جرجي زيدان أبرز أركان النهضة العربية
فهد المضحكي
2024 / 6 / 29 - 13:49
يُعد جرجي زيدان من أبرز أركان النهضة العربية في أواخر القرنين التاسع عشر والعشرين الذين عملوا على إرساء أسس القومية العربية العلمانية. وكما كتب د. جورج شكري زيدان حفيد جرجي زيدان بجريدة الأهرام، أصبح اسمًا مألوفًا في كثير من أنحاء العالم العربي. ويرجع ذلك، إلى الإحدى والعشرين رواية تاريخية التي كتبها، والتي تناولت الأحداث من عصور ما قبل الإسلام إلى نهاية الإمبراطورية العثمانية. كان جرجي زيدان أكثر من مجرد راوٍ، فقد قدم مساهماته كثقافي بارز لحركة النهضة، وصحفي، ومؤرخ، ولغوي، ومعلم للمجتمع قام بتعليم وترفيه عامة الناس.
ولد زيدان عام 1861 في بيروت، وهاجر إلى مصر عام 1883، وتوفي في القاهرة عام 1914. وكانت إنجازات جرجي زيدان غزيرة ومتعددة، ففي فترة قصيرة جدًا لا تبلغ ثلاثة عقود كتب على نطاق واسع عن التاريخ العربي والإسلامي. فمن أبرز أعماله تاريخ التمدن الإسلامي في خمسة مجلدات، والعرب قبل الإسلام، بالإضافة إلى روايات تاريخ الإسلام. كما ألف جرجي زيدان ثلاثة كتب رئيسية عن اللغة العربية وهي تاريخ آداب اللغة العربية، الفلسفة اللغوية وألفاظ العربية، واللغة العربية كائن حي. وكان زيدان يؤمن بأن اللغة العربية تمثل أساسًا مركزيًا للهوية العربية، وكان مؤيدًا قويًا لإنشاء المجمع اللغوي على غرار الأكاديمية الفرنسية.
ويذكر د. جورج زيدان، كان جرجي يؤمن بأن تحقيق الذات والنمو الشخصي مسؤولية الفرد، وأن الصفات الشخصية - قوة الإرادة والنزاهة والاستقامة - أكثر أهمية للنجاح من المعرفة أو التعليم أو التراث. وقد نسب نجاحه أولاً وقبل كل شيء إلى العمل الجاد والواعي بالوقت، والمواظبة، والإدارة، ولا سيما التسويق، وهي سمات مهمة جدًا للنجاح. وبالنسبة للصحفيين والكتاب، كان كل هذا يعني اختيار مواضيع مثيرة للاهتمام، والكتابة بموضوعية وبأسلوب سهل واضح. فضلاً عن أن صدقه قولاً وعملاً أكسبه ثقة جمهور واسع من القراء.
تأسست مجلة الهلال عام 1892، وتم نشرها دون انقطاع حتى يومنا هذا. كان جرجي زيدان مؤسس مجلة الهلال وكاتبها، ورئيس تحريرها. سعى زيدان إلى جعلها دورية شعبية تؤثر على الرأي العام، وتساعد في تثقيف الجمهور. وعندما صدرت الهلال لأول مرة في عام 1892 كانت الثقافة في مصر مقتصرة على المجالات الأدبية. منحت الدورية الجديدة الثقافة معنى أوسع وأشمل تضمنت التاريخ والعلوم والفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة والاقتصاد، وبذلك دمجت الفكر بالفن والعلم بالفلسفة. كما حوّل زيدان الهلال إلى منصة لأعمال المؤلفين المتميزين ورواد الأدب العربي، ومنهم عمالقة مثل الأساتذة حسين هيكل، طه حسين، ومحمد فريد وجدي، وعلي الجريم، وعباس محمود العقاد، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وأحمد أمين، وجبران خليل جبران، وخليل مطران، والكاتبة مي زيادة، وغيرهم كثر. وكل هذا جعل من الهلال مؤسسة صحفية راقية.
وننقل عن د. جورج، عقب وفاة جرجي 1914، واصل نجلاه إميل وشكري زيدان نَشر مجلة الهلال. وأصبحت مؤسسة دار الهلال تحت قيادتهما رائدة في إطلاق أنواع جديدة من المجلات والدوريات. وعند تأميم دار الهلال في عام 1961، كانت قد أطلقت: المصور، أول مجلة أسبوعية في مصر عام 1924، والكواكب أول مجلة أسبوعية للسينما، وحواء المجلة الأسبوعية الأولى للمرأة. وعدة مجلات أسبوعية للأطفال أولها سمير. كما نَشرت دار الهلال عددًا من الإصدارات الشهرية منها روايات الهلال وكتاب الهلال وطبيبك الخاص وغيرها. لعبت دار الهلال دورًا كبيرًا في تطوير الصحافة في مصر، ولعبت أيضًا دورًا فعالاً كمدرسة للصحافة.
لعبت روايات جرجي زيدان التاريخية دورًا مهمًا في النهضة. وأسهمت في تنمية وعي وهوية عربية جديدة. ومن جانبه قام عميد الأدب العربي د. طه حسين بتقييم مساهمات زيدان على النحو التالي: إن الروايات التاريخية التي نشرها زيدان كان لها الأثر الأهم الذي مَكن النهضة من أن تؤتي ثمارها التي لا يزال يستمتع بها القراء حتى اليوم.
وتُرجمت رواياته إلى أكثر من عشر لغات.
كانت حياة زيدان قصيرة ومثمرة للغاية. كان رجلاً متعدد الوجوه، محركًا فاعلاً في حركة النهضة، له تأثير عميق على ثقافة شعبه، وتاريخ العالم العربي، وأدب لغته. ساعدت كتاباته ورواياته التاريخية في تشكيل الهوية العربية الحديثة، وأسهم في تأسيس وسائل الإعلام الحديثة في عصره، وتثقيف الجماهير، ونَشر الثقافة للجمهور في مجمله. هذا هو التراث الذي تركه زيدان.
وفي مقال له، يقول الكاتب والناقد والمسرحي اللبناني فارس يواكيم: «الأديب زيدان متعدد المعارف، كَتب الكثير، وسيكتب كثيرون بعد. لذلك اخترت الإضاءة على جانب غير مطروق، ألا وهو جرجي زيدان مُترجمًا. بمثل الإعجاب الذي استقبلت مؤلفاته، لقيت ترجماته نقدًا قاسيًا في بعض الأحيان. لكن لا يملك الجميع سوى تقدير جهده. قيل في مؤلفاته التاريخية والأدبية إنها غير أكاديمية. وهذا صحيح. لكن المجهود الكبير الذي بذله زيدان في قراءة المصادر والمراجع، ثم في الصوغ، يستحق التحية، وخصوصًا إذا نظرنا إلى عدد مؤلفاته بعدد سنوات عمره. أصدق ما قيل عنه إنه كان يشتغل ست عشرة ساعة في اليوم».
ويقول أيضًا: إذا نظرنا إلى رواياته بعين النقد المعاصر، يمكن أن نجدها خلطة بين الأحداث التاريخية، واستعراضًا للعادات والتقاليد، في قصة حب بسيطة تمشي جنبا إلى جنب مع السرد التاريخي. لكن مزايا زيدان تكمن في أسلوب سرده المشوّق.
ويضيف: لم أكن الوحيد المعجب برواياته حين قرأتها في سني الشباب. لكني حين أعدت قرأتها لم أكن أشعر بالملل. تركت الحبكة الدرامية الضعيفة جانبًا، واستمتعت بمتابعة الأجواء التاريخية والاجتماعية. ثمّنت الدور الريادي الذي أدّاه في مجال تأليف الرواية العربية، ولم أنس أنه كتبها قبل ما يزيد على مئة سنة. في الروايات والمؤلفات التاريخية كان لزيدان ما أراد: أن يصل إلى أكبر عدد من القراء. بلغ مراده ولم يجاره أحد في انتشاره، لا في حياته ولا بعدها.
كانت «المملوك الشارد» أول رواية عربية منقولة إلى اللغة الألمانية. ترجمها مارتن تيلو (1876-1950) وهو قس تخصص في اللاهوت والدراسات الشرقية.
كتب تيلو مقدمة للترجمة، هذا نصها مترجمًا عن الألمانية:
جرجي زيدان، أحد كتاب الشرق الأكثر شعبية في العصر الحالي. هو مؤلف هذه الرواية التاريخية المترجمة إلى الألمانية. لبناني الأصل، وتلقى علومه في الكلية اليسوعية في بيروت. وبسبب توجهاته السياسية الليبرالية ظفر بحقد السلطان عبدالحميد، فهاجر إلى القاهرة حيث بدأ مسيرته الأدبية الحافلة.
ترجع أهمية جرجي زيدان، إلى كونه أول كاتب في الشرق، جعل معرفة تاريخ الإسلام شعبية. قبله كان تكوين رؤية واضحة عن حقب تاريخ الإسلام المديدة والمعقدة، أمرًا يصعب على الكثيرين، بمن فيهم المتعلمون العرب، الذين اقتصرت معرفتهم على المصادر والمراجع العامة، ولم تكن الدراسات وأبحاث المؤرخين الفردية في متناول اليد. وقد أوتي جرجي زيدان الفكرة التي مكّنته من أن يعرض تاريخ الإسلام من بداياته إلى الزمن المعاصر، بأسلوب بسيط وتصويري، عبر سلسلة من الحكايات، فلنقل: روايات تاريخية، حتى العام 1908 كان قد نَشر ست عشرة رواية (فبعضها لا ينتمي، في المضمون إلى تاريخ الإسلام وإلى الروايات)، أصدر نحو خمسة عشر كتابًا في التاريخ العام، الجغرافيا، تاريخ الأدب والثقافة، فلسفة اللغة العربية وتاريخها.
فالخلاصة كما أوجزها يواكيم هي: أن يكون زيدان في معرفته بالتاريخ قد اتكأ على أبحاث الأوروبيين، خصوصًا المستشرقين الفرنسيين، فهذا أمر بديهي، وهو ذاته أكّده في كتبه، أما عن مدى استيعابه مناهج الأبحاث الأوروبية وتبنّيه إياها، فهذا موضوع بحث خاص، لم يقدم عليه أحد حتى الآن. ولكن ينبغي التساؤل حول مدى التأييد أو الرفض الذي ناله زيدان من المثقفين الشرقيين، عمومًا وأفرادًا. على أن الحقيقة، تفيدنا بأن إنجازه، في مجمله، لقي الاستحسان، ومن المسلمين أيضًا. وهو بذلك نال شهرة خاصة، إذ هو لم يحظَ بتقدير أقرانه المسيحيين فحسب، بل وبتأييد المسلمين بدرجة كبيرة. مردّ ذلك إلى كونه الكاتب الذي تدين له دائرة واسعة من القراء في معرفتها بالإسلام. ولم تقتصر شهرته لدى المتعلمين الشرقيين من كل الطوائف، بل امتدت لتشمل البسطاء الذين في وسعهم القراءة والكتابة.