حتى لا يستفحل الإفلات من العقاب ويستمرّ إلى ما لا نهاية
حمه الهمامي
2024 / 6 / 7 - 14:52
خلال جلسة استماع بمجلس النوّاب بتاريخ 20 ماي 2024 قدّمت وزارة الداخليّة معطيات رسمية حول الهجرة غير النظامية وتحديدا حول وجود الجنوب صحراويّين الذين جاؤوا إلى بلادنا بنيّة العبور نحو أوروبا. وتفيد هذه الأرقام الرسميّة أنّ المهاجرين غير النظاميّين لا يتجاوز عددهم 23 ألفا من بينهم 21 ألف يرغبون في مغادرة البلاد بينما عدد المتواجدين بصورة قانونية يقّدّر بـ9 آلاف نسمة ينتمون إلى 27 جنسية. وحسب نفس المصدر فإن نسبة “غير النظاميين” إلى عدد سكان تونس لا يتجاوز 0.2 بالمائة، كما أنه لا يتجاوز 1.27 بالمائة من عدد المهاجرين التونسيين بالخارج وهو أقل من 50 بالمائة من عدد الأجانب المُقِيمين في بلادنا من جنسيات غير إفريقية.
هذه إذن آخر الأرقام الرسمية. ولنا أن نتساءل اليوم ما علاقتها بالأرقام والتقديرات المضخّمة التي راجت لمّدة شهور لتغذية حملة عنصرية كريهة لا هدف منها سوى تجريم أولئك “الغلابة” الفارين من الحرب والفقر والبؤس والقمع باتجاه أوروبا نفسها التي تنهب ثروات بلدانهم وتدعم مضطهديهم المحليين. وهم لا يختلفون في ذلك مع فئات واسعة من شبابنا المحكوم عليه بالبطالة والفقر والقمع والذي أصبحت حلمه “الحرقة”. لقد اعتمد منظّمو تلك الحملة العنصريّة أسلوب التضخيم لبث الرعب في صفوف الشعب التونسي وإيهامه بأنه يواجه “مؤامرة استيطانية خطيرة” تهدف إلى “تغيير التركيبة الديمغرافية للبلاد” و”طمس هويّتها العربيّة الإسلامية” وبأن هذه المؤامرة “منظمة وممولة” من “جهات خارجية” متواطئة مع “أطراف داخلية خائنة وعميلة”.
لقد بُثّت تلك السموم العنصرية المقرفة عبر قنوات تلفزية وإذاعات كما تمّ نشرها في جرائد وفي الشبكة الاجتماعيّة أمام الملأ دون أن يحرّك قضاء التعليمات ساكنا. ومن بين الذين قاموا بأدوار قذرة في هذه الحملة العنصرية نواب في برلمان الـ”11 بالمائة” وبعض “الكرونيكورات” المكلّفين بمهمّة. فقد ادّعى “نائب” على موجات إحدى الإذاعات أن بلادنا تواجه “موجة استيطانية شبيهة بتلك التي عرفتها فلسطين في مطلع القرن العشرين”. وعاد نفس “النائب” ليدعو في برنامج تلفزي إلى تكوين “لجان شعبية” لمعاضدة الجيش والأمن في مواجهة الأفارقة جنوب صحراويين “الغزاة”.
وراح “نائب” آخر على أمواج إحدى الإذاعات يروّج أن هؤلاء المهاجرين “احتلّوا الأرض وقريبا سيحتلون العرض” وهو يدّعي أن بين يديه “تقريرا” يؤكّد أن المهاجرين غير النظاميين المتواجدين في منطقة “جبنيانة/العامرة” يحملون أمراضا خطيرة (سيدا، سل، جرب…) معتبرا أن الأمر يمكن توصيفه بـ”الخطر الداهم” على تونس مع علم أنّ الجهات الصحية الرسمية في صفاقس نفت علمها بالأمر وفي ذلك تكذيب صريح. وروّج نفس الشخص أن من بين أولئك المهاجرين من ينمتي إلى منظمة “بوكو حرام” النيجيرية الإرهابية.
وثمة “نائبة” ثالثة ظلّت تتنقل بين وسائل الإعلام التي فتحت لها أبوابها لتشيطن المهاجرين غير النظاميين وتحرّض عليهم دون أن تترك صفة كريهة لا تصفهم بها ولا اتهاما خطيرا لا توجهه إليهم من “اقتحام لأرضنا وأملاكنا” و”انتهاك” للسيادة والعرض والأرض والأرزاق ومن “قتل” و”اغتصاب”، كل ذلك للتحريض على ترحيلهم غير مختلفة في منطقها عن أي يمينية متطرفة، فاشية، أوروبية تنفث سمومها ضد العرب والمسلمين بنفس المزاعم لتبرير ترحيلهم.
وقد انضم إلى الجوقة “أستاذ قانون دستوري”، من “مسار 25 جويلية” يدرّس بإحدى ولايات الشمال الغربي ليدعو الجيش إلى الخروج من ثكناته ليعضد القوات الأمنية زاعما أن تونس تواجه “سيناريو الدواعش بشكل آخر”، محذرا من أن “الأمن القومي في خطر” مع العلم ألّا أحد تحدّث عن مواجهات أو أحداث خطيرة تمّت في تلك الولايات بين الأهالي والجنوب صحراويين الذين رمت بهم السلطات في تلك المناطق وتركتهم وحالهم دون أكل وشراب ودواء ولباس ودون أي رعاية صحية، بل على العكس من ذلك فقد تمت الإشارة في أكثر من مناسبة إلى المعاملة الطيّبة التي لاقوها من الأهالي.
وما هذه إلا أمثلة قليلة من سيل جارف من التصريحات العنصرية المقرفة التي يعلن أصحابها جميعا أنهم من “أنصار الرّئيس” وفيهم من يضع صورته في أعلى صفحته في الشبكة الاجتماعية ويذكّر بتصريحاته ضد الجنوب صحراويين في فيفري من السنة الماضية. وبالطبع فإن هؤلاء الأشخاص “فوق روسهم ريشة”، فلا قضاء يسائلهم أو يحاسبهم ولا هياكل مهنيّة تتدخل لمنع استضافتهم في وسائل الإعلام التي أصبح بعضها يتسابق لدعوتهم بحثا عن الإثارة (البوز) والحال أن الخطاب العنصري يمثل جريمة لا وجهة نظر.
ولم تطل حملات التشهير والتّحريض العنصريين المهاجرين الجنوب صحراويين فحسب وإنما طالت أيضا السود من أبناء تونس وبناتها. إن ما تعرّض له الفنان صلاح مصباح وشقيقته سعدية، رئيسة جمعية “منامتي” الموقوفة منذ مدة وعائلته بشكل عام من سب وشتم عنصريين هو أمر يندى له الجبين. لقد استمعت إلى صلاح مصباح في إحدى الإذاعات وهو يتحدث عن صاحب مؤسسة “تربوية” يطالب بـ”بيعه” (كعبد) مع انتزاع أغنية “يا أم السواعد سمر يا تونس الخضراء” منه. كما اطلعتُ على تدوينات أخرى يطالبه فيها البعض بالرحيل من البلاد وتركها “لأهلها الحقيقيين” أو يواجهه ببيت المتنبي “لا تشتر العبد إلا والعصا معه” دون أن يحرّك القضاء ساكنا ممّا اضطره إلى الدفاع عن نفسه بنفسه وبأسلوبه الخاص.
الآن وقد افتضح الطابع المفتعل لما سمّي “أزمة المهاجرين غير النظاميّين” كما افتضح الطابع الزّائف للـ”مؤامرة الاستيطانيّة” لا ينبغي بأي شكل من الأشكال ترك الأمر يمرّ كما لو أنّ شيئا لم يحصل لأنّ ذلك يعني السكوت عن جريمة. إنّ واجب مكوّنات المجتمع المدني وفعالياته وخاصّة المهتمة منه بحقوق الإنسان وحقوق الأقلّيّات ومحاربة الميز العنصري توثيق كل التجاوزات الحاصلة وتسجيل شكاوى ضد مرتكبيها مهما كان مركزهم. وإن لم تقع محاسبتهم اليوم لما عليه القضاء من تدجين فسوف تتوفّر يوما الظروف التي تسمح بذلك. ومن البديهي أنّ حزب العمّال سيدعم بكل قوة ومبدئيّة مثل هذا التمشّي إذا قامت به قوى المجتمع المدني حتّى لا يستفحل الإفلات من العقاب ويستمرّ إلى ما لا نهاية.
كما أنّنا نرفع صوتنا إلى نقابة الصحفيين وإلى كل الإعلاميات/الإعلامييّن الشريفات/الشرفاء التصدّي لهذه الظاهرة الخطيرة المخلّة بأبسط أخلاقيات المهنة والمتمثّلة في تأجير عدد من وسائل الإعلام أشخاصا لا علاقة لهم بالصحافة ليروّجوا الأكاذيب ويثيروا الكراهية والعنصريّة ويهتكوا الأعراض ويشوّهوا الغير ممّن يعارض سلطة الانقلاب أو ينتقدها، ويُمرّر ذلك تحت غطاء “تقديم الرأي والرأي المخالف” وهو في الواقع تزلّف لهذه السلطة وخوفا من بطشها. وبالإضافة إلى الطّابع اللا أخلاقي واللا مهني لهذا السلوك فقد بيّنت التّجربة عدم جدواه لأن الاستبداد لا يقبل إلا سلوكا واحدا وهو الخضوع ولا شيء غير الخضوع علاوة على أنّ له من “المخبرين” الذين يكشفون له أساليب التورية والحسابات الانتهازية لهذا الطرف أو ذاك. إن الاستبداد لا تجدي معه إلا المبدئية والصرامة والاستعداد الدائم لدفع الثمن من أجل الحقيقة التي تبقى وحدها ثوريّة.