حدود العولمة وظاهرة ترامب (2-2)


محمود محمد ياسين
2024 / 7 / 13 - 04:47     

أو لا يسيطر القانون إلا بين قويين أو بين ضعيفين

هذا المقال عبارة عن ملحق (annex) للجزء الأول من مقال (حدود العولمة وظاهرة ترامب) بمثابة نقطة هامشية موسعة لتوضيح الدلالات السياسية لما ورد في المقال حول ملابسات تسخير القانون للإطاحة بدونالد ترامب وعزله من العمل السياسي.

ذكرنا في الجزء الأول من أنه ليس ثمة دليل على نجاح الجانب من خطة ترامب الاقتصادية، التي بدا تنفيذها منذ فترة حكمه السابقة، الطامحة لقلب معدل الربح الميال للانخفاض في الشركات العاملة في أمريكا، وهذا يعزى موضوعيا لتطور الرأسمالية الذى يحتم عليها، نتيجة لانخفاض معدلات أرباح مؤسساتها، التمدد في العالم ولو بالقوة العسكرية. ولهذا ليس هناك ما يدعم نجاح خطة ترامب لتحقيق التوازن المزعوم بين مكوني الاستثمار الداخلي والخارجي. وهذا الجزء من خطة ترامب هو المسؤول عن الهجوم الكاسح، الذى ظل يقوده الحزب الديمقراطي على ترامب والعمل الحثيث على عزله من الساحة السياسية؛ فالشركات الأمريكية العالمية، التي يمثلها الحزب الديمقراطي، ترى أن تدابير ترامب المتعلقة بالسياسة الاقتصادية تحد من قدرتها على المنافسة وبالتالي تعظيم أرباحها. وفي معارضة ترامب لجأ الديمقراطيون لإذلاله بإجراءات العزل (impeachment) عندما كان في الحكم، وتسخير القانون لجرجرته حاليا في المحاكم بشتى التهم.

إن المنظور الفلسفي المادي يُرجع تحديد طبيعة القانون للاطار الاجتماعي/الاقتصادي والسياق السياسي السائد في المجتمع. فالقانون ليس قائما على مجرد الإرادة البشرية؛ فمثلا ”قانون التعاقد الحديث“ لم يكن موجودا في النظام الإقطاعي، بل فرضته طبيعة عمل النظام الرأسمالي (modus operandi of capitalism)، فالطبيعة الاجتماعية التي يتميز بها الإنتاج الرأسمالي هي القابلة المُولِّدة للقانون المذكور؛ وعليه فان الأجهزة القانونية (legal apparatuses) كيانات تاريخية. ومن وجهة النظر هذه، فان المجتمع ينقسم الى طبقات متصارعة من أجل السيادة السياسية. والقانون يتم وضعه للتعبير عن مطامح الطبقة الحاكمة؛ ومطامح الطبقة الحاكمة يحددها بشكل رئيس النمط الاقتصادي السائد وعلاقات الإنتاج التي يقوم عليها وجود الطبقة نفسها.

وفى هذا السياق، فالفقيه القانوني المصري الشهير عبد الرازق السنهوري ( 1885-1971) له مقولة ذاعت شهرتها تقول انه ”لا يسيطر القانون إلا بين قويين أو بين ضعيفين، فإن تفاوتت القوة فالقانون هو القوة“، ومؤدى المقولة هو ان القانون تكون له السيطرة في حالة قوى ضد قوى أو ضعيف ضد ضعيف؛ اما عند التفاوت في القوى، فحينئذ يُلغى القانون ويسيطر منطق القوة وتصبح الغلبة للأقوى. ومقولة السنهوري يمكن قراءتها بحيث تنسجم مع تحديد مكانة القانون ووضعها في السياق الاجتماعي (الطبقي)/ التاريخي.

ما أن أعلن ترامب السعي للحصول على ترشيح حزبه (الجمهوري) له لفترة ثانية لرئاسة الولايات المتحدة الامريكية، أقامت مجموعة من المدعين العامين (prosecutors) ضده تهم في أربعة قضايا جنائية تصل الى أكثر من 54 تهمة. وكان واضحا ان الحزب الديمقراطي هو من يقف حول تحريك الجهاز القانوني ضد ترامب. والتهم الموجه ضد ترامب دار الحديث حولها منذ العام 2020 بعد أن رفض ترامب آنذاك نتيجة الانتخابات التي خسرها لصالح مرشح الحزب الديمقراطي، جو بايدن، لكن لم يسع الديمقراطيون لملاحقة ترامب قانونيا الا بعد اعلانه ترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية الحالية.

ان غرضنا هنا ليس تقييم القضايا، المبالغ في حجمها، الموجهة ضد ترامب وحقيقة صحتها من عدمها، ولكن الدافع السياسي خلفها واضح خاصة على ضوء توقيتها والفرص العالية لفوز ترامب، العدو اللدود للحزب الديمقراطي، في الانتخابات الرئاسية القادمة؛ فسعينا هنا توضيح صحة ما ذهبنا له أعلاه من ان القانون لا يفقد سيطرته عندما يكون المتقاضيين من الأقوياء.

في الفاتح من يوليو من العام الحالي أصدرت المحكمة العليا الأميركية حكمها في طلب للرئيس السابق، ترامب، الحصول على الحصانة الكاملة من الملاحقة القضائية في احدى القضايا الجنائية التي تتعلق بمحاولته إلغاء نتيجة انتخابات العام 2020 التي خسرها. وكان رأى المحكمة هو أن الرؤساء السابقين لهم الحق في الحصانة المطلقة من الملاحقة القضائية بسبب الإجراءات التي تقع ضمن مهامهم الرسمية التي يمنحهم لها الدستور؛ لكن لا حصانة لهم اذا ما كانت ملاحقتهم القضائية بسبب أفعال متخذة بصفتهم الشخصية. وهكذا، فان الحكم جاء في صالح ترامب بما يمكّن محاميه من شطب بعض الدعاوى المرفوعة ضده استنادا على الحصانة الجزئية؛ وفى كل الحالات سيجعل حكم المحكمة العليا سير الدعاوى ضد ترامب في المحاكم عرضة لكثير من التعقيدات. وترامب نفسه عبر عن انتصاره في هذا المجال بكتابته على شبكته للتواصل الاجتماعي قائلا " إنه "انتصار كبير لديمقراطيتنا ودستورنا، أنا افتخر بكوني أميركيا!".

ان الإجراءات الى اتبعها الحزب الديمقراطي للنيل من ترامب، مثل اقامة التهم القضائية ضده، تخفى حقيقة ان صراع الديمقراطيين مع ترامب تدفعه المواقف المتباينة للحزبين (الديمقراطي والجمهوري) من مسألة تمدد الشركات الأمريكية العالمية في العالم لتحقيق الأرباح الباهظة. ولكن فان وضع الحزب الجمهوري، الذى يقاسم الحزب الديمقراطي النفوذ في الساحة السياسية الامريكية، يجعل من الصعب عزله باللجوء للقانون. فهل يأخذ الصراع مسلكا آخرا بحيث يكون أكثر تطرف في عدائيته بين الحزبين المعبرة برامجهما في نهاية المطاف عن مصالح راس المال الامريكي؟ هذا ما ستكشفه قادم الأيام.