حركات التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني وخطاب «اللاسامية»


فهد المضحكي
2024 / 6 / 15 - 11:37     

تكثر الحكومة الإسرائيلية ومعها المعارضة من اعتماد خطاب «اللاسامية» في التعاطي مع حركات الاحتجاج العالمية ضد الحرب على غزّة، وتعتبر كل من لا يقبل برواية إسرائيل بصدد السابع من أكتوبر، معاديًا للسامية أو مساندًا للإرهاب.

بالتأكيد، هناك العديد من الآراء تساند هذا الرأي، لكن من الأهمية بمكان أن نتوقف عند الباحث السياسي الفلسطيني أمير مخول، الذي كتب، رأيًا محقًا، في صحيفة «الاتحاد» الفلسطينية.

ووفقًا لما ذكره، منذ التسعينيات المتأخرة واظب نتنياهو على توسيع تعريف اللاسامية، مدعومًا بموقف شمعون بيرس باعتبار أن اللاسامية لا تنحصر في الموقف من اليهود كيهود، وإنما في الموقف من الصهيونية باعتبارها الحركة القومية ليهود العالم ومن دولة إسرائيل بوصفها البيت القومي لليهود من مواطنين وممن هم مواطنو دول أخرى في أنحاء العالم، واعتبر أن من يطلق الحملات ضد إسرائيل أو الصهيونية إنما يمس باليهود ويعتبر ذلك لا-سامية، وكذا الأمر بالنسبة للموقف من المستوطنين، حيث يتم اعتباره لا ساميًا وليس موقفًا من الاحتلال الاستيطاني الاستعماري.

تبعًا لذلك تم اعتبار حركات التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني وحصريًا حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ( بي دي إس) بأنها لا-سامية، وحتى اعتبر الحركات اليهودية المناهضة للسامية والناشطة في الدول الغربية بأنها لا-لاسامية أيضًا، وشمل هذا حركات مثل الصوت اليهودي من أجل السلام، والمجلس اليهودي العالمي المناهض للصهيونية وحركة «ناطوري كارتا» الدينية الحريدية. وقد نجحت الحملة الإسرائيلية والصهيونية المذكورة في تحقيق إنجازات لصالحها والتأثير على تعريف اللاسامية وتوسيعه ومده ببعد قانوني يحظر مخالفته، لتصدم بحراك شعبي عالمي هائل لصالح الحق الفلسطيني.

الخطاب الإسرائيلي لتوسيع مفهوم اللاسامية واستخدامها سياسيًا لصالح اليمين هو مسعى لضربة استباقية لترويض الجيل الأمريكي القادم وصهينة خطابه.

وفي هذا السياق ينقل لنا الكاتب مخول عن د. رائف زريق الباحث الفلسطيني في الفلسفة والقانون قائلًا: «ينبه د. زريق بأن تعريف اللاسامية الموسع لا يشير إلى مصدر الكراهية، وأنها قد تكون نابعة من أسباب وليس من ثقافة عنصرية، بمعنى أن كراهية المستوطنين مرتبطة بكونهم يهودًا وليس بكونهم معتدين». وأكد أن التعريف موجه ضد فلسطين ومناصريها، لكن التأمل في خريطة اللاسامية أن مصدرها ليس اليسار العالمي المتضامن مع الفلسطينيين، وإنما اليمين الفاشي في عدة أمكنة، الذي هو صديق اليمين الإسرائيلي، وبهذا لا علاقة بين «خطة الدفاع» ومصدر ما يفترض أنه الهجوم، ما يكشف أن المقصود ليس الدفاع عن اليهود، إنما عن الطبيعة الاستيطانية.

بينما تشير د. باعيل شترنهال المحاضرة في التاريخ الأمريكي في جامعتي برنستون الأمريكية والعبرية الإسرائيلية، إلى أن الجامعات الأمريكية تتعامل مع جيل من الطلاب التقدميين يطالبون برفع صوتهم في القضية الإسرائيلية الفلسطينية، وأحيانًا يعبّرون عن وجهة نظر كان ينظر إليها، حتى هذه الحرب على غزّة، على أنها غريبة تمامًا عن التيار الأمريكي السائد. ومن ناحية أخرى، فإن الجامعات تقف أمام المانحين اليهود الأكبر سنًا الذين، على الرغم من أنهم معروفون بآرائهم الليبرالية حول القضايا الأمريكية المحلية، إلا أنهم يشعرون بالولاء لإسرائيل التي عرفوها في شبابهم ويجدون صعوبة في انتقادها ويستغلون تمويلهم للجامعات سوطًا لفرض سياساتهم وتفسيرهم الذاتي لمفهوم اللاسامية. كما وتتحدى شترنهال خطاب اللاسامية بتأكيدها «تشارك التنظيمات الطلابية اليهودية بنشاط في المظاهرات، مما يقوّض الادعاء المقبول بأن وجود هذه مظاهرات في حد ذاته هو تعبير عن معاداة السامية».

قبل الحرب الحالية بسنتين نبّه كينيت ستيرن مدير مركز بارد لأبحاث الكراهية من وصم الموقف الفلسطيني باللاسامية، وذلك في مقال له لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، مؤكدًا «حاول أن تضع نفسك مكان فلسطيني طُردت عائلته عام 1948، ولم يطرد فحسب، بل فقد منزلة وشعوره بالسيطرة على هويته وحياته. من الواضح أن تحقيق حق اليهود في تقرير المصير قد أضر بك وبعائلتك، ليس فقط في ماضيك ولكن أيضًا في مستقبلك. هل تعارض الصهيونية لأنك تراها مؤامرة يهودية أم لأن التعبير القومي لشعب آخر قد أضر بك وبتطلعاتك الوطنية؟». القلق الإسرائيلي في هذا الصدد هو بالأساس من مستوى الهجرة بين اليهود إلى خارج إسرائيل، وكما يوضح مخول، ووفقًا لموقع «زمان يسرائيل»، فلغاية نهاية شهر ديسمبر 2023، فإن عدد الذين تركوا البلاد ولم يعودوا يفوق بأكثر من نصف مليون عدد العائدين، وأن نسبة الهجرة اليهودية إلى إسرائيل تقلصت إلى أقل من 1% من عدد الذين تركوا البلاد.

الموقف السلبي من الهجرة اليهودية من إسرائيل هو من نصيب كل التيارات الصهيونية، وفي غالبيتها فإن الهجرة من إسرائيل هي لشرائح ذات نزعة علمانية ليبرالية ومن الطبقات الوسطى وأصحاب المال وقد تسارعت قبل الحرب تخوفًا من الانقلاب القضائي الذي بادرت إليه حكومة أقصى اليمين ليتسارع أكثر منذ بدء الحرب. بينما القلق الإسرائيلي الأكبر من الهجرة هو يميني استيطاني بالأساس نظرًا لكونه ذا إسقاطات على إيجاد الاحتياطي السكاني اليهودي لتطبيق مشروع تهويد الضفة الغربية وخلق تواصل سكاني جغرافي يهودي فيها، ثم أن تضاؤل الهجرة اليهودية إلى البلاد يجعل التوازن الديموغرافي في كامل فلسطين أي كل المناطق التي تقع تحت السيطرة الإسرائيلية العسكرية أو المدنية يميل لصالح الفلسطينيين، مما يجعل حل «إسرائيل الكبرى» غير قابل للحياة إلا إذا تم فيه التخلص من أكبر عدد من الفلسطينيين بالتهجير، أو منظومة ضبط قائم على الفصل العنصري وتجميع الفلسطينيين على أقل ما يمكن من مساحة (نمط رفح)، وفي كل الأحوال زيادة عدد اليهود بالتكاثر الطبيعي، وحصريًا بين المتدينين الحرديم، أو بالهجرة.

تقوم المؤسسة السياسية والإعلامية الإسرائيلية بتوسع استخدام خطاب اللاسامية ليشمل حركات الاحتجاج على الحرب والتضامن مع فلسطين، ويشمل إنكار أو رفض الرواية الإسرائيلية بصدد السابع من أكتوبر، ويشمل دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، وكذلك اتهام إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة في غزّة وفقًا للقانون الدولي، وحتى أي موقف في مجلس الأمن يتم دمغه باللاسامية، وهي تهمة اسبغتها على الأمم المتحدة وأمينها العام وحصريًا وكالة غوث اللاجئين.

الوظيفة الأخرى لخطاب اللاسامية هي التصدي لتفكك مركبات من صميم العقيدة والفعل الصهيونيين، بأن إسرائيل هي المكان الأكثر ضمانًا وحماية ليهود العالم، بينما فقد المجتمع الإسرائيلي وتحت حكومة أقصى اليمين كل مقومات الأمن والأمان.

تاريخيًا ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر هناك وظيفية مهمة لمعاداة السامية والتي اعتبرت محركًا للهجرة اليهودية إلى فلسطين وتحويلها إلى بنية أساسية في المشروع الصهيوني الاستيطاني، ومع تبلور الحركة الصهيونية باتت لها وظيفة في توفير البنية السكانية للدولة اليهودية قبل قيامها.

في هذا السياق، يرى اليساري اليهودي المناهض للصهيونية إيلي أمينوف بأن اللاسامية هي الوقود الذي يحرك مهام الحركة الصهيونية وعنصر مركزي وقوي في استراتيجية الترهيب الإسرائيلية، المحلية والخارجية على حد سواء، وهي أساس يحافظ عليه نظام دعاية هائل. إن التوازن بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية هو نتيجة الدعاية الواعية من نتاج الحركة الصهيونية وصنيعتها دولة إسرائيل.

الخلاصة كما يراها الباحث، هناك ضرورة بتعزيز الخطاب الفلسطيني والعالمي الديمقراطي القائم على تفكيك الخطاب الإسرائيلي بشأن اللاسامية، يقوم على الفصل ما بين الموقف من اليهود واليهودية وبين الموقف من الصهيونية وإسرائيل ومن العدوان والاحتلال والاستيطان، ويكشف عن أن الطابع الترهيبي للعقل البشري والتبريري لكل فعل إسرائيلي.

- الحملات لفضح الطابع الوظيفي للخطاب الساعي لتبرير مشاريع التهجير والتهويد والعدوان ولانتهاك الحق الفلسطيني بتقرير مصيره.

- حراك الطلبة في الجامعات الأمريكية وحصريًا جامعة كولومبيا من شأنه أن يكون مصدر أمل وعلامة فارقة في تاريخ الموقف الأمريكي الشعبي المؤثر لصالح الحق الفلسطيني، وهو يتسارع نتيجة الحرب على غزّة والتي تحاصر تداعياتها الموقفين الإسرائيلي والأمريكي الرسمي على السواء.