كنفاني»، إلى النضال السياسي والمسلح أسلوبًا نضاليًا لاستنزاف دولة الاحتلال، وصولًا إلى التحرير والانتصار، ولذلك فسر للعالم معنى العمل الفدائي الفلسطيني وأهدافه، في وضوح شديد لا يقبل التأويل أو المراوغة.
كان يراه البعض «كتيبة من المؤلفين»، وليس كاتبًا فردًا.. وكان يقول عن نفسه، إنه لا يذكر يومًا نام فيه من دون أن ينهي قراءة كتاب كامل أو على الأقل عن 600 صفحة، كان يقرأ ويستوعب بطريقة استثنائية.
عاش غسان كنفاني طفولته في يافا التي أضطر للنزوح عنها كما نزح الآلاف من الفلسطينيين بعد نكبة 1948، وبعد رحلة نزوح طويلة من يافا، إلى عكا، إلى لبنان، إلى سوريا، انتقل إلى الكويت عام 1956، ثم أقام في بيروت منذ عام 1960، وعمل محررًا لصحيفة «الحرية» الأسبوعية، ثم رئيسًا لتحرير صحيفة «المحرر» كما عمل في «الأنوار» و«الحوادث» حتى عام 1969 ليؤسس بعد ذلك صحيفة «الهدف»التي بقي رئيسًا حتى يوم استشهاده.
إنضم كنفاني إلى «حركة القوميين العرب» بناءً على دعوة من جورج حبش لدى لقائهما عام 1953. وحين تأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1967 أصبح ناطقًا رسميًا باسم الجبهة الشعبية.
ترك كنفاني 18 كتابًا، إلى جانب مئات المقالات والدراسات في الثقافة والسياسة وكفاح الشعب الفلسطيني، وفي أعقاب اغتياله تمت إعادة نشر جميع مؤلفاته، في طبعات عديدة، وجمعت رواياته وقصصه القصيرة ومسرحياته ومقالاته ونُشرت في أربعة مجلدات، وترجمت معظم أعمال غسان الأدبية إلى سبع عشرة لغة ونُشرت في أكثر من 20 بلدًا، وتم إخراج بعضها في أعمال مسرحية وبرامج إذاعية في بلدان عربية وأجنبية عدة، واثنتان من رواياته تحولتا إلى فلمين سينمائيين.
ولاتزال أعمال غسان كنفاني الأدبية التي كتبها بين عامي 1956و 1972 تحظى بأهمية متزايدة.. وظلت أعماله خالدة.. ومن بينها: مجموعة قصصية بعنوان موت سرير، نُشرت في عام 1961.. ومجموعة قصصية بعنوان أرض البرتقال الحزين، نُشرت في عام 1963.. ورواية رجال في الشمس، نُشرت في عام 1963.. مسرحية الباب.. مجموعة قصصية بعنوان عالم ليس لنا.. رواية ما تبقى لكم.. رواية القنديل الصغير.. رواية أم أسعد 1969.
«أم أسعد، التي تقف الآن تحت سقف البؤس الواطئ في الصف العالمي من المعركه، وتدافع، وتظل تدافع أكثر من الجميع»، هكذا قدم كنفاني للأم الفلسطينية، كأن «أم أسعد» هي النقطة التي تتقاطع عندها روايات كنفاني السابقة، إنها الشخصية الضائعة في رواياته، المضمر الذي يختبئ خلف السطور ويتداخل في الشخصيات، ولا يعلن نفسه إلا حين يتكامل في الواقع التاريخي.
يقول الصحافي المغربي المهتم بشؤون الثقافة والسينما محسن برهمي، إن أشهر أعمال كنفاني هي روايته الأولى «رجال في الشمس»، وتحكي عن قصة ثلاثة فلسطينيين في المنفى، تم تهريبهم إلى الكويت في الجزء الخلفي من شاحنة صهريج فارغة. لكن سائقهم -وهو أيضًا فلسطيني في المنفى- تأخر عند إحدى نقاط التفتيش، وانتهى بهم الأمر بالإختناق حتى الموت، وعدم قدرتهم على طلب المساعدة.
وفي هذا الصدد، كتب إدوارد سعيد أنه «يجب على الفلسطيني، مدفوعًا بالمنفى والتشرد، أن يشق طريقه عبر الوجود، وهو ليس حقيقة ثابتة بالنسبة له بأي حال من الأحوال، حتى بين العرب الشقيقين».
وبحسب خطاب، في كتابه «الثورة المضادة في مصر»، يقول المفكر غالي شكري: «لقد أهتز العالم العربي وكافة القوى المناضلة من أجل الحرية والتقدم والسلام في العالم على هذه الجريمة البشعة لرجل» يمثل في الأدب العربي الحديث رمزًا لجيل كامل.
ويضيف شكري: رغم المتفجرات التي وضعت داخل المحرك بعناية بالغة قد مزقت الرجل وابنة أخته التي كانت تهم بالركوب معه، بحيث تحول الجسدان في لحظات إلى نثرات صغيرة من اللحم المشوي، إلا أنه أمكن العثور بين الركام البشري على بطاقة صغيرة كتب عليها بخط واضح «مع تحيات إسرائيل».