الكريبكائية المكية بين الميثولوجيا والدين السياسي


طلعت خيري
2024 / 7 / 8 - 10:21     

مع اقتراب نهاية قوم لوط ، خرج إبراهيم من الأرض التي بارك الله فيها ، لبناء البيت ، سالكا طريق القوافل التجارية البرية الممتد من مملكة بلاد الشام ، باتجاه البحر الأحمر محاذاة الساحل ، الى القرى الظاهرة للمحور الإقليمي لمملكة سبأ ، وعلى الطريق البري آبار ماء تتزود منه القوافل ، وعند بئر زمزم ، بوأ الله لإبراهيم مكان البيت ، فما نقله التراث الإسلامي عن قدسية بئر زمزم ، وعلاقته بأم إسماعيل لا صحة له ، من المعروف ان البناء يحتاج الى الماء كمادة أساسية ، أما بقية المواد الأخرى كالتراب والحجر توفرهما الطبيعة في كل مكان ، بعد ان أنهى إبراهيم بناء البيت وأوشك على الرحيل ، ترك بعض من ذريته عنده ، داعيا ربه قائلا {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } ورغم الطبيعة القاحلة والخالية من الزراعة والنبات الطبيعي ، إلا ان البيت تحول بفضل الله الى مركزا تجاريا جاذبا للبضائع من كافة الأقاليم ، كما ان اختيار الله لمكان البيت له أبعاد جغرافية ، حيث شطر المسافة ما بين مملكة بلاد الشام ومملكة سبأ الى نصفين ، فالقوافل التجارية القادمة من كلا المملكتين تلتقيان عنده ، أما شعائر الحج لقد استخلصت من سعي إبراهيم وأبنائه في المنطقة ، لجمع مواد البناء ، مثلا تم نقل صخرة كبيرة من جبل عرفة ليقف عليها إبراهيم لرفع بناء الكعبة ، سميت بمقام إبراهيم ، بما ان مقام إبراهيم طاف على أركان الكعبة الأربعة ، فمحيط الكعبة من أربع جهات هي مصلى ، وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ، وكذلك شعيرة السعي بين الصفا والمروة ، هي لجمع الأحجار المختلفة الصلابة

كان للتحول العقائدي لمملكة سبأ على يد سليمان من عبادة الشمس ، الى عبادة الله وحده ، دور كبير في زيادة النشاط التجاري مع مملكة بلاد الشام ، ولا سيما بعد اكتشاف معدني الحديد والنحاس ، اللذان ساهما في التحول الصناعي من الفخار الى المعدن ، بما ان مملكة سبأ أول مملكة تاريخية تؤمن بالله واليوم الأخر، ذلك مما ساهم في ظهور السياحة الدينية الى بيت الله ، فكان الحجيج ينقلون بضائعهم الى مكة للمتاجرة بها ، كما ان نزول التوراة والإنجيل في القرن الأول الميلادي على محور مملكة بلاد الشام ، له دورا كبير في تنشيط حركة الحج ، حيث أمر الله الحواريين أتباع عيسى ابن مريم بالحج الى بيت الله ، فبعض آيات سورة البقرة وسورة آل عمران حاورت الدين السياسي لأهل الكتاب بخصوص بناء البيت ، ونبوة وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، وبهذه الجغرافية المكانية حول الله مكة الى مركزا تجاريا جاذبا للاستيطان استجابة لدعاء إبراهيم ، لم يذكر القران ان إبراهيم بنا المسجد الحرام ، أنما ذكر بنا الكعبة فقط ، التي قال عنها ، جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ، أما المساحة المحيطة بالكعبة اتخذها إبراهيم مصلى ، ثم أحيط البيت الحرام ، ومقام إبراهيم ، بتصميم عمراني مقوس بأعمدة وقبب أطلق عليه اسم المسجد الحرام ، بناء المسجد الحرام ، مرحلة متطورة شهدها البيت في القرن الثاني الميلادي ،على يد النبي إيليا الياس أخر أنبياء الدعوة الإنجيلية ، {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ }الذي بنا المسجد الأقصى ومساجد كثيرة في مدينة بعلبك ، ثم انتقل الى مكة لتطويرها بانيا المسجد الحرام ، ذلك مما ساهم أيضا في زيادة الحجيج الى بيت الله ، ونظر لقدسية المسجد الحرام والمسجد الأقصى عند طوائف الدين السياسي لأهل الكتاب ، رد التنزيل على تساؤل في سورة الإسراء ، سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى

بعد الانقلاب العقائدي الذي طال مملكة سبأ ، والتحول من عبادة الله ، الى عبادة الجن ، بما يسمى ميثولوجيا غيبية عام الجن ، والانشقاق التاريخي لكتاب الإنجيل في القرن الثالث الميلادي ، وظهور ميثولوجيا ابن الله ، نقلت القوافل التجارية والسياحة الدينية ميثولوجيا الديانات والطوائف الى مكة ، مما انعكس ذلك سلبا على عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر التي أرساها ابرأهيم ، فظهرت ميثولوجيا الملائكة بنات الله ، كفكر سياسي يتلاءم مع الميثولوجيا الأخرى ، تغلغلت ميثولوجيا الملائكة بنات الله في كافة مفاصل الحياة المكية العقائدية والسياسية ، والاقتصادية والمعيشية ، والأمنية والغيبية ، فلم يبقى مفصل إلا واستحوذت علية ، حتى شعائر الحج لم تسلم من التحريف، فلم يبقى في مكة شيء لله غير اسمه الشكلي ، سورة يس من السور المكية ، التي نزلت بشكل كامل ، لمحاورة ميثولوجيا الملائكة بنات الله ، يس حروف مقطعة لها علاقة بأرشفة السور المكية ، يس والقران الحكيم ، انك لمن المرسلين ،على صراط مستقيم ، تنزيل العزيز الرحيم

يس{1} وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ{2} إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ{3} عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{4} تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ{5}

كانت مكة في القرن السادس الميلادي ، مجمع لكل الديانات والطوائف ، ورغم العمق التاريخي والعقائدي للبيت الحرام ، إلا أن المجتمع المكي عاش في غفلة عن مفاهيم الدين الحقيقي ، فلم يحضا بأي دعوة دينية على يد نبي أو رسول ، سوى محمد ، فالتنزيل انذر المجتمع المكي على وجه الخصوص للخروج من غفلة الإيمان بالله واليوم الأخر ، الذي طمسته الميثولوجيا والدين السياسي لتسيطر علية الطبقة الرأسمالية والأسياد وأشراف مكة مستغلين شعائر الحج والموقع الجغرافي التجاري لمصالحهم السياسية والاقتصادية ، لتنذر قوما ما انذر آباؤهم فهم غافلون

لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ{6}

ان التراكم الزمني لميثولوجيا الملائكة بنات الله ، والطبيعة الصحراوية القاحلة ، والتنافس التجاري على المنافع الاقتصادية ، قلب موازين شعائر الحج لصالح الرأسماليين ، والأسياد والكهنة ، ومنظري الدين السياسي ، فتحولت الديانات الى مكاسب سياسية واقتصادية ، مما انعكس ذلك سلبا على الوعي المجتمعي ، فظهرت الدوغمائية - الكريبكائية والتعصب الفكري ، والانغلاق العقلي ، تجاه اي دعوة تغير عقائدي جديدة ، ولقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون

لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ{7}

عبر التنزيل عن الدوغمائية - الكريبكائية ، بوصف معنوي ، يعكس مدى التعصب الفكري والانغلاق العقلي الرافض للتغير العقائدي فقال ، إنا جعلنا في أعناقهم أغلال ، أغلال العنق هي جامعة ذو طرفين ، طرف يمسك بالعنق وطرف أخر يجمع القدمين ، وغالبا ما تكون جامعة العنق عرضية ، لجعل الرأس منتصب لا يتحرك ، لأنها طوقت العنق الى الذقن ، فهي الى الأذقان فهم مقمحون ، مقمحون عازمون على الرفض ، ثم ينتقل التنزيل الى وصف معنوي أخر ، وجعلنا من بين أيديهم سدا ، بين أيديهم ، من أمامهم حاجزا ، ومن خلفهم سدا حاجز أخر، فأغشيناهم ، غطيناهم بغطاء يمنع الرؤية ، فهم لا يبصرون

إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ{8} وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ{9}

بعد أمثال الدوغمائية - الكريبكائية ، التي ضربها الله على المعارضين للدعوة القرآنية ، باتت الاستجابة للتغير العقائدي شبه معدومة ، فاخبر الله محمد ما معناها ، لا تتعب نفسك ، وسواء عليهم أأنذرتهم ، أم لم تنذرهم ، فهم لا يؤمنون

وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ{10}

الإنذار الدنيوي تحذير يصب في مصلحة الفرد أخرويا ، لرفع عنه العذر يوم القيامة ، لان إمكانية الإنكار والتبجح بالأعذار، ستختفي نهائيا ، كما ان فرصة العودة لتعديل المسار، وتصحيح الاعتقاد مرفوضة إطلاقا ، فمن اخذ بالإنذار على محمل الجد ، سوف يتغير تلقائيا وفقا لما جاء به التنزيل ، فأعلى درجات الانضباط بالإنذار الأخروي، مخافة الله بالغيب ، فعندما تكون لديك القدرة على الغش والسرقة وطرق ملتوية للكسب المالي ، وأساليب شيطانية للتلاعب بفطرة الإنسان ، ثم تتغاضى عنها خوفا من الله ، هذا يعني انك حققت أهم شرط أخروي ، إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ، فبشره بمغفرة واجر كريم

إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ{11}

من خشي الرحمن بالغيب ، لن يخضع لأي محاسبة أخروية ، لأنه حساب نفسه قبل ان يحاسب ، أما من نسى لقاء الله ، سيخضع للمحاسبة الكلية وفق آليات أعدها الله لهذا الغرض، منها تدوين الأقوال والأفعال ، ونكتب ما قدموا ، ما قدمه الإفراد والجماعات من وسائل التصدي لقول الحق ، سواء ان كانت ، مادية أو حشدية أو معنوية أو سياسية ، وآثارهم ، وانعكاسات تلك الوسائل على الإيمان بالله واليوم الأخر، وفق إحصائية ميدانية لكل شاردة ووارده ، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ، في كتاب يعرض عليهم ، ليطلعوا على أعمالهم

إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ{12}