الأسس الأيديولوجية للإرهاب الصهيوني
دلير زنكنة
2024 / 6 / 23 - 04:48
(مقتطفات من كتاب "الصهيونية تعتمد على الإرهاب" بقلم سيرجي سيدوف من لجنة الرأي العام السوفييتي المناهضة للصهيونية، دار نشر وكالة أنباء نوفوستي، 1984) [1]
المصدر
مجلة "ماركسي" الصادرة عن الحزب الشيوعي الهندي الماركسي
التاسع والثلاثون، 3-4، يوليو-ديسمبر 2023 الوثائق
ترجمة دلير زنگنة
ظهرت الصهيونية كاتجاه سياسي منظم في نهاية القرن التاسع عشر، في عام 1897، عندما تأسست المنظمة الصهيونية العالمية. كان منظرها و أول رئيس لها، تيودور هرتزل، صحفيًا في فيينا. لقد لعب هرتزل دوراً هاماً في بلورة برنامج للحل البرجوازي القومي لما يسمى بالمسألة اليهودية. في ذلك الوقت كانت البرجوازية اليهودية تبحث عن طرق جديدة وأكثر فعالية لاستعادة السيطرة على جماهير اليهود من أجل تعزيز مواقعها الاقتصادية والسياسية في العالم الرأسمالي. في ذلك الوقت، وضع هرتزل، في كتيب بعنوان الدولة اليهودية، برنامجه للحل السياسي الإقليمي للمسألة اليهودية، وهو كتاب لا يزال يحظى بالاحترام باعتباره "الكتاب المقدس للصهيونية".
كان هرتزل ومؤيدوه مهتمين بشكل رئيسي بأفضل السبل لضمان هيمنة البرجوازية اليهودية، بحيث لم يعطوا في البداية سوى القليل من الاهتمام لمسألة أين يجب أن تتشكل "الدولة اليهودية". لم يكن لدى هرتزل أي اعتراضات على فلسطين ولكنه كان على استعداد للنظر في مواقع بديلة – الأرجنتين وأوغندا و أماكن أخرى من العالم. ورفع الصهاينة شعار "أعطوا أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض". وقد أثار هذا الشعار اعتراضات من أتباع ما سميت بالصهيونية الروحية التي رأسها آحاد هعام، الذي أسس في وقت مبكر من عام 1891 التنظيم الصهيوني السري بني موشيه (أبناء موسى) الذي شارك فيه العديد من الموظفين وقادة المستقبل في المنظمة الصهيونية العالمية تدريبها . مثله مثل هرتزل ،استحوذ آحاد هعام، المعجب الكبير بنيتشه،الفيلسوف الالماني ، على فكرة "الرجل الخارق"{سوبرمان}، وبربطها بالعقيدة اليهودية القائلة بأن اليهود هم الشعب المختار، حولها إلى فكرة "الامة الخارقة". بالنسبة لآحاد هعام، لم يكن قبول المثل النيتشوي لـ "الرجل الخارق" من قبل الأفراد اليهود كافيًا. كتب: «إذا اتفقنا على أن السوبرمان هو هدف كل الأشياء، فيجب أن نتفق أيضًا على أن الشرط الأساسي لبلوغ هذا الهدف هو السوبرأمة: وهذا يعني، "يجب أن تكون هناك أمة واحدة أكثر تكيفًا من الأمم الأخرى بحكم خصائصها المتأصلة، للتطور الأخلاقي، وتنظيم حياتها كلها وفقًا لقانون أخلاقي أعلى من النوع الشائع."[2] اعلن آحاد هعام ان هذه الأمة "أمة روحية يهودية عالمية خارج الحدود الإقليمية".
وبينما قبل إمكانية ادماج اليهود، اعتبر آحاد هعام أن السلاح الرئيسي لمكافحته هو إنشاء "مركز روحي" للأمة اليهودية العالمية في فلسطين من خلال إنشاء مستوطنات يهودية هناك بدلاً من الهجرة اليهودية واسعة النطاق. . وكتب: «إن هذا الاستيطان اليهودي، الذي سيكون تدريجيًا، سيصبح مع مرور الوقت مركز الأمة، حيث ستجد روحها تعبيرًا خالصًا وتتطور في جميع جوانبها إلى أعلى درجة من الكمال هي قادرة عليها». ومن ثم، ومن هذا المركز، ستشع روح اليهودية إلى المحيط الكبير، إلى جميع طوائف الشتات، لتلهمهم بحياة جديدة وتحافظ على الوحدة الشاملة لشعبنا. عندما تصل ثقافتنا الوطنية في فلسطين إلى هذا المستوى، قد نكون واثقين من أنها ستنتج رجالًا في أرض إسرائيل نفسها سيكونون قادرين، في لحظة مواتية، على إقامة دولة هناك - دولة لن تكون مجرد دولة لليهود بل دولة يهودية حقًا”.[3]
وفي حين كان هرتزل مهتمًا بشكل رئيسي بإقامة دولة يهودية قوية، أكد أحد هعام على الأساس الأيديولوجي للسيطرة الصهيونية على مثل هذه الدولة. وقد انعكس هذا في برنامج المنظمة الصهيونية العالمية الذي يعلن هدف الصهيونية ".... إنشاء وطن للشعب اليهودي في فلسطين...."[4] لكن فلسطين كانت أي شيء سوى "أرض بلا شعب". لقد عاش العرب هناك لعدة قرون، ولم يكن عدد السكان اليهود هناك في بداية هذا القرن يتجاوز عدة عشرات الآلاف. فكيف نظر الصهاينة إلى هذه الحقيقة؟
كتب الفيلسوف الصهيوني مارتن بوبر في مذكراته: "عندما تلقى ماكس نورداو، الرجل الثاني في القيادة بعد هرتزل، لأول مرة تفاصيل عن وجود سكان عرب في فلسطين، جاء إلى هرتزل مصدومًا، وصرخ: "لم أدرك هذا أبدًا - نحن نرتكب ظلمًا!».[5] حسنًا، هل دفع ذلك نورداو إلى مراجعة آرائه أو التخلي عن الصهيونية أو معارضة «الظلم» الذي سيتعرض له الشعب الفلسطيني؟ لا شيء من هذا القبيل. وسرعان ما تغلب نورداو على مخاوفه بشأن هذه المسألة وظل أحد قادة المنظمة الصهيونية العالمية. علاوة على ذلك، أطلق اسمه على خطة دعت إلى التوطين الفوري لمئات الآلاف من المهاجرين اليهود في فلسطين. مثل غيره من القادة الصهاينة، كان نورداو مقتنعًا بأن اليهودي "أكثر اجتهادًا وقدرة من المواطن الأوروبي العادي، ناهيك عن الآسيوي والأفريقي الذين في سبات".[6 ]وفي كلمته أمام المؤتمر الأول للمنظمة الصهيونية العالمية، أشاد نورداو بالغيتو اليهودي في العصور الوسطى وأكد على : "رأي العالم الخارجي لم يكن يهمهم، لأنه كان رأي الاعداء الجهلة [7]"
لقد تصور البرنامج الأيديولوجي للصهيونية العالمية حق "الشعب المختار" في تجاهل حقوق الشعوب الأخرى واستند إلى نفس المبادئ العنصرية والشوفينية التي تكمن وراء معاداة السامية. وقد أشار المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي الإسرائيلي في قراره إلى أن:
"الأيديولوجية الصهيونية هي أيديولوجية عنصرية، تقوم على افتراض أنه في ظل أي نظام اجتماعي لا يمكن لشعوب مختلفة أن تعيش في جو من الصداقة والأخوة، وأن هذا ينطبق خصوصًا على اليهود. الصهيونية هي معاداة للسامية عكسية. وينسب المنظرون الصهاينة إلى الآخرين نفس الخصائص التي ينسبها معاداة السامية لليهود. كلتا النظريتين، الصهيونية ومعاداة السامية، لهما مصدر مشترك في العنصرية وهدفهما تقسيم العمال من جنسيات مختلفة لصالح عدوهم الطبقي. [8]
وقد استخدم الصهاينة على نطاق واسع عقيدة هيرمان كوهين، مؤسس ما يسمى بمدرسة ماربورغ للكانطية الجديدة، للتبرير الأيديولوجي لتوسعهم. وعلى الرغم من أن كوهين لم يُظهر أي اهتمام خاص بفلسطين، إلا أنه سعى إلى إثبات وجود مجتمع يهودي خاص كان، حسب قوله، محددًا بخصائص بيولوجية محددة، وكان حامل شعلة المثل المسيحانية. علاوة على ذلك، شرح كوهين "الاشتراكية الأخلاقية" التي بررت التوسع الاستعماري لتلك الشعوب التي اعتبرت نفسها من دعاة المثل الأخلاقية العليا. أكد لينين في ملاحظاته عن الإمبريالية على أن مبدأ "الاشتراكية الأخلاقية" "... في الواقع...« يمنح أي أمة الحق في الاستيلاء على أراضي أي أمة أخرى» وإدارتها على أساس اعتبارات تفوقها الذاتي والمؤهلات الذاتية للعمل من اجل الحضارة " [9]
وسرعان ما أتقن الصهاينة أساليب اللصوصية الإمبريالية تجاه شعوب المستعمرات. قال تيودور هرتزل، في خطابه أمام المؤتمر الثالث للمنظمة الصهيونية العالمية في عام 1899، إن "المسألة الآسيوية" تزداد خطورة كل يوم، ويخشى أن تصبح دموية للغاية في المستقبل. ولذلك كان للشعوب المتحضرة مصلحة في رؤية إنشاء محطة ثقافية على أقصر طريق إلى آسيا يمكن لجميع الشعوب المتحضرة الاعتماد عليها . يمكن لفلسطين أن تكون بمثابة محطة كهذه، وكان اليهود هم ناقلو الثقافة Kulturtrageren الذين كانوا على استعداد للتضحية بحياتهم لتحقيق ذلك.
تم التركيز على القوة كأداة لتحقيق الأهداف المحددة، ولم يحاول القادة الصهاينة الذين اعتبروا أنفسهم دائمًا ناقلو ثقافة "الأخلاق العليا" إخفاء ذلك. وهكذا، كان الشاب ديفيد بن غوريون الذي وصل إلى فلسطين في أوائل القرن مع مجموعة من المستعمرين الصهاينة يقول: "إن عالم اليوم لا يحترم سوى القوة". [10] وبعد بضع سنوات ذهب إلى أبعد من ذلك، معلنا صراحة أن القضية الفلسطينية ستحل "بقوة السلاح وليس بالقرارات الرسمية".[11]
"كنا مجموعة من الكونكيستدور Conquistadors{الغزاة الفاتحين}"، يتذكر تشبيهه المستعمرين الصهاينة بالإسبان الذين أبادوا ملايين السكان الاصليين في أمريكا الوسطى والجنوبية. ثم في كتابه "كسب وطن" الذي كتبه عام 1915، قارن بن غوريون الاستيطان الصهيوني بالاستيطان الأمريكي في العالم الجديد، مستحضرًا صورة "المعارك الشرسة" التي خاضها المستعمرون الأمريكيون ضد "الطبيعة البرية والهنود الحمر الأكثر وحشية". " [12]. فكرة الإرهاب متأصلة في الأيديولوجية الصهيونية. في تبريره لاستخدام العنف، أشار بن غوريون إلى الفرضية المألوفة المتمثلة في "التفوق الأخلاقي" لليهود: "أنا أؤمن بتفوقنا الأخلاقي والفكري، وفي قدرتنا على العمل كنموذج لخلاص الجنس البشري". "[13]
منذ ظهورها الأول في فلسطين، كانت الصهيونية فلسفة عدوانية استعمارية تهدف إلى طرد السكان المحليين من فلسطين وتحويل هذه الأرض إلى "أرض إسرائيل". وفي محاولة لتبرير "حق" الصهاينة في الأراضي العربية التي احتلوها عام 1967 وسياسة الضم التي اتبعتها تل أبيب، أعلن مناحيم بيغن: "إن مصطلح الضفة الغربية لا يعني شيئًا. إنها يهودا والسامرة. وهي أرض إسرائيلية مملوكة للشعب اليهودي. ....لا يمكن ان نسمي ضماً إلا الأراضي الأجنبية. هذه أرض محررة.»[14] وهكذا، وباستخدام خطاب ديماغوجي، قام الزعيم السابق لمنظمة إرغون تسفائي لئومي{المنظمة العسكرية القومية} الإرهابية بتصوير الصهيونية على أنها "حركة تحرير وطنية" "تحرر" الأراضي العربية من سكانها الأصليين.
يريد بيغن وأتباعه أن ينسى العالم ليس وجود الشعب الفلسطيني فحسب، بل كلمة فلسطين أيضاً. وفي كلمته أمام مؤتمر في كيبوتس عين هاحوريش (مستوطنة عسكرية زراعية يهودية)، خطب بيغن مستمعيه قائلاً: "عندما تعترف بمفهوم "فلسطين"، فإنك تهدم حقك في العيش في عين هاحوريش. إذا كانت هذه فلسطين وليست أرض إسرائيل، فأنتم غزاة ولستم فلاحي الأرض. أنتم الغزاة. إذا كانت هذه فلسطين فهي لشعب عاش هنا قبل مجيئكم. فقط إذا كانت أرض إسرائيل، يحق لك العيش في عين حورش وفي دغانية ب. إذا لم تكن هذه بلدك، وطنك، بلد أباك؟أسلافك وأبنائك، فماذا تفعل هنا؟ جئتم إلى ديار قوم آخرين كما يزعمون، فأخرجتموهم وأخذتم أرضهم».[15]
منذ البداية، انتهجت القيادة الصهيونية العنصرية بشكل متعمد سياسة تهدف إلى طرد العرب من فلسطين. كتب هرتزل هذا في مذكراته بتاريخ 12 يونيو 1895: «سنحاول نقل السكان المفلسين عبر الحدود من خلال توفير فرص العمل لهم في بلدان العبور مع حرمانهم من أي عمل في بلدنا. ... كل من عمليتي المصادرة وإبعاد الفقراء يجب أن تتم بتكتم وحذر." [16] وبعد ربع قرن، عندما كانت هذه "العملية" جارية في فلسطين، كان آحاد هعام، الذي زار فلسطين، قال: “إنهم يعاملون العرب بالعداء والقسوة، ويمنعونهم حقوقهم، ويؤذونهم بلا سبب، بل ويفتخرون بهذه الأفعال؛ ولا أحد منا يعارض هذا التوجه الدنيء والخطير».[17]
في الواقع، كان الصهاينة منذ البداية يخططون لإبادة الشعب العربي في فلسطين. اعتقد آرثر روبين، الذي أدار الاستيطان الصهيوني لفلسطين، أن اليهود سيعيشون حتماً في "حالة حرب دائمة مع العرب"[18]. كتب ر. ويتز، الزعيم الصهيونى ، و الذي رأس قسم الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية لمدة 40 عاما في مذكراته ما يلي: «الحل الوحيد هو فلسطين، على الأقل غرب فلسطين (غرب نهر الأردن) بدون عرب... ولا سبيل سوى نقل العرب من هنا إلى الدول المجاورة ,نقلهم جميعًا: لا ينبغي ترك قرية واحدة ولا قبيلة واحدة" [19]
ما فضل القادة الصهاينة الآخرون مناقشته فيما بينهم على انفراد، كان المرشد الروحي لمناحيم بيغن، زئيف جابوتنسكي، الذي أسس اتحاد "الصهاينة التحريفيين"، يبشر به علنًا. وأعلن أن "إقامة الأغلبية اليهودية في فلسطين يجب أن ينفذ ضد رغبة الأغلبية العربية الحالية في البلاد"[20] . في وقت مبكر في عام 1907، طرح جابوتنسكي، في كلمته أمام المؤتمر السابع للمنظمة الصهيونية العالمية، "الأساس الفلسفي" لسياسته. وقال: "إن التقييم الأخلاقي للوسائل والأساليب التي يستخدمها المقاتل يجب أن يكون محكومًا حصريًا بمقياس الصالح العام الحقيقي أو الضرر الذي تؤدي إليه".[21]
ودعا جابوتنسكي حاملي "الأخلاق العليا" إلى التدمير بيد من حديد كل من قاوم الصهاينة. وقال: “يجب اما ايقاف الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، أو تنفيذه ضد رغبات السكان الأصليين. وبالتالي، لا يمكن لهذا الاستيطان أن يستمر ويحرز تقدمًا إلا في ظل حماية قوة مستقلة عن السكان الأصليين - جدار حديدي، سيكون في وضع يسمح له بمقاومة ضغط السكان الأصليين. هذه، في مجملها، سياستنا تجاه العرب...."[22] لقد صاغ "القانون الحديدي" للاستراتيجية الصهيونية وبشر بلؤم بـ "أخلاق" النزعة العسكرية والاستعمار الاستيطاني والعدوان.
هذه القاعدة الايديولوجية تشبه الفاشية. وبتحليل التشابه بين الصهيونية والفاشية، أكد الشيوعيون الإسرائيليون في قرار مؤتمرهم السابع عشر أن “الأيديولوجية والممارسة الرجعية للصهيونية توفر تربة خصبة لظهور ونمو الأحزاب والجماعات الصهيونية ذات النمط الفاشي التي تلجأ إلى الأساليب الإرهابية – الاغتيالات والحرق العمد – والتي تشكل منظمات شبه عسكرية لهذا الغرض."
بعد قيام دولة إسرائيل، استولت الدوائر الصهيونية على السلطة في الدولة المنشأة حديثًا؛ لقد أقاموا نظاماً سياسياً هدفه تطبيق المفاهيم النظرية الصهيونية. أصبحت الأيديولوجية الصهيونية هي الأيديولوجية المهيمنة في إسرائيل، وشكلت العقيدة الصهيونية أساس التشريع الإسرائيلي. تبددت آمال الجمهور العالمي التقدمي في أن تتطور إسرائيل على طريق الديمقراطية عندما حولت القيادة الصهيونية إسرائيل إلى معقل للعنصرية والعدوان في الشرق الأوسط وجعلت الإرهاب أداة لسياسة الحكومة. وكما أشار نعيم الأشهب، أحد القادة البارزين في الحزب الشيوعي الفلسطيني، فإن: «الجوهر الطبقي والعنصري للصهيونية أصبح واضحاً للغاية بعد أن نجحت البرجوازية الصهيونية في تحويل إسرائيل إلى قاعدتها الإقليمية وبدأت في استخدام أجهزة الدولة الإسرائيلية وموارد القوى البشرية التي تسيطر عليها لتحقيق أهدافها الأنانية." [23]
وبعد أن سيطرت القيادة الصهيونية على الدولة الجديدة، شرعت في تصعيد حملتها في العدوان والإرهاب. وبينما كان الدبلوماسيون الإسرائيليون يتحدثون عن شوق إسرائيل للسلام، كان قادة الحكومة الإسرائيلية مشغولين بالتحضير لأعمال إجرامية جديدة. يمكن للمرء أن يحصل على فكرة عما كان يحدث خلف الأبواب المغلقة في الغرف الحكومية في إسرائيل من خلال مقتطفات من مذكرات موشيه شاريت (شيرتوك)، التي نُشرت في ترجمة انجليزية. وبالمناسبة، لا توجد حتى الآن ترجمة كاملة للمذكرات، على الرغم من أن مذكرات أي زعيم إسرائيلي مهما كانت أهميته تتم عادة ترجمتها بسرعة، وإن كان مع بعض الإغفالات، في الولايات المتحدة. كان شاريت رئيسًا للدائرة السياسية للمنظمة الصهيونية العالمية، ووزيرًا للخارجية، ثم رئيسًا لوزراء إسرائيل، وفي نهاية حياته المهنية، كان رئيسًا للمنظمة الصهيونية العالمية. كان يعرف الكثير، وبالحكم على كل شيء، كان يميل إلى الصراحة في يومياته.
ووفقاً لشاريت، بينما كانت هناك صرخات هستيرية في تل أبيب حول "الخطر المميت" الذي يشكله العرب، قال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي موشيه ديان لرئيس الوزراء: "في الواقع، نحن لا نواجه أي خطر على الإطلاق من القوة العسكرية العربية. وحتى لو تلقوا مساعدات عسكرية ضخمة من الغرب، فسوف نحافظ على تفوقنا العسكري لمدة 8 إلى 10 سنوات أخرى، وذلك بفضل قدرتنا الأكبر بلا حدود على ادماج/استيعاب أسلحة جديدة. "ومع ذلك، طالب ديان "بإطلاق اليد" للجيش الإسرائيلي لأن "الأعمال الانتقامية هي شرياننا الحيوي". وقبل كل شيء، فهي تتيح لنا الحفاظ على التوتر الشديد بين سكاننا وفي الجيش. فلولا هذه الأفعال لكنا قد توقفنا عن كوننا شعبًا مقاتلًا، ولكان المستوطنون قد تركوا المستوطنات.»[24] لذلك، خشي ديان من أنه ما لم يثير الصهاينة هستيريا الحرب فإنهم سيفقدون قبضتهم على جماهير الشعب الإسرائيلي. وأصر ديان على أنه "من الضروري إقناع شبابنا بأننا في خطر". [25] ولتحقيق ذلك، كان الجيش الإسرائيلي على استعداد للذهاب إلى أقصى الحدود والقيام بأي استفزاز، مهما كان دمويًا.
وقد دوّن شاريت هذا في مذكراته: «الاستنتاجات من كلمات ديان واضحة: هذه الدولة ليس عليها التزامات دولية، ولا مشاكل اقتصادية، ومسألة السلام غير موجودة. وعليها أن تحسب خطواتها بضيق أفق وأن تعيش بالسيف. يجب أن تنظر إلى السيف باعتباره الأداة الرئيسية والوحيدة التي يمكن من خلالها الحفاظ على معنوياتها عالية. ولتحقيق هذه الغاية يجوز لها - لا، بل يجب عليها - أن تخترع مخاطر غير موجودة، ولكي تفعل ذلك عليها أن تتبنى أسلوب الاستفزاز والانتقام. وفوق كل شيء – دعونا نأمل في حرب جديدة مع الدول العربية، حتى نتمكن أخيرًا من الحصول على مساحتنا". [26] لربما كان اصل هكذا كلام قد اتى ليس من رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، بل من الجنرال النازي الذي كان يستعد للتحضير لاستفزاز محطة اذاعة جلايفيتز او اعمال اجرامية نازية اخرى مصممة لخلق ذريعة للعدوان و انجاز المجال الحيوي "Lebensraum”. {تنكّر جنود من القوات النازية كبولنديين في 31 أغسطس عام 1939، وشنوا هجومًا ضد محطة راديو جلايفيتز الألمانية. واتخذت ألمانيا هذا الهجوم ذريعة لشن الحرب ضد بولندا في اليوم التالي. }
لكن الجيش الإسرائيلي كان بحاجة أيضاً إلى أدوات مطيعة لتنفيذ خطته الإجرامية. من خلال إثارة جو من العنصرية والنزعة العسكرية في إسرائيل، يسعى القادة الصهاينة إلى تثقيف الشباب ليتبعوا مثال هؤلاء "الأبطال" و"الصهاينة النموذجيين" مثل جوزيف ترومبلدور ومائير هار تسيون.
كان ترومبلدور، ضابط صف سابق في الجيش الروسي القيصري، قد شارك مع زئيف جابوتنسكي في إنشاء الفيلق اليهودي أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم أدار فيما بعد أعمال تشكيل الوحدات شبه العسكرية الصهيونية في فلسطين. قُتل عام 1920 في اشتباك مع العرب. أطلق جابوتنسكي على منظمة الشباب "الصهاينة التحريفيين" اسم ترومبلدور، "بريت ترومبلدور" (أبناء ترومبلدور). وفي مذكراته، التي ينشرها الصهاينة على نطاق واسع بين الشباب الإسرائيلي، كتب ترومبلدور: "نحن بحاجة إلى رجال مستعدون لفعل كل شيء... يجب علينا تربية جيل من الرجال الذين ليس لديهم اهتمامات ولا عادات... قطع من حديد، مرن ولكن من حديد. معدن يمكن تشكيله لكل ما تحتاجه الآلة الوطنية. عجلة؟ أنا العجلة. إذا كانت هناك حاجة إلى مسمار أو برغي أو عجلة دائرة - خذني أنا! هل هناك حاجة لحفر الأرض؟ أَحفر. هل هناك حاجة لإطلاق النار ،لكي تكون جنديًا؟ أنا جندي.... أنا الفكرة المطلقة لخدمة {القضية}، مستعد لكل شيء.»[27]
وكان مئير هار تسيون، الذي ينتمي إلى جيل جديد من الإسرائيليين، مجرد ترس في الآلة. في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، خدم في السرية 101 التي كان يقودها في ذلك الوقت ضابط شاب من القوات المحمولة جوا، أريك شارون. وكانت للسرية مهمة خاصة تتمثل في تنفيذ "عمليات انتقامية" ضد السكان المدنيين العرب في المناطق الحدودية. إن "فكرة الخدمة المطلقة"، في هذه الحالة، اتخذت شكل الفظائع السادية المرتكبة ضد الفلاحين الفلسطينيين الأبرياء. وعندما تردد أحد ضباط السرية خوفاً من أن يؤدي القتل الوحشي للمدنيين إلى انهاء "نقاوة السلاح الإسرائيلي"، وبخه مساعد شارون قائلاً: "ليس هناك أسلحة نقية أو غير نقية؛ هناك فقط الأسلحة النظيفة التي تعمل عندما تحتاج إليها، والأسلحة القذرة التي تعطل لحظة إطلاق النار"[28]. لم يكن مئير هار تسيون من الذين آلمهم ضميرهم. لقد استمتع بقتل العرب لدرجة أنه لم يكتف بالمشاركة في الغارات الروتينية على القرى العربية. وحتى عندما كان خارج الخدمة، كان هار تسيون ينضم إلى رفاقه من القتلة في غزواتهم الليلية من أجل قتل المزيد من العرب.
وكانت السلطات الإسرائيلية على علم تام بالفظائع التي ارتكبتها عصابات السفاحين من نوع هار تسيون، ولم يخفوا ذلك أيضًا. تحتوي مذكرات شاريت على مدخل يقول إن بن غوريون أبلغ مجلس الوزراء ذات مرة عن مثل هذا الحادث. وصف بن غوريون كيف قام شبابنا الأربعة بأسر الأولاد البدو وأخذوهم إلى الوادي حيث طعنوهم حتى الموت واحدًا تلو الآخر بعد استجوابهم، وطرحوا عليهم أسئلة بالعبرية لم يفهموها. ولم يستطيعوا الإجابة، بينما لا أحد من المجموعة يعرف أي لغة عربية. وترأس المجموعة مئير هارتسيون من كيبوتس عين حرود”. لاحقًا أخبر أحد الضباط شاريت عن هذه الجريمة بمزيد من التفصيل: "جاء ضابط ... ليخبرني أن العملية الانتقامية برمتها تم تنظيمها بمساعدة نشطة من أريك شارون، قائد كتيبة المظليين. وقام بتزويد الأربعة بالأسلحة والطعام والمعدات ووسائل النقل وأمر بانسحابهم بحماية دورياته". [29]ولم يستبعد الضابط أن يكون ديان أيضًا على علم بالعملية مسبقًا. وكان الأربعة واثقين من أنهم لن يتعرضوا للعقاب، ورفضوا فيما بعد الحديث عن ذلك بناء على أوامر صريحة من أريك شارون، والتي ربما وافق عليها ديان. ولم تتم محاكمة القتلة، وأصبح هار تسيون "بطلا قوميا".
وقد دوّن شاريت هذا في مذكراته: «نحن نبرر الانتقام – لقد أزلنا المكابح العقلية والأخلاقية عن هذه الغريزة وجعلنا من الممكن... اعتبار الانتقام مبدأ أخلاقي. لقد أصبح الأمر كذلك لدى قطاعات واسعة من الجمهور بشكل عام، وجماهير الشباب بشكل خاص، لكنه وصل إلى مستوى المبدأ المقدس في كتيبة (شارون) التي تشكل أداة الانتقام للدولة...». [30] ينبغي لنا أن نقدم تصحيحًا هنا – ليس الانتقام بل الإرهاب الذي تم رفعه إلى مستوى سياسة الحكومة.
الإرهاب كسياسة حكومية
ويتصدر الإرهاب الصهيوني ضد العرب. كما أنه يمثل شكلاً من أشكال معاداة السامية لأن الشعب العربي ينتمي إلى المجموعة السامية.
بعد وقت قصير من انتهاء الحرب العربية الإسرائيلية الأولى في الفترة 1948-1949، فرضت القيادة الصهيونية في إسرائيل "حالة حصار" على تلك المناطق من البلاد التي بقي فيها الفلسطينيون. وفي المنطقة الحدودية، شن الجيش الإسرائيلي، بحجة وقف "التسلل" الفلسطيني، حربًا غير معلنة على القرى العربية ومخيمات اللاجئين، مما أسفر عن مقتل الفلسطينيين الذين كانوا يحاولون العودة إلى منازلهم وحقولهم. في عام 1952 وحده قُتل 394 عربيًا، وجُرح 227، وأُسر ما يصل إلى 2595. وفي عام 1953، ارتكب الصهاينة مجزرة في قرية قبية الفلسطينية الواقعة على خط وقف إطلاق النار الأردني الإسرائيلي. فجر خمسة وأربعين منزلاً. قُتل 66 فلسطينياً وأصيب 75 آخرون.
انطلاقا من مذكرات رئيس الوزراء آنذاك إسرائيل موشيه شاريت، منحت الدوائر الحاكمة في البلاد جنرالاتها "شيكًا على بياض" ووصفت أعمالهم الإجرامية بأنها "أعمال انتقامية" ردًا على "أعمال الإرهاب" المزعومة التي قام بها لاجئون فلسطينيون. وهكذا، بعد الهجوم على قبية أصر بن غوريون «... على استبعاد (من البيان الرسمي) أي ذكر لمسؤولية الجيش؛ لقد أخذ المدنيون في المنطقة الحدودية الأمور بأيديهم.»[31] في الواقع، كانت المذبحة من عمل سفاحين من السرية 101 لآرييل شارون.
لتوسيع نطاق العمليات الإرهابية، في ديسمبر 1953، شكلت كتيبة المظليين 202 على أساس السرية رقم 101. وعين شارون قائدا للكتيبة الجديدة. في عام 1954، شاركت الكتيبة 202 في عمليات إرهابية متواصلة تقريبًا على طول خط وقف إطلاق النار مع الأردن ومصر وسوريا. في 28 مارس هاجمت قرية نحالين ،في 3 أبريل – غزة ،في 7 أبريل – قرية حوسان ،في 9 مايو – خربة إيلين ،في 27 مايو – خربة جيمبا، في 28 يونيو – عزون ،في 1 أغسطس – جنين، ويوم 13 أغسطس - الشيخ مذكور، ويوم 15 أغسطس - بئر السقا.
في فبراير 1954، أعيد ديفيد بن غوريون إلى الحكومة الإسرائيلية بعد تقاعده المؤقت ومنحه منصب وزير الدفاع. وكما ذكر موشيه شاريت، الذي كان رئيساً للوزراء في ذلك الوقت، في مذكراته، قال بن غوريون إنه لن يوافق إلا على "الانضمام إلى حكومة تتبع سياسة القوة".[32] أطلقت القيادة الصهيونية سياسة تهدف إلى إثارة حرب جديدة. في 27 فبراير/شباط، حصل بن غوريون ورئيس أركان الجيش موشيه ديان على "الضوء الأخضر" لتنفيذ "عملية" في قطاع غزة حيث يعيش مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين تحت حماية الجيش المصري. وكانت الخطة تقضي بمهاجمة قاعدة للجيش المصري خارج غزة. ومن أجل تضليل الرأي العام العالمي، صورت الدعاية الصهيونية الهجوم على أنه "عمل دفاعي". ويتذكر شاريت ما يلي: “إن المتحدث باسم الجيش، بناءً على تعليمات من وزير الدفاع، نشر رواية كاذبة مفادها أن وحدة منا، بعد تعرضها للهجوم داخل أراضينا، طاردت المهاجمين وخاضت معركة تطورت فيما بعد " [33]. وفي الواقع، لم يكن العمل الإسرائيلي سوى عدوان غير مبرر. كتب الجنرال الكندي إي إل إم. بيرنز، الذي ترأس فريق مراقبي الأمم المتحدة على خط الهدنة:
"في ليلة 28 فبراير 1955، عبرت فصيلتان من المظليين الإسرائيليين خط الهدنة شرق غزة، وتقدمتا أكثر من ثلاثة كيلومترات داخل القطاع الذي يسيطر عليه المصريون، وهاجمتا معسكرًا للجيش بالقرب من محطة السكة الحديد باستخدام الأسلحة الصغيرة ومدافع الهاون والبازوكا والقنابل اليدوية وطوربيدات بنغالور اقتحموا المعسكر و فجروا بعبوات متفجرة ثقيلة بالكامل مبنى عسكريًا حجريًا وأربعة أكواخ نيسن ومضخة. قتلوا أربعة عشر جنديًا مصريًا أو فلسطينيًا، ومدنيًا بالغًا، وطفلًا صغيرًا، وجرحوا ستة عشر جنديًا واثنين من المدنيين.
وأضاف أن "مجموعة أخرى من جنود الاحتلال توغلت في قطاع غزة على مسافة ستة كيلومترات جنوب غزة ونصبت كمينا على الطريق الرئيسي من رفح. وفي هذا الكمين دخلت شاحنة تقل ملازمًا وخمسة وثلاثين جنديًا، معظمهم من الفلسطينيين، قادمين من الجنوب لتعزيز المدافعين عن المخيم".[34]
وقد أدى هذا الهجوم الخاطف، الذي تم تنفيذه في انتهاك لاتفاق الهدنة بين مصر وإسرائيل، إلى تفاقم الصراع في الشرق الأوسط. وبهذه الطريقة حاولت القيادة الصهيونية إقناع مصر والدول العربية الأخرى بسحب دعمها للقضية الفلسطينية، وبالتالي تمهيد الطريق لإقامة "إسرائيل الكبرى".
وفي اجتماع لمجلس الوزراء في أواخر مارس/آذار 1955، قال وزير الدفاع الإسرائيلي إن إسرائيل يجب أن تلغي اتفاقية الهدنة مع مصر، وبالتالي تحصل على "الحق" في اعادة اشعال حرب 1948-1949 من جديد. وقال: "إن عبد الناصر لن يبدي حتى أي رد فعل لاحتلالنا للضفة الغربية لأنه إذا فعل ذلك فسوف يُهزم وينهار نظامه الذي يعتمد بالكامل على الجيش. ولن تهب الدول العربية لمساعدة عبد الناصر على أية حال. وأخيراً الغرب القوى لن يرد عسكريا".[35]
شاريت، الذي كان يعتبر معتدلا بين الصهاينة ،لم يؤيد اقتراح بن غوريون. لا يعني ذلك أنه كان متردداً في تحمل المسؤولية عن العدوان. ما دفعه للتوقف كان شيئًا آخر: فقد كان يخشى أن يؤدي الاستيلاء على أراضٍ جديدة إلى زيادة كبيرة في عدد السكان الفلسطينيين الخاضعين للسيطرة الإسرائيلية. وكان من المفترض أن تكون إسرائيل، بحسب النظرية الصهيونية، دولة يهودية "نقية".
لم تثر هذه الحجج إعجاب بن غوريون، الذي قال إن "مستقبلنا لا يعتمد على ما يقوله غير اليهود، بل على ما يفعله اليهود"[36]. وقد قال للحكومة ذات مرة: "إن قوتنا تكمن في بناء وقائع- هذه هي الطريقة الوحيدة لكي نصبح عاملاً سياسياً يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار. هذه هي اللحظة المناسبة لأن العالم العربي منقسم.»[37] اعتقد بن غوريون أن إسرائيل لن تتمكن من فرض شروط السلام على العرب إلا بعد تحقيق نصر حاسم في حرب شاملة، أي باحتلال دمشق والقاهرة وعمان. لكن الحكومة الإسرائيلية كانت منقسمة حول هذه القضية: صوت ستة وزراء لصالح الاحتلال الفوري لقطاع غزة، وصوت ستة ضده وامتنع أربعة عن التصويت. تم وضع الخطة جانبا في الوقت الحالي، ولكن لم يتم التخلي عنها.
في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على غزة ،وجدت مصر نفسها تحت تهديد الهجوم، وتوجهت حكومة عبد الناصر لطلب المساعدة من الدول الاشتراكية بعد أن رفضت الولايات المتحدة طلبها للحصول على الأسلحة. وفي سبتمبر تم التوقيع على اتفاقيات بشأن شحنات الأسلحة إلى مصر (بناء على طلبها) من قبل الاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا وبولندا. وأثار هذا غضب حماة إسرائيل في الولايات المتحدة. واشنطن، التي حافظت حتى ذلك الحين على موقف "الحياد" في الصراع العربي الإسرائيلي، بدأت الآن تغير مسارها. قال كيرميت روزفلت، مدير العمليات السرية لوكالة المخابرات المركزية في الشرق الأوسط، لرؤساء المخابرات الإسرائيلية: "إذا ضربت مصر عند وصول الأسلحة السوفييتية، فلن يحتج أحد".[38]
في الساعة الخامسة من صباح يوم 29 أكتوبر 1956، ودون إعلان الحرب، نزل 395 مظليًا إسرائيليًا بالقرب من ممر متلا في شبه جزيرة سيناء. وكانت هذه بداية العدوان الثلاثي على مصر وكانت في نفس الوقت الحرب العربية الإسرائيلية الثانية. وتلاها حرب ثالثة ورابعة وخامسة.
طوال ثلاثة عقود ونصف، ظلت النخبة الحاكمة في إسرائيل تشن حروباً شبه متواصلة ضد الدول العربية. لقد أصبح الإرهاب الأداة الرئيسية للسياسة الإسرائيلية تجاه العرب.
كما استخدم الإرهابيون الصهاينة التعصب الديني لإثبات "حقهم" في القتل العشوائي. أصدر المقر الرئيسي والمجلس الحاخامي للجيش الإسرائيلي كتيبًا كتب فيه أحد مؤلفيه، الحاخام أبراهام أفيدان، أنه لا يتعين على الجنود الإسرائيليين التمييز بين أفراد العدو العسكريين والمدنيين على الرغم من أنه كان من الممكن من الناحية الفنية القيام بذلك. ووفقاً له، عندما يتعلق الأمر بقتل المدنيين في زمن الحرب، لا ينبغي لأي يهودي متدين أن يثق بغير يهودي، ويجب أن يتذكر دائماً أنه حتى المدنيين قد يساعدون العدو. لقد دعا هذا الحاخام العسكري إلى إبادة جماعية فعلية عندما كتب أنه عندما يهاجم الجيش الإسرائيلي العدو، يُسمح لجنوده، وهم في الواقع ملتزمون حسب واجبهم، بقتل مدنيين صالحين أيضًا لأن الشريعة الدينية تقول أنه لا ينبغي تصديق ان غير اليهودي لن يساعد العدو.
وعندما نشرت صحيفة الهمشمار الإسرائيلية تقريرا عن هذا الكتيب، في 28 مارس/آذار 1975، أعلنت سلطات تل أبيب، للتكتم على الفضيحة، سحبه من التداول. وقال الحاخام الأكبر للقوات المسلحة إن الكتاب "تناول" جوانب مجردة من الشريعة الدينية التي لا علاقة لها بالحياة اليومية، وإن أحداً لم يطرح هذه المبادئ كمبادئ توجيهية لسلوك الجنود الإسرائيليين في وقت الحرب أو سلام. ولكن هناك دليل واضح على أنه بمباركة رجال الدين، ارتكب المعتدون الإسرائيليون وما زالوا يرتكبون جرائم ضد السكان العرب المدنيين.
مثال على كيفية تطبيق المفاهيم "الفلسفية" للمدافعين الصهاينة عن القتل والإرهاب، قدمته المأساة التي حلت بالقرية العربية كفر قاسم في إسرائيل في 29 أكتوبر 1956. في ذلك اليوم، كما ذكرنا سابقًا، شن مظليو شارون حربا عدوانية على مصر. ووفقاً للسيناريو الذي تم إعداده مسبقاً، أصدرت الحكومة الإسرائيلية بياناً رسمياً أوضحت فيه أن العمليات العسكرية كانت محدودة ضد "الإرهابيين" وليست بداية حرب للاستيلاء على قطاع غزة وسيناء. في وقت لاحق فقط بدأت الأعمال العدائية على طول الجبهة بأكملها بمشاركة جيش الغزو الأنجلو-فرنسي. لكن في 29 تشرين الأول/أكتوبر فرضت السلطات الإسرائيلية حظر التجول على جميع القرى العربية داخل إسرائيل. واعتبرت القيادة الصهيونية العرب الإسرائيليين "العدو" الذي يمكنه مساعدة الدول العربية المجاورة.
في الساعة 4.30 مساءً ابلغ أحد ضباط حرس الحدود الإسرائيلي مختار (شيخ القرية) كفر قاسم إنه سيتم فرض حظر التجول اعتبارًا من الساعة 17.00{الساعة 5 مساءً}، ويجب على جميع سكان القرية البقاء في منازلهم. وأوضح الشيخ أن 400 فلاح ما زالوا في الحقول ولا يمكن إبلاغهم بحظر التجول، لكن الضابط الإسرائيلي لم يقبل هذا التفسير. وبعد ذلك لمدة ساعة تقريبًا، سُمع دوي إطلاق نار على أطراف القرية. أطلق حرس الحدود الإسرائيليون، دون سابق إنذار، النار من مسافة قريبة على الفلاحين العرب العائدين إلى القرية من الحقول. قُتل سبعة وأربعون شخصًا، من بينهم رجل يبلغ من العمر 66 عامًا وتسع نساء وسبعة أطفال. وفي وقت لاحق قتل رجلان آخران.
تسربت أخبار الجريمة. وتحت ضغط القوى الديمقراطية في البلاد، اضطرت الحكومة الإسرائيلية إلى محاكمة المسؤولين عن ذلك. وتبين أن المذبحة تم التخطيط لها من قبل مجموعة من ضباط الجيش الإسرائيلي. أصدر الجنرال تسفي تسور، قائد المنطقة العسكرية المركزية، الأمر صباح يوم 29 أكتوبر إلى قادة الكتائب بما في ذلك يشيشكار شادمي الذي كان مسؤولاً عن حرس الحدود. "قال قائد الكتيبة (شادمي).... لقائد الوحدة (ميلينكي) إن حظر التجول يجب أن يكون صارماً للغاية ويجب اتخاذ إجراءات قوية لتطبيقه. ولن يكون كافيًا إلقاء القبض على أولئك الذين انتهكوا الأمر، بل يجب إطلاق النار عليهم.»[39]
وعند عودته إلى مقره، أخبر ميلينكي مرؤوسيه عن الأمر. "لقد أبلغ الضباط المجتمعين أن الحرب بدأت، وأن وحداتهم أصبحت الآن تحت قيادة جيش الدفاع الإسرائيلي، وأن مهمتهم هي فرض حظر التجول في قرى الأقليات من الساعة 17.00 إلى الساعة 06.00، بعد إبلاغ المخاتير بهذا المعنى في الساعة 16.30. وفيما يتعلق بمراعاة حظر التجول، أكد ملينكي أنه يمنع إيذاء السكان الذين مكثوا في منازلهم، إلا أن أي شخص وجد خارج منزله (أو، بحسب شهود آخرين، أي شخص يغادر منزله، أو أي شخص يكسر حظر التجول) يجب أن يُقتل بالرصاص. وأضاف أنه لن يكون هناك أي اعتقالات، وأنه إذا قُتل عدد من الأشخاص في الليل (بحسب شهود آخرين: كان من المرغوب فيه أن يُقتل عدد من الأشخاص) فإن ذلك من شأنه أن يسهل فرض حظر التجول في الليالي التالية." [40] وقال أيضًا إنه لا ينبغي استثناء الأشخاص العائدين من حقولهم أو النساء والأطفال.
الملازم جبرائيل دهان، الذي كان مسؤولاً عن فرض "النظام" في قرية كفر قاسم، نشر رجاله على مداخل القرية وشاهد بهدوء المختار وأقاربه يركضون في الشوارع محاولين تحذير أكبر عدد ممكن من الناس ومنع المأساة. ولكن بعد فوات الأوان. في الساعة 17.00 بدأت المذبحة. الملازم الذي كان مسؤولاً عن العملية والذي كان هو نفسه يطلق النار على الفلاحين المطمئنين العائدين من الحقول، اتصل باللاسلكي للرائد ميلينكي: "... سقط واحد... سقط خمسة عشر.... سقط كثيرون، من الصعب عدهم ."[41]
واستغرقت محكمة إسرائيلية عامين للتحقيق في هذه الجريمة. وكان المتهمون أحد عشر جنديا من بينهم الرائد ميلينكي والملازم دهان. برء ثلاثة من المتهمين، وحكم على ثمانية منهم بالسجن لفترات تتراوح بين سبعة وسبعة عشر عاما. إلا أن المحكمة العسكرية العليا تدخلت وخففت الأحكام. في وقت لاحق قام رئيس الأركان العامة مرة أخرى بتخفيض أحكام السجن وأخيراً... توسط رئيس إسرائيل نفسه. ونتيجة لذلك، اطلق سراح جميع القتلة بعد مرور عام على صدور الأحكام. وفي عام 1960، عين المجلس البلدي لمدينة الرملة الإسرائيلية دهان "ضابطًا مسؤولاً عن الشؤون العربية في المدينة".
ولم تتم محاكمة قائد الكتيبة شادمي والجنرال تسور على الإطلاق. وبالمناسبة، تم تعيين الجنرال تسور لاحقاً رئيساً للأركان العامة.
بل إن سياسة الإرهاب تجاه السكان العرب في إسرائيل تحظى بموافقة قانونية. إن التشريع الذي يتناول شؤون العرب في إسرائيل برمته هو بمثابة نهب قانوني وإرهاب. وأشار المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الإسرائيلي إلى أن حكومة بيغن "صعدت من سياسة التمييز والقمع تجاه السكان العرب في إسرائيل، الذين يشكلون أقلية قومية وجزءاً من الشعب العربي الفلسطيني. كما كثفت حكومة كتلة الليكود سياسة مصادرة وطرد السكان العرب من أراضيهم."[42]
وقد تبنى الكنيست الإسرائيلي سلسلة من القوانين العنصرية التي تهدف إلى طرد العرب من وطنهم. وتشمل هذه القوانين سيئة السمعة (المناطق الأمنية) لعام 1949، وقانون أملاك الغائبين لعام 1950، وقانون تجميع الأراضي الزراعية لعام 1965، وغيرها من القوانين التي "تشرع" سرقة العرب. وهكذا فإن قانون أملاك الغائبين جرد الفلسطينيين الذين فروا من البلاد خلال الحرب العربية الإسرائيلية الأولى من حق الاحتفاظ بممتلكاتهم.
وبقدر ما رفضت السلطات الإسرائيلية بشكل قاطع منحهم الإذن بالعودة إلى ديارهم وتقديم مطالباتهم فيما يتعلق بممتلكاتهم، فإن معنى القانون واضح بما فيه الكفاية.
كما تم اللجوء على نطاق واسع إلى مصادرة الأراضي العربية "لأسباب عسكرية" أو تحت ذرائع أخرى. وهكذا، فإن 78 قرية عربية كانت تمتلك في وقت ما 1.1 مليون دونم من الأراضي، انتهى بها الأمر إلى امتلاك 376 ألف دونم فقط. وإجمالاً، قامت السلطات الإسرائيلية بطرد الفلاحين العرب من أكثر من 1.2 مليون دونم من الأراضي. تظهر هذه الأرقام كيفية تطبيق العقيدة العنصرية حول إنشاء دولة يهودية "نقية".
والمثال الآخر هو "تهويد" الجليل، المنطقة الشمالية من إسرائيل، والتي كان من المقرر أن تصبح، بموجب قرار الأمم المتحدة، جزءًا من دولة فلسطين العربية. وعلى الرغم من هذا احتلت إسرائيل الجليل عام 1948. ولم يكن في هذه المنطقة سكان يهود يمكن الحديث عنهم، ولهذا السبب تبنت القيادة الصهيونية استراتيجية "تهويد" الجليل. وقد تم توضيح ذلك في عدد من الوثائق السرية، أولها مذكرة إلى بن غوريون كتبها جوزيف نحماني من الصندوق القومي اليهودي. وقالت: "على الرغم من احتلال الجليل الغربي الآن، إلا أنه لم يتم تحريره بعد من سكانه العرب، كما حدث في أجزاء أخرى من البلاد... تمثل الأقلية العربية المتمركزة هنا تهديدًا مستمرًا لأمن الأمة ..... على أقل تقدير يمكن أن تصبح نواة القومية العربية، متأثرة بالحركات القومية في الدول المجاورة، وتقوض استقرار دولتنا."[43] آمن جوزيف نحماني "بضرورة تدمير هذا التركيز للعرب من خلال بناء المستوطنات اليهودية” ومن ثم نقل الأراضي العربية إلى الصندوق القومي اليهودي.
وفي عام 1962، طرح زعيم صهيوني آخر، جوزيف فايتز، خطة لتسريع "تهويد" الجليل، والتي دعت إلى بناء مدينة جديدة، الناصرة العليا، وحدد التدابير اللازمة لإنشاء مستوطنات يهودية جديدة. في عام 1976، توصل إسرائيل كونينغ، مفوض المنطقة الشمالية (الجليل) بوزارة الداخلية، إلى خطة جديدة لمزيد من "تهويد" الجليل. وشدد تقرير كونينغ على أن نمو السكان العرب في الجليل يشكل تهديدًا لسيطرة السلطات الإسرائيلية على المنطقة، وتضمن التقرير عددًا من التوصيات التي تماثل سياسة إسرائيل العنصرية. اقترح أحدهم "توسيع" الاستيطان اليهودي في المناطق "التي يكون فيها التواصل بين السكان العرب بارزًا، وحيث يكون عددهم أكبر بكثير من السكان اليهود"، ودراسة "إمكانية إضعاف التجمعات السكانية العربية الحالية". [44] ودعا آخر إلى انتهاج سياسة "استثمار" تضمن ألا يشكل العرب أكثر من 20% من العاملين، وإلى زيادة الضرائب ووضع حد لـ "اعتماد" اليهود على العرب في قطاع الاقتصاد.
وأثار نشر هذا التقرير فضيحة في إسرائيل. اضطرت الحكومة إلى النأي بنفسها عن الوثيقة، على الأقل لفظيا، لكن التدابير التي اقترحها كونينغ تم تنفيذها منذ ذلك الحين من قبل القيادة الصهيونية في تل أبيب. ومن الجدير بالذكر أنه بعد أسبوع من نشر تقريره، تم تعيين كونينغ رئيسًا للجنة المنطقة الشمالية بما في ذلك الجليل المكلفة بمنع "البناء غير القانوني" للمنازل العربية "على الأراضي المملوكة للحكومة الإسرائيلية".
السكان العرب في إسرائيل، يدعمهم القسم الديمقراطي من اليهود شنوا معركة من أجل حقوقهم . وقد اتخذت الاحتجاجات ضد محاولات السلطات الإسرائيلية حرمان العرب من الأراضي التي ما زالوا يملكونها نطاقاً واسعاً. نظمت مظاهرة احتجاجية كبرى في 30 مارس/آذار 1976، بمناسبة "يوم الدفاع عن الأرض" الذي أعلنه المجتمع العربي.
في تلك المناسبة، كما في مناسبات عديدة سابقة، تعرض المتظاهرون العرب لهجوم من قبل قوات الأمن التي فتحت النار، مما أسفر عن مقتل ستة أشخاص وإصابة العشرات. وتم اعتقال مئات الأشخاص وضربهم وتعذيبهم.
وأشار المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الإسرائيلي إلى أن حكومة بيغن صعدت حملتها الإرهابية ضد الشباب العربي. وقد اتخذ ذلك شكل هجمات اصطيادية وهجمات على الطراز الفاشي نظمها حزب تيهيا، وأعمال شغب نفذتها عصابات الحاخام كاهانا والجماعات المماثلة. ومن الجدير بالذكر أن إدارة معظم الجامعات في إسرائيل تحمي هؤلاء الفاشيين بل وتشجعهم.
لكن السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية والدروز في مرتفعات الجولان (التابعة لسوريا) يجدون أنفسهم في وضع أكثر صعوبة من وضع السكان العرب في إسرائيل. ويتعرض السكان المحليون في الأراضي العربية التي تحتلها إسرائيل يومياً للإذلال والإرهاب. يتعرض الفلسطينيون المعتقلون في معسكرات الاعتقال والسجون للتعذيب. وحتى الصحافة الغربية، التي تميل إلى تصديق تأكيدات الدعاة الصهاينة حول "رخاء" العرب في المناطق التي تحتلها إسرائيل، قد اعترفت بذلك. وكتبت صحيفة "صنداي تايمز" بعد أن أجرى مجموعة من مراسليها دراسة خاصة لوضع السجناء العرب في السجون الإسرائيلية:
"1. تسيء أجهزة الأمن والمخابرات الإسرائيلية معاملة العرب المحتجزين. 2. بعض أشكال سوء المعاملة هي مجرد بدائية: الضرب لفترات طويلة، على سبيل المثال. لكن تقنيات أكثر تفننًا تستخدم أيضاً، بما في ذلك التعذيب بالصدمات الكهربائية والحبس في زنزانات معدة خصيصاً لذلك. وهذه النوعية من الأساليب، بالارتباط مع درجة التنظيم الواضحة في تطبيقها ، يبعد إسرائيل من مستويات الوحشية الادنى ويضعها بقوة في فئة التعذيب. 3. يمارس التعذيب في ستة مراكز على الأقل: في سجون المدن الأربع الرئيسية المحتلة: نابلس، رام الله والخليل في الضفة الغربية، وغزة في الجنوب؛ وفي مركز الاعتقال في القدس، المعروف باسم المجمع الروسي؛ وفي مركز خاص للاستخبارات العسكرية، مكان وجوده غير مؤكد، ولكن تشير الشهادات إلى أنه يقع في مكان ما داخل قاعدة الإمداد العسكرية الواسعة في الصرفند، بالقرب من مطار اللد على طريق القدس-تل أبيب. هناك بعض الأدلة أيضًا على أنه، على الأقل لبعض الوقت، كان هناك مخيم ثانٍ من هذا النوع في مكان ما بالقرب من غزة.[45]
وزارة الخارجية الأمريكية، التي تنشر تقارير سنوية حول "حالة الحقوق المدنية" في مختلف البلدان، تقارير مليئة بادعاءات فظة حول انتهاكات حقوق الإنسان في الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى، تعطي علامات عالية للسلطات الإسرائيلية لسجلها في مجال حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة. وهذا على الرغم من حقيقة أنه حتى موظفي القنصلية الأمريكية في القدس أبلغوا واشنطن مرارًا وتكرارًا باستخدام التعذيب في السجون الإسرائيلية. وبعد زيارة وفد من المحامين الأمريكيين من نقابة المحامين الوطنية إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، نشرت النقابة تقريرا بعنوان "معاملة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلتين من قبل إسرائيل"، والذي أشار إلى حالات انتهاك حقوق الفلسطينيين من قبل الصهاينة. وشدد مؤلفو التقرير على أن إجراءات المحكمة الإسرائيلية استندت بالكامل تقريبًا إلى "اعترافات" المتهمين بالقيام بأنشطة "إرهابية". ولا يطالب بأي أي دليل آخر على "ذنبهم".[46] ومع ذلك، فضل المسؤولين في واشنطن غض الطرف عن مثل هذه الانتهاكات الصارخة لإجراءات المحاكمة. تم فصل أحد موظفي القنصلية الأمريكية في القدس، الذي أرسل برقيات إلى وزارة الخارجية في واشنطن حول استخدام التعذيب ضد الفلسطينيين.
إن "العقاب الجماعي" الذي تمارسه السلطات الإسرائيلية ضد بلدات ومناطق بأكملها في المناطق المحتلة هو أمر صادم بشكل خاص. وفي مايو/أيار 1980، وُضعت مدينة الخليل الفلسطينية، التي يبلغ عدد سكانها 60 ألف نسمة، "رهن الاعتقال". بعد أن هاجم مقاتلون فلسطينيون المستوطنين الإسرائيليين في شوارع مدينة الخليل، تعرضت البلدة "لعقاب جماعي": فقد تم ترحيل رئيس البلدية والقاضي (الزعيم الديني)؛ ومُنع سكانها من مغادرة المدينة أو استقبال ضيوف أو زوار من الخارج؛ وفُرض حظر التجول لأكثر من شهر، مما أثر بشكل رئيسي على الفلاحين (أغلبية سكان الخليل)، الذين لم يتمكنوا من العمل في حقولهم وبساتينهم أو رعاية مواشيهم؛ وانقطعت خدمة الهاتف لمدة 45 يوما؛ مُنع تجار الخليل من نقل بضائعهم إلى الأردن. احتجز واستجوب جميع الرجال في البلدة، وتم اعتقال العشرات؛ وتم تفتيش كل منزل في مدينة الخليل. "كشفت روايات شهود عيان عن عمليات التفتيش هذه التي أجراها الجنود الذين شاركوا فيها أنه خلال هذه العملية تم قطع الإمدادات الغذائية، وتحطم الأثاث، وتعرض الآباء للضرب والإذلال أمام أطفالهم. وكل هذا تم بناء على تعليمات محددة من ضباطهم"[47]
ومن أواخر عام 1981 إلى يوليو/تموز 1982، فرض "عقاب جماعي" على جميع السكان العرب في مرتفعات الجولان. في 13 كانون الأول (ديسمبر) 1981، أعلنت حكومة بيغن عن توسيع نطاق التشريع الإسرائيلي ليشمل هذه الأراضي السورية (وهي خطوة تعادل ضمها) وحاولت إجبار السكان الدروز المحليين على الحصول على الجنسية الإسرائيلية. لكن الدروز رفضوا ذلك. ثم أغلقت السلطات الإسرائيلية أربع قرى درزية وفرضت حظر التجول. ودخل جنود الاحتلال إلى منازل أهالي القرية وحاولوا إجبارهم على قبول الأوراق الإسرائيلية. أضرب الدروز وأحرقوا الأوراق.
وكما ذكرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية في 15 مارس/آذار 1982، فإن 12 ألف شخص كانوا مسجونين في منازلهم: "لا أحد يأتي أو يذهب. لقد تم قطع الهواتف. القرى محاطة بالأسلاك الشائكة وحواجز الطرق... السكان المحليون محاصرون في قراهم دون إمدادات غذائية (باستثناء ما يستعد الجيش الإسرائيلي لبيعه لهم)، ودون خدمات طبية منتظمة وأدوية وغيرها من الضروريات. وفي بعض الأحيان يكونون أيضًا بدون كهرباء. يحظر على الرعاة رعي قطعانهم. ولا يجوز للفلاحين زراعة حقولهم أو الاعتناء ببساتينهم.»[48] .يومًا بعد يوم، وأسبوعًا بعد أسبوع، وشهرًا بعد شهر، استمر الحصار المفروض بموجب قوانين الطوارئ سيئة السمعة لعام 1949. وتعرض الدروز العزل للإذلال والترهيب من قبل الجنود الإسرائيليين الغاضبين . ووصفت صحيفة جيروزاليم بوست كيف اقتحم الجنود أحد المنازل لإجبار الأسرة التي تعيش هناك على قبول الأوراق الإسرائيلية. وبعد فشلهم، ألقى الإسرائيليون الأوراق على الأرض وغادروا المنزل. "... ضرب جندي بالهراوات طفلاً يبلغ من العمر ثلاث سنوات ألقى بطاقة هوية خارج المنزل، وأطلق النار على والدة الصبي في ساقها عندما هاجمت الجندي، وخدش رأس الأخ برصاصة عندما هرع للدفاع عن والدته". [49] وحتى عضو سابق في المحكمة العليا الإسرائيلية، نقلت عنه الصحيفة، وصف سلوك السلطات الإسرائيلية بأنه همجي.
إن الهدف النهائي للسياسات الإسرائيلية في الأراضي العربية المحتلة هو تحويلها إلى مستعمرة إسرائيلية، وقبل كل شيء، عن طريق إقامة المستوطنات اليهودية هناك. وهذه مستوطنات يهودية وليست إسرائيلية، لأنه لا يُسمح للمواطنين العرب في إسرائيل بالعيش فيها (لكن جميع اليهود القادمين من الشتات لهم هذا الحق).
وقد تم تكثيف عمليات مصادرة ممتلكات الفلسطينيين في الأراضي التي تحتلها إسرائيل بعد أن تولت حكومة بيغن السلطة. وفي الوقت الحاضر، فإن 40 في المائة من جميع الأراضي وأكثر من نصف جميع موارد المياه في الضفة الغربية تخضع للسيطرة الإسرائيلية. بلغ عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية 2500 مستوطن عام 1982. وتخطط القيادة الصهيونية لتوطين 100 ألف يهودي في الضفة الغربية بحلول عام 1986، و1,000,000 بحلول عام 2010.
ولم تصبح المستوطنات اليهودية في الأراضي العربية المحتلة بؤراً استيطانية للضم الإسرائيلي فحسب، بل أصبحت بؤراً للإرهاب الإسرائيلي أيضاً. وبتشجيع من السلطات، قام المتعصبون الصهاينة من منظمة غوش إيمونيم ومختلف الجماعات المتطرفة الأخرى بمهاجمة القرى والبلدات العربية المجاورة وتنفيذ المذابح هناك.
ومع ذلك، فشلت الحكومة الإسرائيلية في فرض إرادتها على الفلسطينين في الضفة الغربية وقطاع غزة، الذين أبدوا تصميمهم على النضال من أجل حقوقهم المشروعة والذين يعتبرون منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد لهم. وفي مواجهة هذه المقاومة، حاولت القيادة الصهيونية تنفيذ "الحل النهائي" للقضية الفلسطينية من خلال التدمير المادي لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وهو عمل عدواني أطلقت عليه لتضليل الرأي العام العالمي ،اسم "عملية سلام الجليل".
وإليك ما كتبته جودي باول، واحدة من مساعدي الرئيس كارتر و التي كانت حاضرة في مناسبات عديدة أثناء المحادثات مع بيغن وشارون وعند التوقيع على اتفاق كامب ديفيد، في صحيفة واشنطن بوست: "إن عملية سلام الجليل لها نفس القدر من الأهمية للضفة الغربية كما بالجليل. والهدف في لبنان والضفة الغربية هو إزالة منظمة التحرير الفلسطينية كعامل سياسي وعسكري. ومن ثم، فمن الواضح أن بيغن وشارون يشعران بأنهما سيكونان قادرين على حث الفلسطينيين في الضفة الغربية على قبول خطة الحكم الذاتي الشكلية والمضي قدماً في جعل الضفة الغربية جزءاً دائماً من إسرائيل."[50]
وكانت أهداف هذا العدوان الإسرائيلي تتجاوز ذلك بكثير. بصرف النظر عن تدمير منظمة التحرير الفلسطينية، خطط بيغن ورفاقه المقربون لإقامة نظام عميل في لبنان وإلحاق هزيمة عسكرية بالقوات السورية المتمركزة هناك. علاوة على ذلك، اعتبر الصهاينة منذ فترة طويلة جنوب لبنان جزءًا مما يسمونه "أرض إسرائيل التاريخية". وهم مهتمون بشكل خاص بموارده المائية – نهر الليطاني وروافده – لري الحقول في شمال إسرائيل. كما اعلنت غوش إيمونيم في إعلان نشرته صحيفة معاريف بتاريخ 3 أكتوبر 1982
: "إننا نعتبر "حملة سلام الجليل" حربًا مقدسة، وعملًا عظيمًا لتمجيد الرب الذي تدخل في هذه الحملة.... لقد أعادت ممتلكات سبط أشير ونفتالي إلى حدود إسرائيل. [51] وهكذا، باستدعاء الرب و"أجيال إسرائيل" التي اختفت منذ زمن طويل، يسعى الصهاينة إلى تبرير خططهم لإدامة سيطرتهم على جنوب لبنان.
وتصاعدت "عملية سلام الجليل" إلى حرب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين واللبنانيين. ووفقاً لإحصائيات اليونيسف، فقط خلال الفترة ما بين 4 يونيو و15 أغسطس 1982، أو بحلول الوقت الذي تم فيه التوصل إلى اتفاق بشأن انسحاب مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، قُتل أو جُرح 11840 طفلاً دون سن الخامسة عشرة، بالإضافة إلى 8686 امرأة و2409 شيخاً (الستين فما فوق). أثناء حصار بيروت الغربية، مات 300 شخص جوعا، وأصيب 2058 بأمراض خطيرة، وعانى 1637 من التسمم الغذائي الحاد، وأصيب 1845 بانهيارات عصبية، وتوفي 2372 بسبب أمراض معدية".[52]
ومن بين 92.000 فلسطيني يعيشون في جنوب لبنان، أصبح 60.000 منهم بلا مأوى. وبلغ عدد المشردين بين اللاجئين الفلسطينيين في بيروت 20 ألفاً، وفي البقاع 12 ألفاً، وفي طرابلس 4 آلاف. ودمرت منازل عشرات الآلاف من اللبنانيين. وقد تم تدمير ست بلدات وأكثر من 30 قرية و17 مخيماً للاجئين الفلسطينيين. أفاد السيناتور تشارلز بيرسي، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، في صيف عام 1982 أن 14.000 شخص قتلوا وجرح 55.000 في لبنان.[53] وفي وقت لاحق، ارتفعت الأرقام بشكل كبير.
وسار بيغن وشارون على خطى النازيين، وقاموا بتوسيع عهدهم الإرهابي إلى مستوى الإبادة الجماعية. وأنشأوا مخيم الأنصار، وهو معسكر اعتقال ضخم في جنوب لبنان، حيث تم احتجاز ما بين 9000 إلى 15000 فلسطيني، تتراوح أعمارهم بين 14 و60 عامًا. ووفقاً لأمنون روبنشتاين، عضو الكنيست، فإن الظروف داخل المخيم "لا تطاق وتشكل وصمة عار على سمعة إسرائيل". السجناء يسيرون حفاة في البرد القارس، وكانت هناك اعتداءات عديدة عليهم."[54] تم جمع الفلسطينيين ونقلهم إلى المخيم مثل الماشية، داخل أقفاص ضخمة مربوطة بطائرات الهليكوبتر.
وشددت لجنة التحقيق الدولية في الجرائم الإسرائيلية ضد الشعبين اللبناني والفلسطيني، في جلستها المنعقدة في جنيف في شباط/فبراير وآذار/مارس 1983، على أن القيادة الصهيونية، بالاعتماد على الدعم الأميركي، واصلت انتهاك القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة واتفاقية جنيف بشأن حماية المدنيين في أوقات الحرب وأن سلوكها غير المقبول كان بمثابة تحدي وقح للرأي العام العالمي.
………
{الملاحظات بين قوسين كبيرين للمترجم}
ملاحظات
1 مقتطف من "الصهيونية" بقلم سيرجي سيدوف، وكالة نوفوستي للصحافة، 1984.
2 مايكل سيلزر، إعادة النظر في الصهيونية: رفض الحياة الطبيعية اليهودية، لندن، شركة ماكميلان، كولير – ماكميلان المحدودة، 1970، ص 164-165.
3 آرثر هرتزبرج، الفكرة الصهيونية، تحليل و قراءة تاريخية،ويستبورت، كونيتيكت، Greenwood Press Publishers، 1970، ص. 267.
4 برنامج المنظمة الصهيونية العالمية، موسوعة الصهيونية و إسرائيل، نيويورك، 1971، المجلد. 1، ص 114.
5 اقتباس من آري بوبر، إسرائيل الأخرى، القضية الراديكالية ضد الصهيونية،جاردن سيتي، نيويورك، Doubleday and Company, Inc.، 1972، ص. 37.
6 هرتزبرج، مرجع سابق، ص 241.
7المرجع نفسه، ص.238.
8. المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي الإسرائيلي، موسكو، 1972، ص 173 (بالروسية).
9 في. آي. لينين، الأعمال المجمعة، المجلد 39، الصفحة 421.
10. الصهيونية والعنصرية، لندن، المنظمة الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، 1976، ص. 30.
11 المرجع نفسه.
12 عبد الوهاب م. المسيري، أرض الميعاد، نقد الصهيونية السياسية، نيو برونزويك، نيو جيرسي، 1977، ص. 113.
13 هرتزبرج، Op.cit.p.94.
14 ليكسبريس، 23-29 مايو 1977، ص 55. مقتبس من من هو مناحيم بيغن، رسم وثائقي، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1977. ص60.26
15 بوبر، Op.cit.p.77.
16 ميدل إيست إنترناشيونال، يناير 1973، ص 21.
17 الصهيونية والعنصرية، جيلدورف، لندن وورستر، بيلينج وأولاده، 1976،ص. 218.
18 تشومسكي، مرجع سابق، ص.XLI.
19 بوبر، مرجع سابق، ص 13.
20 آلان تايلور، العقل الصهيوني، أصول الصهيونية وتطورها الفكري ، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1974، ص. 86.
21 المرجع نفسه، ص 90.
22 ليني برينر، نشأة مناحيم بيغن. ملحق لتقرير AJAZ (البدائل اليهودية الأمريكية للصهيونية)، رقم 44، الصفحات 110-111.
23. WorldMarxistReview، أغسطس 1977، ص 80.
24 مجلة دراسات فلسطين، المجلد التاسع، العدد 3، ربيع 1980، ص 20.
25 المرجع نفسه.
26 المرجع نفسه، الصفحات 20-21.
27. عاموس إيلون، الإسرائيليون: المؤسسون والأبناء، نيويورك، كتب بانتام،
1972، ص. 180.
28 بوبر، Op.cit.p.72.
29. مجلة دراسات فلسطين، ربيع 1980، الصفحات 13-14.
30 المرجع نفسه، ص 14.
31. مجلة دراسات فلسطين، ربيع 1980، ص6
32. مجلة الدراسات الفلسطينية، خريف 1980، ص52.
33 المرجع نفسه، ربيع 1980، ص 19.
34 إل إم بيرنز، بين العرب والإسرائيليين، بيروت، معهد فلسطين
دراسات، 1969، ص. 17.
35 مجلة دراسات فلسطينية، ربيع 1980، الصفحات 23-24.
36 س. أرونسون، الصراع والمساومة في الشرق الأوسط. منظور إسرائيلي،
بالتيمور، لندن، 1978. ص. 380.
37. موقعنا للدراسات الفلسطينية، ربيع 1980، ص24.
38. مجلة دراسات فلسطين، ربيع 1980، ص26.
39 صبري جريس، العرب في إسرائيل 1948-1966، بيروت، معهد فلسطين.دراسات، 1969، ص. 98.
40. صبري جريس، العرب في إسرائيل 1948-1966، بيروت، معهد الدراسات الفلسطينية.
الدراسات الفلسطينية، 1969، ص 98-99.
41 المرجع نفسه، ص 102.
42. المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الإسرائيلي، موسكو، 1982، ص 152 (في
الروسية).
43 تقارير MERIP (مشروع الشرق الأوسط للأبحاث والمعلومات)، رقم 47، ص.13
44. مجلة الدراسات الفلسطينية، خريف 1976، ص193.
45 ذا صنداي تايمز، 19 يونيو 1977، ص 17.
46. معاملة الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة التي تحتلها إسرائيل، نيويورك، نقابة المحامين الوطنية، 1978، ص. 110.
47. الضفة الغربية وسيادة القانون، لجنة الحقوقيين الدولية، 1980، ص. 81.
48 نقلا عن ميدل إيست إنترناشيونال، 26 مارس 1982، ص 13.
49 جيروزاليم بوست، 18-24 أبريل 1982، ص 2.
50 واشنطن بوست، 13 يونيو 1982، الصفحة C8.
51 مقتبس من مجلة الشرق الأوسط الدولية، 29 أكتوبر 1982، ص 18.
52 السفير 18 سبتمبر 1982.
53 التركيز السياسي، 15 يوليو 1982، ص 6.
54 ميدل إيست إنترناشيونال، 7 يناير 1983، ص 15.