خطاب خروتشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي : الاشتراكية أصبحت بلا دفاع
دلير زنكنة
2024 / 7 / 6 - 22:11
بقلم كمال أوكويان، السكرتير العام للحزب الشيوعي التركي TKP
ترجمة دلير زنگنة
في 25 فبراير 1956، انعقد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي. لقد كانت المؤتمرات دائمًا نقاط تحول مهمة في تاريخ الأحزاب الشيوعية الحقيقية، بينما اكتسب المؤتمر العشرين أهمية حيث كان بمثابة ضربة تاريخية للطابع الشيوعي للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي. لا شك أن الاتحاد السوفييتي لم يفقد طابعه الاشتراكي في هذا المؤتمر، لكن يمكننا القول إنه ينبغي دراسة المؤتمر العشرين على وجه التحديد عند بحث العملية التي أدت إلى حله (1991). عندما نقول ذلك، لا نقصد الإشارة إلى أن جميع المشاكل في الاتحاد السوفييتي بدأت في عام 1956 أو مع وفاة ستالين (1953). السبب الاول ، ان هذه المقاربة الميتافيزيقية تفشل في تفسير الأزمة العميقة التي عاشتها قيادة الحزب والتي ظهرت على الفور مع وفاة يوسف فيساريانوفيتش ستالين. إن الدور الفريد الذي لعبه ستالين في عملية تأسيس الاشتراكية، وفي تعزيز سلطة العمال وفي النضال ضد الفاشية ليس قابلًا للجدال بأي شكل من الأشكال. ولكن من الواضح أن الأسباب الجذرية للعجز الذي وقع فيه الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي بعد وفاة ستالين لابد وأن نبحث عنها في السنوات التي سبقت عام 1953.
بدلًا من البحث عن إجابة لسؤال لماذا دخل الحزب الشيوعي السوفييتي في أزمة قيادة، سوف يركز هذا المقال على تأثير الخطاب الذي ألقاه السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، نيكيتا خروتشوف، في جلسة مغلقة، على الحركة الشيوعية العالمية والاتحاد السوفييتي. وهذا الخطاب الذي سنوصفه بـ«الهدام» دون تردد، كان معدا لإزالة أو شل العوائق التي تقف في وجه التوجه الاستراتيجي الذي تبلور في المؤتمر العشرين.
حقق خروتشوف هدفه. وفي عام 1964، عندما أقيل من منصبه، أصبح الحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي حزبًا فقد قدرته على مناقشة ما حدث في المؤتمر العشرين بطريقة صحية، والذي اصبح، بعبارة ملطفة، حزبًا محكومًا عليه بالركود. في التأريخ السوفييتي الرسمي، بدأ الموضوع يتم التغاضي عنه بمفهوم "عبادة الشخصية"، ولم يذكر اسم ستالين، الذي قاد البلاد والحزب لسنوات عديدة، إلا بهذا المفهوم. ومع تولي غورباتشوف و فريق الثورة المضادة المرافق له القيادة، بدأت مناقشة الموضوع بمزيد من التفصيل، ولكن هذه المرة بهستيريا مناهضة للشيوعية تجعل المرء يحن إلى خروتشوف...
ولكن هل كان هذا الخطاب بهذه الأهمية والفعالية حقًا؟ اليوم، يظهر خروتشوف في وسائل الإعلام الإمبريالية في احتجاجه عام 1960 ضد ممثل الفلبين في الجمعية العامة للأمم المتحدة من خلال ضرب حذائه على الطاولة، وكذلك في خطابه في المؤتمر العشرين. في تحليل أكثر تفصيلا، يعتبر الاصلاحي الذي ترك عمله غير مكتملًا .
نعم، لم يقود خروشوف تدمير الاتحاد السوفييتي، في الواقع، حقق الاتحاد السوفييتي اختراقات مهمة في بعض المجالات خلال عهده، لكن إذا كان الاتحاد السوفييتي قد فقد زخمه جذريًا في الصراع الطبقي الدولي منذ عام 1956، فذلك الخطاب المشؤوم لخروتشوف لعب دورا هاما في هذا.
ومع ذلك، فإن محتوى هذا الخطاب الشبيه بالتقرير كان ضعيفًا للغاية. وحقيقة أن مندوبي الحزب الشيوعي في المؤتمر لم يثوروا على هذا الخطاب الانتقائي وغير المتسق، المليء بالأكاذيب والتحريفات والاعترافات، هو مؤشر على الركود الخطير الذي شهده الحزب بين اعوام 1953 و1956، بله قبل ذلك .
ومن ناحية أخرى، فإن الشرط الوحيد لعدم الاعتراض على خطاب خروتشوف ولكي يكون الخطاب فعالا هو أن يكون مبنيا على الأكاذيب! وكان من الواضح أن قدرات خروشوف الإيديولوجية السياسية لن تكون كافية لتصفية الحسابات مع عصر ستالين، وكان من غير المرجح بالنسبة له أن يبدأ عملية من شأنها أن تلحق الضرر بشرعيته. كل ما كان عليه أن يفعله هو أن يصدم المندوبين المرتبكين بالفعل. كما لو كان يثرثر في أحد مقاهي الحي، كان يخترع كذبة تلو الأخرى، والحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي، الذي اجتاز العديد من الاختبارات حتى ذلك الحين، انقطع تمامًا تقريبًا مع التقاليد البلشفية.
ماذا كان الهدف هنا؟
يزعم بعض المؤرخين، وخاصة غروفر فِر، أن خروشوف نقل المسؤولية إلى ستالين وبيريا وقام بتزوير الحقائق من أجل إخفاء دوره في عمليات التطهير الدموية في الفترة 1936-1938. العديد من الوثائق التي ظهرت في السنوات الأخيرة تدعم هذا الادعاء. ولكن في قلب ما حدث في المؤتمر العشرين هناك عناصر تذهب إلى ما هو أبعد من هذا النوع من جهود تبرئة الذات. وفي واقع الأمر، فإن المؤرخين المعنيين يؤكدون ذلك أيضًا.
ومن أجل فهم غرض خروتشوف من إعداد التقرير الذي قرأه في الجلسة المغلقة للمؤتمر العشرين، لا بد من دراسة نتائج الخطاب:
من وجهة نظر الإمبريالية
1. سرعان ما لقي خطاب خروتشوف صدى في العالم الإمبريالي وتم تأكيده بطرق عديدة. واغتنم الغرب الفرصة ليزعم أن ما ظل يقوله عن الشيوعية لسنوات قد أكده السكرتير الأول للحزب الشيوعي السوفييتي. وبعبارة أكثر وضوحا، حققت مناهضة الشيوعية نجاحا لم يكن من الممكن أن تحققه بمفردها واكتسبت ميزة في تقديم الشيوعية باعتبارها ظاهرة إجرامية.
2. أصبح تقرير خروتشوف أحد أهم الأدلة على أن الاتحاد السوفييتي سيتراجع خطوة إلى الوراء في مواجهة العدوان الإمبريالي المسمى بالحرب الباردة. إن دفع سياسة التعايش السلمي إلى سياق كان خارج الإطار الذي رسمه لينين تماما هو انحراف ظهر جليا في المؤتمر العشرين وترك بصماته على الفترة التالية. بالإضافة إلى ذلك، فإن خطاب الجلسة المغلقة الذي تم فيه تعداد "الجرائم التي ارتكبت في عهد ستالين" اعتبر دليلا على أن القيادة السوفيتية كانت تميل نحو خط الاستسلام في جوانب أخرى أيضا. ورغم أن خروتشوف ادعى العكس، إلا أن إزالة-الستالينية عتمت على كل إنجازات الاتحاد السوفيتي عند تأسيس الاشتراكية، وبهذا المعنى، قوضت شرعية الاتحاد السوفيتي. واليوم، حتى الحكومة الروسية البرجوازية لا تستطيع أن تجرؤ على تشويه شرعية عدوها الإيديولوجي والطبقي، الاتحاد السوفييتي، إلى هذا الحد.
3. إن تصوير خروتشوف لستالين على أنه شخص غير كفء لا يستمع لأحد ومسؤول عن الخسائر المادية التي تكبدها الاتحاد السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية، لم يؤد إلى تشويه سمعة الاتحاد السوفييتي فحسب، بل سقط أيضاً كستار حاجب على جرائم المعسكر الإمبريالي في العلاقة مع الفاشية والحرب. ومن المؤسف أن الدعاية للحرب الباردة التي ساوت هتلر وستالين ،والفاشية بالشيوعية أصبحت أكثر إقناعاً بعد خطاب خروشوف.
4. من الواضح أن خروشوف كان يعلم أن خطابه في الجلسة المغلقة سيصل على الفور إلى المراكز الإمبريالية. بل من الممكن أن يكون هذا الخطاب قد تم تسريبه من قبل القيادة السوفيتية، كما اقترح البعض. ومع ذلك، وبينما لم تخف الدول الغربية فرحتها بهذا الخطاب، فإنها لم تبذل أدنى جهد لتهدئة حدة الحرب الباردة. بل على العكس من ذلك، زادوا من عدوانهم على نقاط الضعف في الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى.
من وجهة نظر الحركة الشيوعية العالمية
5. ليس سرا أنه كانت هناك اتجاهات مختلفة في الحركة الشيوعية العالمية وداخل أحزاب الكومنترن خلال فترة الأممية الثالثة. ومع ذلك، بعد حل الأممية في عام 1943، و بتأثير سلطة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، تمكنت الحركة الشيوعية العالمية من الحفاظ على وحدتها حتى عام 1956 بما في ذلك فترة الكومينفورم. وحتى لو كانت هذه السلطة قد جعلت بعض الأحزاب عديمة الشخصية من وقت لآخر، فقد تمكنت الحركة الشيوعية العالمية، في التحليل النهائي، من أن تكون قوة فعالة وموحدة. وباستثناء النموذج اليوغوسلافي، تصرفت الأحزاب الشيوعية بوعي بأنها جزء من نفس العائلة . كان لخطاب خروتشوف عام 1956 تأثير مفكك على هذه العائلة. ورغم أن انفصال الصين عن المعسكر الاشتراكي لا يمكن أن يُعزى بالكامل إلى خروتشوف، إلا أن تقلب قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي ساهم في تسهيل هذا الانفصال وتعزيزه. انقسمت العديد من الأحزاب الشيوعية.
6. ليس من العدل بطبيعة الحال أن نقول إن الاورو-شيوعية كانت نتيجة لسياسات خروشوف. يمكننا القول أن جذور الاورو-شيوعية، التي تمت صياغتها من الناحية المفاهيمية في السنوات اللاحقة، موجودة في الأممية الثانية، ويمكن ملاحظة اتجاهات مماثلة في العديد من الأحزاب خلال فترة الكومنترن. لذا فإن الاورو-شيوعية في حركة العمال الأوروبية هي ظاهرة متواصلة، بغض النظر عما نسميها. ومن ناحية أخرى، كانت فترة الكومنترن منذ البداية فترة نضال ضد هذه الاتجاهات. عند النظر بعناية إلى مسألة تغلغل العناصر الإصلاحية في "الشيوعية" فقد أثيرت عدة مرات خلال عملية تأسيس الأممية الثالثة، وبالتالي ظلت شروط الانضمام إلى الأممية الشيوعية صارمة قدر الإمكان. وبعد ذلك، كانت التدخلات تتم بين الحين والآخر لاجتثاث الإصلاحيين من الأحزاب الشيوعية الأوروبية لتجنب المخاطر الحتمية لسياسة "الدفاع عن الاشتراكية في بلد واحد". ومما لا شك فيه أنه على الرغم من أن تأثير هذه التدخلات انخفض مع وصول الفاشية إلى السلطة في ألمانيا، فمن الواضح أن الحزب الشيوعي السوفييتي والكومنترن لعبا دورًا في الحد من تحول الأحزاب إلى اليمين في أوروبا بين عامي 1919-1943. إلا أن خطاب خروشوف كان قد طمأن الماركسيين الأوروبيين الذين لم يكونوا سعداء للغاية بسلطة الاتحاد السوفييتي، كما اكتسبت بعض العناصر التي اعتبرت أنه من الإبداع أن تقول "لن نفعل كما فعل الروس" الشرعية داخل الأحزاب الشيوعية.
7. بالإضافة إلى ذلك، كان خطاب خروشوف أكثر تدميراً لسبب آخر. في تاريخ الحركة الشيوعية العالمية، كانت هناك صراعات داخلية قاسية للغاية، وخلافات، وانقسامات، وعمليات تطهير. ومع ذلك، فإن تقليد الكومنترن أبقى بطريقة أو بأخرى الثقافة الثورية هي المهيمنة، والتزم الناس بمثل الشيوعية وانتصروا في القضية السياسية والعسكرية والأيديولوجية والثقافية والأخلاقية في الصراع حتى الموت ضد الفاشية. لقد زرع خروتشوف بذور الشك في قلب هذا الإرث. ولم يكن هذا غير مقبول لو كان نابعا من الحقيقة. إلا أن خروتشوف بخطابه المليء بالأكاذيب من أعلى إلى أسفل، قد هز ثقة الشيوعيين بأنفسهم، ومهد الطريق للنفاق والرداءة والخسة داخل الحركة الشيوعية العالمية.
8. وينبغي أن نلاحظ هنا أن "الكذب" له معنى آخر أيضاً. من الممكن أن يرتكب الشيوعيون الأخطاء، وفي بعض الأحيان لا يعبرون عن كل عناصر الحقيقة. لكن الشيوعيين لا يكذبون على الحزب والشعب والإنسانية. إن لجوء السكرتير الأول للحزب الشيوعي السوفييتي إلى الأكاذيب الرخيصة هو نقطة انهيار رئيسية في تقاليدنا. في واقع الأمر، لم يتوقف خروشوف هنا، فقد كذب على العالم أجمع في الأزمة الكوبية وأقنع الآخرين بالكذب أيضًا، كما خدع الثوار الكوبيين، إذا جاز التعبير. وعلى الرغم من أن خروتشوف اتخذ أحيانًا موقفًا دفاعيًا عن مصالح الاشتراكية على الساحة الدولية، إلا أنه ألحق ضررًا كبيرًا بالحركة الشيوعية العالمية ككل.
9. إن تحييد وتصفية الكوادر الشيوعية في العديد من الأحزاب الذين وجدوا خطاب خروتشوف لا معنى له وغير صحيح وخطير كان بمثابة ضربة أخرى للحركة الشيوعية العالمية. إن حقيقة اسقاط عدد كبير من الشيوعيين في كل من البلدان الاشتراكية والرأسمالية من الصراع السياسي باستغلال مكانة الاتحاد السوفييتي هو ضرر آخر ألحقه خروشوف، الذي لم يكن ليتمكن في الظروف العادية من شغل أي منصب مهم في أي حزب شيوعي.
10. خطاب خروتشوف هو دعوة لتطهير الحزب والحركة الشيوعية العالمية والاتحاد السوفييتي من ستالين، وذلك باستخدام انتقادات "عبادة ستالين" كذريعة. إلا أن الشخص المذكور هنا هو قائد عظيم تولى المسؤولية الأساسية في تأسيس الاشتراكية لمدة 30 عاما بالضبط. كما أصبح تجاهل هذا الزعيم في التاريخ السوفييتي من المحرمات في الحركة الشيوعية العالمية، وجميع أنواع التقييمات والمناقشات حول ستالين في تاريخنا المشترك تكاد تكون محظورة. وسنتناول الجزء من هذه الحماقة المتعلقة بالاتحاد السوفييتي في القسم التالي. ومع ذلك، فإن محاولة الحركة الشيوعية العالمية فرض التعتيم على المراحل الأكثر أهمية في تاريخها كانت لها عواقب وخيمة، وتركت تشويهات وأكاذيب مناهضي الشيوعية واليسار الجديد فيما يتعلق بالفترة ما بين 1924-1953 دون إجابة تمامًا. ومن المعروف أيضاً منذ زمن طويل أنه لا يمكن الدفاع عن الاتحاد السوفييتي بتجاهل ستالين، وأن هذه الحماقة التي استمرت بعد خروتشوف لم تكن فعالة في مواجهة الإيديولوجية البرجوازية. حتى حكام روسيا البرجوازية اليوم لا يكررون هذه الحماقة، من ناحية، بينما يستغلون كل فرصة لكسر تأثير الاشتراكية، ومن ناحية أخرى، يتصرفون بحذر أكبر في بعض المواضيع لأنهم يعرفون ما يعنيه ذلك. لكي يعلنوا أن عهد ستالين غير شرعي على الساحة الدولية.
من وجهة نظر الاتحاد السوفيتي
11. عندما توفي ستالين، كان شعب الاتحاد السوفييتي قد تغلب على الأوقات الصعبة واكتسب الثقة بالنفس. حقيقة أن وفاة ستالين أثارت القلق في المجتمع لا تعني اختفاء هذه الثقة بالنفس. أدى خطاب عام 1956، الذي أعقب الظهور الضعيف لقيادة الحزب الشيوعي السوفييتي في عام 1953، إلى خلق صدمة شديدة لدى الشعب السوفييتي. كان من الواضح أن المجتمع الذي اهتز إيمانه بالحزب والمؤسسات السوفيتية، والأهم من ذلك بنفسه ،لن يكون لديه نفس الطاقة في عملية البناء الاشتراكي، سيصبح سلبيًا، والأهم من ذلك أنه سيفقد روحه القتالية. وهذا هو بالضبط ما كان يحتاجه خروشوف: مجتمع فقد خصائصه المميزة.
12. كان خطاب خروتشوف بمثابة إعلان بأن القيادة العليا للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي كانت مليئة بالمنافقين. كان هناك من اعترض على خطاب المؤتمر العشرين، لكن العديدين من مندوبي المؤتمر، وخاصة خروتشوف، عبروا عن آراء مختلفة تمامًا عندما كان ستالين على قيد الحياة. علاوة على ذلك، كانوا المدافعين والمنفذين المباشرين للممارسات التي انتقدوها لاحقًا. مع المؤتمر العشرين، وضع الحزب بأكمله نفسه في عالم تهيمن عليه مؤامرات القصر والقيل والقال.
13. أظهر خطاب خروتشوف أن اللغة الأيديولوجية والسياسية السائدة قد تم استبدالها بلغة ضحلة وقبيحة. بعد هذا النوع من الخطابات و الذي يمكن للمرء أن يجده على طاولة السكارى، وليس في مؤتمر، فقد أهم جهاز في الحزب، أي مؤتمرات الحزب الشيوعي، كل ثقله. مع إقالة خروتشوف، انتهت هذه التفاهة، ولكن هذه المرة تحولت المؤتمرات إلى منصات رمزية بلا روح، ومملة أيديولوجياً وسياسياً.
14. منذ اللحظة التي تم فيها تجاهل دور ستالين، الذي أعلنه خطاب خروتشوف "مجرماً"، في التاريخ السوفييتي، أصبحت الأجيال الشابة بشكل خاص تنفر من عملية البناء الاشتراكي. خلال سنوات ستالين، تعلم الشعب السوفييتي عن النضال، وظهرت طبقة عاملة نضجت في هذه النضالات. ليس من المستغرب أن جرد خطاب خروشوف الشعب السوفييتي من مرجعياته التاريخية. مما لا شك فيه أن الاحترام والحب لستالين استمر لدى جزء كبير من المجتمع، ولكن كان من الواضح أن هذا التقدير الذي بدا وكأنه أسطورة وارتباط عاطفي، لن يكون كافيا، علاوة على ذلك، سيكون له طابع الحنين الى الماضي .
15. ضغط خروتشوف على عدد كبير من القادة المدنيين والعسكريين بشتى الطرق للموافقة على التحريفات والأكاذيب التي تضمنها خطابه. ونتيجة لهذه الضغوط، فإن العديد ممن قدموا مساهمات قيمة في النضال من أجل الاشتراكية في الماضي مروا بتشوه سياسي. وعلى الرغم من أن بعضهم قاموا بتصحيح الأخطاء التي ارتكبوها لاحقًا جزئيًا، إلا أن المسايرة أصبحت شرعية في الحزب الشيوعي. لقد مهدت مداخلة خروشوف الطريق أمام الكوادر ذات الأخلاق المتدنية التي رأيناها في مثال الإيديولوجيين الماركسيين اللينينيين السابقين ، الذين سرعان ما تحولوا إلى مناهضة للشيوعية بعد الثورة المضادة في عام 1991.
ما الذي مهد الطريق لخروتشوف؟
لم يذكر في هذا المقال سوى النتائج المباشرة لخطاب خروتشوف في المؤتمر العشرين، دون الخوض في الأخطاء السياسية والأيديولوجية التي أثرت بشكل خطير على الحزب والحركة الشيوعية العالمية في عهد خروتشوف. كان هدفنا هو إظهار كيف أن خروتشوف، بخطاب واحد، كثف تأثير الهجوم على القيم الثورية للحزب الشيوعي السوفييتي، وكيف تمكن من خلال هذا الخطاب من التغلب على العقبات التي كانت تواجهه. ومع ذلك، في هذه المرحلة، من المفيد أيضًا أن نتطرق إلى الأسباب التي جعلت الحزب الشيوعي السوفييتي ضعيفا امام هجوم خروتشوف.
لقد فقد الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي جزءًا كبيرًا من كوادره القيادية خلال الحرب العالمية الثانية. إن خسارة الملايين من المقاتلين الذين كرسوا أنفسهم للنضال من أجل الاشتراكية خلقت فراغا لا يمكن تعويضه في السنوات التالية. ونحن نعلم أن هذه الفجوة أفادت العناصر المؤيدة للوضع القائم ، و الوصولية و المناهضة الخفية للاشتراكية، كما تزايد نفوذ العديد من الأعضاء غير الشيوعيين في التسلسل الهرمي للحزب.
ومع ذلك، فإن الضعف الأيديولوجي والسياسي لكوادر الحزب لا يمكن أن يُعزى فقط إلى المذبحة الجسدية التي وقعت بين اعوام 1941 و1945. أدى النضال ضد أعداء الاشتراكية في الحزب وفي البلاد من وقت لآخر إلى تراجع العضوية و الجدال داخل الحزب و التثقيف ، وطرقت الحرب العالمية الثانية الباب قبل أن تجد قيادة الحزب الوقت لحل المشكلة. ومن المعروف أن ستالين بذل جهوداً للتغلب على الجمود السياسي والتنظيمي والأيديولوجي في الحزب بعد الحرب، لكن لم يتم تخصيص الموارد الكادرية اللازمة لكي تؤتي هذه الجهود ثمارها.
أثبتت شخصيات قيادية مثل مولوتوف وكاغانوفيتش، الذين أزعجتهم محاولات خروتشوف، على الرغم من كل مواقفهم وخبراتهم الثورية، أنهم يفتقرون إلى الاتساق السياسي والنظري الضروري لإبداء مقاومة داخل الحزب. علاوة على ذلك، فإن هؤلاء وغيرهم من الشخصيات المماثلة الذين جاءوا من نضالات الحزب البلشفي في ظل ظروف صعبة للغاية قبل الثورة، كانوا عاجزين أمام مناورات خروتشوف وتركوا طاقة ثورية محتملة في المجتمع كان من الممكن تعبئتها.
وهنا لا بد من الأخذ في الاعتبار العناصر المضادة للثورة التي كانت تنتظر اللحظة المناسبة في مؤسسات الحزب والدولة. ومن الواضح أن هؤلاء المنافقين، الذين كانوا من بقايا الطبقات الرأسمالية التي طُردت خلال عملية البناء الاشتراكي والذين تمكنوا بطريقة أو بأخرى من التمسك بالحزب أو السلطة السوفيتية، وقفوا خلف خروتشوف. بالإضافة إلى ذلك، من الواضح أيضًا أن تلك الشرائح الاجتماعية، التي استفادت من الفجوات المختلفة في النظام أو الاقتصاد السلعي الذي لا يزال موجودًا في بعض القطاعات، كانت متحمسة موضوعيًا لخروتشوف. وبطبيعة الحال، فإن وجود كوادر إدارية فقدت إنتاجيتها، والتي سئمت النضال ودعمت الوضع الراهن، ساعد خروتشوف. استفاد خروتشوف بمهارة من العناصر القومية والدينية والبرجوازية التي استقرت في الحزب في المناصب القيادية خاصة في المناطق التي كانت فيها الطبقة العاملة ضعيفة. ومرة أخرى، وخاصة في موسكو، قدم الأكاديميون والفنانون والكتاب، الذين كانوا تحت تأثير الأيديولوجية البرجوازية، دعمًا كبيرًا للحملة، التي تم تنفيذها تحت شعار تصفية الحساب مع ستالين.
ما الذي كان خروتشوف يسعى إليه؟
وإذا لخصنا الأمر في جملة واحدة، فإن خروتشوف أراد أن ينهي دور الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي كحزب يناضل من أجل انتصار الاشتراكية في الداخل والخارج. إنه ليس معاديًا للثورة، لكنه مهد الطريق للثورة المضادة التي حدثت بعد سنوات.
لماذا إذن شرع خروشوف في سلوك مسار ابقاء الوضع القائم في السياسة الداخلية والخارجية؟
لا نعرف أفكار خروتشوف الحقيقية في الثلاثينيات. ومع ذلك، عندما ننظر إلى السنوات التي تلت عام 1953، فإنه يُظهر السلوك النموذجي للكوادر الذين لم يؤمنوا ببناء الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي. يعد خروتشوف أحد الأمثلة الأكثر دهاءً على فترة كان فيها جيل من الإداريين الذين تجنبوا الصراعات الصعبة، و تبنوا الامتيازات الإدارية، والذين كانوا بمستوى المتوسط في المجال النظري وبالتالي كسولين ، هربوا من ميدان الصراع الطبقي من خلال الاستفادة من المكانة التي خلقتها إنجازات الاشتراكية والتضحيات الهائلة للعمال السوفييت.
خلف الكلمات الكبيرة مثل "نحن ننتقل إلى المرحلة الشيوعية"، "نحن نتبنى سياسة المنافسة السلمية مع الإمبريالية" كان يقف "زعيم" استسلم وتخلى عن كل مطالب ثورية في الصراع الطبقي.
ومن أجل إقناع الشعب السوفييتي والحزب والحركة الشيوعية العالمية بقبول هذا الموقف الانهزامي، كان خروتشوف بحاجة إلى صدمة كبيرة. وكما أشار مؤرخون مثل غروفر فر، فإن هذا كان سيمنحه فرصة لتبرئة ماضيه أيضًا. لكن على أية حال، من أجل إضعاف كوادر الحزب الذين سئموا الحرب والنضال بشكل كامل، كان من الضروري توجيه ضربة قوية لأنظمة معتقداتهم. في الواقع، لم يكن الهدف ستالين، بل ثقة الحزب بنفسه. وبخطابه، حول خروتشوف الحزب الشيوعي السوفييتي إلى حزب لا يؤمن بنفسه. لقد كان سطحيًا بما يكفي للاعتقاد بأنه من خلال إعطاء الإمبرياليين رسالة "لقد تخلصنا من الرجل السيئ"، فإن الإمبريالية ستترك قيادته وشأنها. تجاهلت الإمبريالية"العلم الأبيض" الذي كان خروتشوف يلوح به، و فعلت الشيء الصحيح من وجهة نظرها وواصلت الهجوم. ومن ناحية أخرى، لم يتمكن الاتحاد السوفييتي من الهروب من آثار الدمار الذي سببه المؤتمر العشرين. ولم تتمكن الاضطرابات التي حدثت بين عامي 1980 و1985 من تجميع الطاقة اللازمة، ووجهت العناصر البرجوازية، التي فتحت مساحة متزايدة لأنفسها في خضم الاشتراكية المتدهورة، الضربة القاتلة في عام 1991.
ولهذا السبب، يعد خروتشوف أحد الشخصيات التي ظلت وصمة عار في تاريخ الاتحاد السوفيتي. أما الأسباب التي أوصلته إلى المسؤولية العليا في الحزب فهي موضوع دراسة أخرى.
مجلة الشيوعية الاممية
العدد 12-2022