«الدولة العربية: بحث في المنشأ والمسار»


فهد المضحكي
2024 / 6 / 22 - 12:07     

العنوان أعلاه لكتاب مؤلفه الباحث الفلسطيني عزمي بشارة. الكتاب صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

في عرض كثير التفاصيل، أشار الموقع الإلكتروني الفلسطيني «عرب 48» إلى أن الإصدار كثيف في مادته، مفصّل في سبره التاريخي وشرحه، تركز أقسامه الخمسة وفصوله الاثنا عشر على بحث ظاهرة شغلت العرب منذ أمد بعيد، ولاتزال تثير جدلًا واسعًا عتد أعتاب القرن الحادي والعشرين؛ وهي مسألة الدولة الوطنية في البلدان العربية، فكرة وتطبيقًا وملابسات نجاح أو فشل.

قدم الباحث قبل سنةٍ كتاب مسألة الدولة: أطروحات في الفلسفة والنظرية والسياقات، ليُتبعَه اليوم بالكتاب الذي بين أيدينا في موضوع الدولة نظريًا ثم في السياق العربي، أملًا أن يضيف الكتاب جديدًا أو يسد فراغًا في التفكير النظري والبحث العلمي في الدولة والمجتمع، اللذان، برأيه، لا تضاهي موضوعهما أهمية أي قضية أخرى، سواءً أكان تأثيرًا في حياة الأفراد والمجتمعات، أم تحديدًا لمسارات التطور الاجتماعي-السياسي. يقع الكتاب في 536 صفحة.

كانت فكرة الكتاب الجديد جزءًا من كتاب مسألة الدولة، حيث شغل فصلين منه، ثم استقرّ رأي المؤلف على حذفهما وتخصص كتاب منفرد لمسألة الدولة العربية.

ووفقًا لما أشار إليه المصدر، فإن الإصدار يبحث في مسارات الدولة العربية، المتأثرة منها بنشأة الدولة وغير المتأثرة؛ وهو يفترض خصوصية لنشأة الدول العربية الحديثة، ومن ضمنها تلك التي تشكلت قبل الاستعمار أو التي لم تخضع له، ودول العالم الثالث عمومًا، وهي تتمثل بتطبيق نموذج الدولة الحديثة الجاهز في أوروبا من دون المرور بمراحله الأوروبية؛ ما يعني أن الدولة التي نشأت في بلدان عربية ذات نواة ترابية متصلبة قبل الاستعمار تمتلك بنيةً تشبه نظيرتها في بلدان نشأ مجال سيادتها عن تقسيم استعماري، بفارق واحد هو أن شرعية الدولة ذات الوجود المبكر تكون أكبر متانة، رغم أن مصادر الشرعية ليست تاريخية فحسب.

ويبين البحث أن شرعية الدول العربية عمومًا لم تعد موضع تساؤل، وأنه إذا ما نتج أمر ينمُّ ظاهرُه عن عدم شرعية الدولة فإنه في الحقيقة أزمةٌ في النظام الحاكم، وهي قد تشكل خطرًا على الدولة، ليس لضعف شرعيتها بل لفشل النظام في إدماج الشعب في المواطنة، التي حالت دون تطورها -بوصفها الحجر الأساس لـ«أزمة الأمة»- عوامل تعاملُ الأنظمة مع الجماعات من منطلق ولائها، وضعف مؤسسات الدولة الإدماجية غير العنفية، وضعف تأثير الحقوق والواجبات الذي تبقى المواطنة من دونه شكلية، أي مجرد جنسية. وبسبب ما سلف، أدت أزمات النظام، كالحروب والثورات، إلى أزمة الدولة ذاتها، وما الفوضى في ليبيا والسودان، وانتشار الميليشيات في لبنان وسورية والعراق واليمن وكسرها احتكار العنف الشرعي سوى دليلًا على أزمة الأنظمة لا أزمة شرعية الدولة.

وفي مقابل ذلك، يرى الباحث أن المواطنة في الدولة الحديثة تجمع الحاكم والمحكومين نحو الخارج بسيادة الدولة على إقليمها الترابي، وتجمعهم في الداخل بسريان التشريعات والقوانين عليهم جميعًا. ويضاف بُعد ثالث للدولة الحديثة إلى المواطنة واحتكار العنف، هو الجهاز البيروقراطي، مثل المؤسسات الإدماجية غير العنيفة وغيرها، الذي يقيس متانة الدولة وشرعيتها وقدرتها على التغلغل في المجتمع وتوقعات المواطنين حقوقهم منها، وتأديتهم واجباتهم تجاهها بلا إرغام، كدفع الضرائب والامتثال للقانون… إلخ.

ومن فرضيات الكتاب، إن انتقال الجهاز البيروقراطي في الدولة العربية من عقلانية الدولة إلى عقلانية الحفاظ على السلطة، بأدوات مثل الزبونية وغيرها، والانتقال من تشكيل القاعدة الاجتماعية للدولة إلى تشكيل القاعدة الاجتماعية للنظام. ومنها اختزال السيادة في الحاكم المفرد؛ ما يعيد التذكير بإرث سلطاني نفته الدولة الحديثة، وهو إرث يراهن على ولاء الجماعات لا الأفراد، يؤدي إلى إضعاف الدولة، إذ لم يعد ثمة دولة متميزة من الحكام ومواطَنة متميزة من الجماعة. وحين يُخضع الحاكم لسيادته مؤسسات الدولة غير السياسية، كالقضاء والبنك المركزي ومؤسسات الرفاه والتخطيط للمجال السياسي، تتضرر أسس الدولة الحديثة، ولاسيما سيادة القانون، وعقلانية البيروقراطية، وافتراض تمثيل الدولة المصلحة العامة.

في حين أنه يشدد على «المشترك بين الحاكم والمحكومين» ميزةً للدولة الحديثة تُفرِّقها عن الدولة التقليدية، التي يتعرض تعريفها إلى «وجود ٍ» للحكام والمحكومين فحسب. وقد ظهر «المشترك» بداية في صورته القومية «والانتماء الديني من عناصرها المكونة»، كجماعة متخيَّلة تكون المواطنة عضوية فيها تشكل مدخلًا إلى عضوية الدولة بوصفها جماعة قوميه، وبالنضال تحوّلت المواطنة رابطة حقوق وواجبات مستقلة تنشأ بموجبها «أمة الدولة» أو «أمة المواطنين» بغض النظر عن قوميتهم، التي تحتاج إلى رابط ثقافي يجعلها متماسكة، وهو الانتماء إلى الدولة بوصفها وطنًا «الرابط الوطني»، أو الاستناد إلى القومية الإثنية، التي لا تُطابق مع الرابطة الوطنية رغم تشبث تيارات فكرية وقوى سياسية بأن الأمة هي القومية الإثنية العابرة لحدود الدولة، وإصرار آخرين على أثننة الشعب داخل الدولة. إن وجود فِرَق لا يعني بالضرورة التناقض بين قومية الأغلبية بوصفها عنصر تماسك وبين الأمة المواطنية التي تشمل جميع المواطنين.

لم يكن ثمة مشرك بين الحكام والمحكومين في الدولة ما قبل الحديثة سوى الدين غالبًا، ففيها تعامل الحاكم مع رعيته تعامُلَ الخصم المهزوم، وغالبًا ما اعتنق ديانة الرعية فكان عليها «السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر»، جاعلًا قوة ناعمة بينه وبينها، مثل: المعتقد الديني، ورجال الدين، والزعامات المحلية، وشرعية السلالة، وكاريزما الحاكم وليس الشخص، الذي لم يَعن اسمُه الرعية، ولم تتأثر بتغيره كثيرًا.

لم تُشكّل «دولة السلالة» في الماضي أساسًا متينًا لانتماء الناس، أو تمثّل هوية جماعية لهم ؛ إذ لم يكن ثمة «مُشترك» بين الحاكمين والمحكومين سوى الدين، الذي كان في حالتَي المسيحية والإسلام مشتركًا مع شعوب أخرى، كما كان الحكّام غالبًا غرباء عن مناطق حكمهم ومختلفين عن أهلها إثنيًّا. ولذلك، كان الناس يسمَّون باسم الجد الأكبر أو مهنة الجد الأصغر (الفرّاء، الحداد، النجار، الماوردي)، أو قبيلته ( القرشي، الشمرى، القيسي)، أو منطقته ومدينته (البصري، البغدادي، العباسي، الفاسي، الدمشقي)، ولم يلقَّبوا أنفسهم بأسماء الأسر التي حكمتهم ( الأموي، العباسي، الفاطمي) سوى في الدولة العثمانية بعد تأسيس الدولة الحديثة في مرحلة التنظيمات والإصلاحيين. أما في الدولة العربية الحديثة فثمة استثناء واحد هو تسمية أبناء نجد والحجاز أنفسهم باسم الحكام، أي السعوديين.

لقد رُسمت الدولة الوطنية في زمن الاستعمار؛ لا لعدم وجود حدود قبلها، بل لتكريس حدود ثابتة للدولة بغض النظر عن من يحكمها، وفرض واقع جديد تنتهي عمليًا غالبية الصراعات الحدودية، فإذا ما أثيرت من حين إلى لآخر فبسبب الخلافات بين الأنظمة. وتفضل المنظومة الدولية «ستاتيكو» الحدود القائمة بين الدول حتى حين تكون دولةٌ ما عاجزة عن بسط نفوذها على كامل حدودها، خشية فوضى إثارة موضوع الترسيمات الحدودية في ما يسمى العالم الثالث بأسره.

أما الجهاز البيروقراطي للدولة الحديثة، فقد وُضع وفقًا للنموذج الأوروبي، كما وحّد الاقتصاد وفْقَه وأخضِع للسوق العالمية ولمصالح الدول الكبرى، وورث الحاكم الفرد للدولة المستقلة سلطات المستعمر العليا التي تفق سلطة البرلمانات المنتخبة.

ومن فرضياته أيضًا، إن الخلاف الأيديولوجي حول مفهوم الأمة لم يعد يهدد شرعية الدولة، فنظرة التيار القومي العربي مثلًا إلى أن أيا من دول الأمة لم تحقق استقلالها الحقيقي لا تزال حية داخل الدولة الحديثة، وتوق الحركات الإسلامية إلى يوتوبيا خلافة توحد الأمة أغنى عن التعريف، وهي أفكار تحوّلت إلى أيديولوجيات معارضة داخل الدولة الوطنية تسعى للتأثير في سياساتها التشريعية والثقافية والخارجية، فيما غابت أي حركات تتحدى سيادة الدولة العربية فعلًا ولا تعترف بها. وحتى حين تطرح أفكارًا تغييرية، ففي إطار سيادة الدولة لا بالفرض.

وبناءً عليه، فإن هذه الحركات لم تعد تمثل تهديدًا للدولة كالذي يمثّله فشل الإدماج الاجتماعي، سواءً خدماتيًا وتنمويًا أو بصرف ولاء الناس منها إلى الجماعات وإنعاشها سياسيًا، وخصوصًا في ظل سوء فهم هذه الجماعات معنى العلاقة بالدولة؛ ما قد يحوِّل الصراعات السياسية إلى حروب أهلية بدعم خارجي تفرز ميليشيات تنافس الدولة في احتكار العنف.

تناول الباحث «الجماعاتية الجديدة» بوصفها مصدر تهديدٍ حقيقي للدولة الحديثة، وهي كما يقول، ليست امتدادًا للقبيلة والطائفة، بل ظاهرة جديدة تشكَّلت في خضم صراع أعمى على الدولة ومواردها قد يبلغ حدَّ المسّ بالدولة ذاتها، كما في حالات اليمن والسودان وليبيا والعراق ولبنان ؛ وهي دول ليست الشرعية مشكلتها. ويتجلى أخطر اختراق جماعتي في التغلغل في الجيش، بما يمسّ هويته الوطنية ويسيّسها، أو ربما يحوله إلى ميليشيات؛ ما يمثل مخاطر محدقة بالدولة والمجتمع معًا.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك ليبيا، التي تغيب الدولة فيها بدرجة شبه كلية منذ خلع النظام في عام 2011.

يناقش القسم الأول من كتاب الدولة العربية: بحث في المنشأ والمسار بفصله الوحيد تميّز الدولة العثمانية تشريعيًا من دول الحضارة الإسلامية الأخرى، وعوامل الإصلاح الذي بدأته في مجالات العسكر والتشريع بعد هزائمها في الحروب مع أوروبا وتغلغل نفوذ الأخيرة اقتصاديًا داخل الإمبراطورية العثمانية، وعلمنة التعليم والإدارة غير العقائدية في هذه الإصلاحات. ثم يبحث الانتقال من فكرة «الرعية» إلى مفهوم «المواطنة العثمانية» في التنظيمات وانتشار مفهوم الدولة، والصراع مع النفوذ الغربي، وكذا الانتقال من إصلاحات تشريعية قادتها نخب حداثية إلى تأسيس ملكية دستورية، ثم انقلاب السلطان عبدالحميد الثاني على الدستور ومحاولته تأسيس ملكية مطلقة. أما أسباب الانهيار، فيرجعها هذا القسم إلى عجز اقتصاد السلطنة عن تمويل الإصلاحات وتفاقم الاستدانة الخارجية بعد حرب القرم والإملاءات الأوروبية والتناقص بين الدولة الحديثة والبنية الإمبراطورية، والانخراط في الصراعات مع أوروبا. ويؤكد القسم أهمية تلك المرحلة في تأسيس الدولة الحديثة ممثلة بالجمهورية التركية، وأن غالبية مؤسسات الدول الوطنية في البلاد العربية والمشرق لم تكون نتاج الاستعمار بل مرحلة التحديث والإصلاح العثمانيين.

أما القسم الثاني، ويحتوي على فصول ثلاثة، فينتقل إلى مناقشة قضايا بنية الدولة العربية وإشكالياتها الرئيسية من منظور كتاب الدولة العربية وكتاب مسألة الدولة الذي سبقه، وهي قضايا: السيادة والمواطنة، وبناء جهاز الدولة، والعلاقات بين النخب القديمة والحديثة، واحتكار العنف والتشريع… وغيرها.

تتناول فصول القسمين الثالث (ثلاثة فصول) والرابع (فصلان) حالات نشوء الدولة الوطنية في خمس بلدان عربية هي مصر وتونس والمغرب وسورية والجزائر، وتبيِّن أن البيروقراطية المركزية والحدود الترابية ظهرتا في تونس ومصر قبل الاستعمار، وأن البنية الموروثة بعد الاستعمار في الدول الخمس لم تعكس أي مواطنة، فهي كانت مفقودة قبل الاستقلال واستمرار الصراع على مضمونها بعده.

يبحث القسم الثالث ثلاثة نماذج لبناء الدولة قبل الاستعمار في مصر وتونس والمغرب.

يناقش القسم الرابع نموذجَي دولتين لم تكونا قائمتين قبل الاستعمار. وفي هذين التجربتين:

- التجربة الرائدة للحكومة العربية في دمشق في ظل التقاسم الإنجليزي-الفرنسي للمشرق العربي، وهي المحاولة الأولى لإقامة دولة حديثة في المشرق التي استطاع التواطؤ الإنجليزي-الفرنسي القضاء عليها، واستطاع نظام الانتداب الاستفادة من إرثها وإرث التنظيمات العثمانية. ويبحث القسم سياسة فرنسا القائمة على مبدأ «فرق تسد» وسعيها الحثيث لإنشاء دويلات طائفية، معرجًا على تجربة الوصاية الاستعمارية الإنجليزية على العراق ونهجها المختلف عن الاستعمار الفرنسي.

- تجربة الاستعمار الاستيطاني للجزائر وتدميره بنية المجتمع وانشاؤه نظام تفرقة لمصلحة المستوطنين على حساب السكان الأصليين، وتاريخ الحركة الوطنية بأجيال عايشت احتلالًا مديدًا وتطورت مطالبها من الرهان ضد الاستعمار على قيم الثورة الفرنسية والمواطنة مع الحفاظ على الهوية المحلية، إلى مطلب الحكم الذاتي الاتحادي مع فرنسا، ثم مطلب الاستقلال التام، وصولًا إلى الكفاح المسلح، مع محاولات جسر الهوة الثقافية بين التيارات التقليدية والحداثة المتفرسنة بهوية عربية وحديثة معًا، وأثر ذلك في توليد ثقافات فرعية متوترة.