الفصل السادس: من عالم لآخر - من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة عمال المناجم المغاربة في شمالي فرنسا”

ماري سيغارا
2024 / 6 / 5 - 11:54     



Claude Monet – A Seascape, Shipping by Moonlight (1864)
من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة عمال المناجم المغاربة في شمالي فرنسا”، للكاتبة ماري سيغارا

Cegarra, Marie. « Sixième partie. D’un monde à l’autre ». La mémoire confisquée, Presses universitaires du Septentrion, 1999, https://doi.org/10.4000/books.septentrion.122033.

المغربيات في نور [فرنسا]

أغلبية النساء اللواتي انضممن إلى أزواجهن العمال أميات أو مستوى تعلمهن ضعيف جدا. وقد وصلن إلى فرنسا دون معرفة الغة أو الثقافة الفرنسية ومن دون نية البحث عن عمل. لقد نشأت النساء المغربيات في مجتمع إسلامي بطريركي حيث تكون وضعية النساء خاضعة لسلطة الرجل ولأهمية العائلة. وكان دورهن يقوم على تربية الأطفال والعمل المنزلي. وكن يتلقين المساعدة من قريباتهن.

“في كثير من الأحيان يأتي شخص ما لقرع الباب للتعرف على “هذه الفتاة الصغيرة” الجديدة وتقديم الدعم. وسرعان ما يبدأ التضامن، والالتقاء في منازل بعضنا البعض، وتناول الطعام معاً”.

بالتالي، إن دائرة العلاقات الاجتماعية للنساء المغربيات المهاجرات اقتصرت على الأسرة وأبناء وطنهن. وهكذا، يحافظن على عاداتهن وممارساتهن الثقافية. وكن يرتدين ويصففن أشعارهن بطريقة تقليدية داخل المنزل، ولكنهن ارتدين الملابس الفرنسية، التي غالباً ما كانت ملونة. إلا أنهن فضلن الملابس الفضفاضة التي تخفي جزءاً من أجسامهن. وغالباً ما تتمظهر العلاقات مع مواطنيهن خلال الأعياد الدينية.

بالنسبة لبعض المغربيات، بقيت فكرة العودة إلى البلاد، حاضرة في أذهانهن دوماً دون أن يتمكنّ من تحديد الموعد. عانين من الحنين، وشعرن بالعزلة، بعيداً عن عائلاتهن، رغبن دوماً في العودة ولقاء أحبائهن. بالنسبة لأخريات، كانت العودة تمثل مصدر قلق. تسببت الهجرة العائلية بتمزق كبير جداً ما أرغم النساء على تحمل مسؤوليات التي كانت تتشاركها الأسرة بأكملها. وحتى لو كان عالم النساء والرجال ما زال منقسماً، بقيت الحقيقة هي أن الظروف المعيشية الموضوعية كانت تميل إلى تشجيع المغربيات على أن يصبحن محاورات اجتماعيات محتملات. بالتالي، ومن خلال انفصالها عن بنية العائلة الممتدة، رأت النساء أن دورهن يتعزز في فرنسا. فقد بتن على اتصال بالعالم الخارجي من خلال الإجراءات الإدارية. واعتدن على وسائل الراحة المنزلية (التلفزيون والتدفئة والسوبرماركت). ولذلك هن لم يرغبن بالعودة إلى قيود الحياة المجتمعية الريفية. كما أنهن فكرن بأولادهن، وأملن بألا يكون مصيرهم/ن مشابهاً لمصيرهن.

لم يعش الجميع على هامش المجتمع. فبعضهن لديهن علاقات مع العالم الفرنسي لكن هذه العلاقات بقيت سرية. وغالباً ما حسدن الفرنسيات المستقلات إقتصادياً وشخصياً. ومن دون شك أن هذه الحرية المحسودة يعرقلها عدم المعرفة باللغة والممارسات الثقافية ولكن كانت كافية لتوليد إحجام قوي عن العودة إلى البلد. (100) بالتالي كانت مصائرهن متباينة. فالبعض منهن لجأن إلى الجمعيات وتعلمن القراءة والكتابة. أدى ذلك إلى تعديل الأدوات التعليمية والسماح بوضع كتيبات صغيرة متكيفة مع حياتهن اليومية. (101) لم يتسامح الرجال مع هذه المبادرات، الذين كانوا يجدون النساء محترمات عندما يخضعن لهم. ولكن هنا كذلك، كانت العقليات تتغير.

الأطفال

إن الحصول على وضعية عامل منجم حفز مجيء أعداد كبيرة من العائلات المغربية. وقد أدى ذلك بدوره إلى حصول تغيرات كبيرة في الوضع الديموغرافي. ونتيجة لذلك، انعكس التأثير الناتج عن هؤلاء المهاجرين على ناحية الاندماج المدرسي والاجتماعي. وقد أدى ارتفاع معدل الإلتحاق بالمدارس في المغرب إلى زيادة في عدد الأطفال، ونتيجة لذلك إلى تزايد في أعداد التلامذة. وعلى العكس من ذلك، تزامن هذا النمو القوي مع شيخوخة المجموعة السكانية السابقة في المناجم. منذ عام 1980، كبر الأطفال وانخفض عدد من هم خارج التعليم الإبتدائي من الموجة الأولى. وإذا كان عدد التلاميذ المغاربة يشكلون بين 12 إلى 18 بالمئة من إجمالي السكان الأجانب عامي 1976-1977، فقد بلغت نسبتهم عام 1987 47،1 بالمئة. بشكل عام، لعب هذا النمو دوراً تنظيمياً في المناطق التي تعاني من شيخوخة السكان المحليين.

لا يريد الأطفال دوماً العودة إلى بلادهم. ونشأت مشكلة التعليم بشكل كبير وباتت مصدراً للتساؤل والتردد. فالبرامج التعليمية مختلفة، والشهادات ليست دوماً متكافئة، وعدم معرفة اللغة العربية أوقعتهم في صعوبات لغوية عاشروها في فرنسا. لا يعرف الأطفال الحياة المغربية سوى في العطلات. مع ذلك، لقد أدركوا القيم التقليدية المهيمنة، والافتقار إلى الهوايات، والحرية، والشعور بأنهم غرباء، هناك كذلك. واجهت الفتيات ثقل المجموعة الاجتماعية، وواجهن استحالة العمل وخشين من تقييد حركتهن. لأنه وحتى لو تغيرت العقليات، فإن النساء في المناطق الريفية لا يمكن لهن التمتع بالاستقلالية. مع ذلك، إن الصعوبات التي واجهها الأطفال كانت عديدة.

من بين ذلك، تحتل المدرسة مكاناً مهيمناً، وكان العائق الرئيس هو اللغة ولكننا سنرى أن الأطفال المولودين في فرنسا يمكن أن يواجهوا صعوبات مدرسية. في الواقع، لابد من القول من جديد، إنهم جزء من الطبقات المحرومة، وبالتالي إن هؤلاء الأطفال هم بمثابة مؤشر على مشكلة عالمية تتمثل بعدم المساواة وتتجاوز الحالات الفردية.

تحدث الكثيرون عن الفشل الأكاديمي ولكن الواقع بدا أكثر تعقيداً. وجد التلامذة المغاربة أنفسهم في مدرسة انتقائية لا تراعي الخصوصيات الاجتماعية. ويبدو أن العائق الأساس، بحسب المعلمين المستجوبين، هو اللغة. كان للحاجز اللغوي بالغ التأثير على المواد التي تستخدم فيها اللغة بشكل أكبر (الأدب والتاريخ والجغرافيا). وكان واضحاً أن طبيعة النظام التربوي، والخلفية المهنية للأهل، والمستوى الثقافي كلها كانت عوامل غير مناسبة، هذه الخصائص موجودة كذلك بين الأطفال المنحدرين من الفئات الاجتماعية المحرومة. وفي الوقت عينه، يمكننا مساءلة مسألة الاختلافات الثقافية، خاصة وأن العديد من المسارات أظهرت أن الوصول إلى الجامعة لم يكن نادراً وأنهم تمكنوا [البعض] من نيل الشهادات الجامعية.

في الواقع، إذا طرح الاندماج المدرسي مشكلة سواء بالنسبة للمعلمين والأطفال، فإن التأقلم والنجاح المدرسي لم يكن نادراً. لذلك إن مسارات الأطفال كانت متناقضة.

يعلم الجميع أن المدرسة يمكن أن تكون فرصة رائعة للتقدم الاجتماعي والثقافي. وعلى العكس من أهاليهم، يذهب الأطفال إلى المدرسة ويحصلون على مستوى أعلى من التعلم. ولكن تبقى الاختلافات موجودة. وهي ناتجة بسبب تشتت الوافدين، ومدة الإقامة، ومكان الولادة، والرتبة بين أشقائه. بالتالي إن هذه الاختلافات موجودة بين الأطفال من نفس العائلة. لأن بعضهم ولد في المغرب والبعض الآخر في فرنسا. مع ذلك، أظهرت المقابلات أن الوضع التعليمي أفضل بالنسبة لكبار السن مقارنة مع المولودين في فرنسا. في الواقع، تشترك عدة عوامل في ذلك. كان لدى الأطفال الأوائل الذين وصلوا إلى فرنسا دوافع طبيعية، فقد جرى إعدادهم في البداية وكانت عملية استقدام العائلات إلى هنا طويلة في كثير من الأوقات. هذه الرغبة في معرفة فرنسا زادت شيئاً فشيئاً من الرغبة بالتأقلم فيها. إضافة إلى ذلك، تشير أحاديث المدرسين إلى نسبة نجاح مذهلة، مرتبطة بقدرتهم على العمل، والفهم والتكيف. فقد اكتسبوا اللغة بسرعة ونجح الأطفال في صفوفهم. في المقابل، يحدثنا المستجوبون، الذين أنجزوا دروسهم الجامعية، عن تفاني مدرسيهم الشديد تجاههم. من بين الأطفال الناجحين، وجدنا الكثير من الفتيات.

تشرح إحدى التلميذات عن عدم وجود مدرسة في قريتها، وعندما وصلت إلى فرنسا كان عمرها 12 سنة، وكانت تريد تدبر أمورها. تمكنت هذه الفتاة، التي كانت أمية في الأصل بالكامل، من تعلم اللغة الفرنسية وتابعت دروسها في التجارة. مع ذلك، يبدو أنه في حالة الأطفال غير الملتحقين بمرحلة ما قبل المدرسة كان تأخرهم المدرسي ملحوظاً نسبياً، لمدة سنة أو أكثر. كان الرسوب شائعاً، خاصة في المدارس الإبتدائية وغالباً ما أدت النتيجة النهائية إلى اختيار التلاميذ التعليم الفني ولم يكن مضموناً إتمام تعليمهم المهني بالكامل.

من ناحية أخرى، إن هذا الأمر نفسه يتناقض مع حالة الأطفال المولودين في فرنسا، والذين تابعوا المسار المدرسي العادي. وقد استفادوا من تجارب الأكبر سناً، وغالباً ما كانوا أكثر غنجاً، وأظهروا اهتماماً أقل بالدراسة وكان نجاحهم المدرسي أقل وضوحاً. وفي هذه الفئة يبدو أن الفتيات هن أكثر نجاحاً من الصبيان.

“الصبيان يتبعون لآبائهم، والفتيات لأمهاتهن، تدفع الأم بناتها إلى القيام بالعمل المنزلي، الفتيات لا يستطعن الخروج دوماً، لذلك حتى لا ينحصرن في أداء الأعمال المنزلية، تنجز الفتيات فروضهن في غرفهن، في حين، بالنسبة للفتيان كان الأمر مختلفاً، لديهم حرية أكثر، ويمكنهم اللعب في الخارج حتى الساعة 10 وحتى منتصف الليل”.

لكن النجاح المدرسي لا يضمن النجاح العاطفي والعائلي. يكشف مسار ا. النموذجي في هذا الإطار، عن الصعوبات التي تواجهها الفتيات الصغيرات، عندما يحصلن على استقلالهن الاقتصادي وحرية الفكر.

“وصل والدي في نيسان/أبريل 1963. كان من أعماق المغرب. لقد جرى اختباره بشكل أولي في الدار البيضاء ومن ثم في فرنسا في بوتو في معمل للتقطير. أصيب بالسل وأمضى فترة من الوقت في مصح. ومن ثم وظفه مورا وجاء إلى اوستريكور.

كنت جيدة في المدرسة، وقد نلت شهادتي وكان علي الذهاب إلى المدرسة المهنية لتعلم الطبخ والخياطة. تمكنت من الحصول على شهادة الكفاءة المهنية في السكريتاريا عام 1971. أردت مواصلة دراستي لم يكن من جسر بين التعليم المهني والأكاديمي. فأنجزت سنتين دراسيتين عن طريق المراسلة في CNTE في فانف.

بعد عامين، اكتفيت من الوحدة. تسجلت في ثانوية دوايي المهنية، ونلت علامات مرتفعة جداً في شهادة البكالوريا. وأردت التسجيل في الجامعة ولكن والدي لم يرَ الأمور على هذا النحو. كان يريد مني أن أتزوج.

وجدت وظيفة في المجلس الإقليمي لنقابة الأطباء، وكنت أحضر كل أسبوعين إلى المنزل. واستغليت عودة والدي إلى المغرب لمدة شهر للتسجيل في الجامعة، مع راتبي، كنت أعلم أنني سأحظى بالقدرة على متابعة دروسي. وقد أنجزت دراستي في الحقوق، كان لدي الحافز، فحصلت على شهادة في الدراسات العليا في القانون الدولي الأوروبي. بعد ذلك، أعددت أطروحة عن التعاون الثقافي الفرنسي-المغربي.

عام 1983، التقيت بشاب مغربي، هو بدوره من جنوب المغرب، والذي أنجز دراسته في القانون التجاري. كان زواجنا كارثة. لم نتفق. لقد كان شديد التقليدية، كان هو الذي يتحكم بالحساب المصرفي. وعندما علمت أنه يعطي المال لعائلته، من بينه المال الذي أجنيه، أصريت على أن يكون لكل شخص حسابه المصرفي الخاص. هو كان يريدني. أراد أن يظهر على نحو جيد تجاه عائلته.

ذهبنا إلى المغرب مع عائلته، وكان عليّ تحضير الطعام كل يوم لـ 12 إلى 13 شخصاً. بالنسبة لهم، لم أكن شيئاً، كنت أتقدم [مرتبة] فقط على الحمار.

أراد العودة إلى المغرب بعد إنجاز أطروحته، في ذلك الوقت، أنجبت طفلي الثاني، كان صبياً، في كانون الأول/ديسمبر 1986 تركته.

عدت إلى عائلتي لكن لم يكن ذلك الحل الصحيح، فقد واجهت الكثير من المشاكل، لقد كنت مطلقة، وبالتالي امرأة ذات “صيت سيء لأنها تخلت عن أطفالها. في منزل أهلي، دفعت ثمن كل شيء، لأنني “لوثت شرفهم”.

على أية حال، إن الحالات متنوعة جداً بحيث يصعب الخروج بخلاصات عامة.

كشفت المقابلات المختلفة التي أجريت أن الأولاد الأكبر سناً واجهوا بكل تأكيد مشاكل أكبر في الاندماج في النظام المدرسي الفرنسي ولكنهم اعتبروا رحيلهم بمثابة مغامرة مذهلة. لقد نشؤوا في ظل هذا المشروع الطموح، وعانوا من عدم معرفة اللغة ولكنهم طوروا صفات مميزة للتكيف. وهم في كثير الأحيان أكبر من زملائهم في الصف، وقد تمكنوا من التكيف مع أساليب المدرسة المختلفة.

في المغرب، الأعمار والمستويات مختلطة، يتم العمل على أساس التكرار، والطرق التربوية تقليدية، وما زال العقاب البدني مطبقاً.

من ناحية أخرى، يستفيد الأطفال الذين ولدوا في فرنسا من ميزة كبيرة، ولكنهم يتمتعون بحماية الأكبر سناً ولا يبذلون نفس النوع من المجهود.

يختلف التوجه بين البنات والصبيان. في الواقع، ترغب البنات عن طيب خاطر في الحصول على البكالوريا الأدبية أو الجامعية في اختصاص الاقتصاد وعلم الاجتماع، في حين أن البكالوريا العلمية والتقنية كانت من خيار الصبيان.

إن النجاح في المدرسة هو مسؤولية تقع على عاتق البنات أكثر من الصبيان. هذا النجاح يتيح لهم التفاوض على الحد الأدنى من الاستقلالية مع أهاليهم. ولكن يبدو أن مرحلة ثالثة قد بدأت، متمثلة بتراجع الفروقات بين الذكور والإناث.

“تحظى الفتيات بفرصتين مقارنة بنا، يمكنهن الدراسة والزواج من شخص يعمل. بالنسبة للصبيان، يجب عليهم جني المال لتأسيس عائلة.

ويقل فرض الزوج عليهن، فمن خلال الدراسة يريدون الحصول على وظيفة وحرية، ومن ثم يفكرن بالزواج.

بالنسبة لنا، نحن نحاول التحرك، والخروج من الواقع. ولكن بالنسبة لآبائنا فإننا لا نصبح مسؤولين إلا عندما نتزوج. لذلك، لا يمكننا فعل ما نريد، الأب هو المسؤول، وعلينا مثلاً احترام المواقيت”.

ولكن إذا كان الأولاد الأكبر قادرين في كثير من الأوقات على الوصول إلى مستوى الإجازة الجامعية، فإن البطالة هي السمة التي عانوا منها، سواء كانوا من الذكور أو الإناث.

لأن الصعوبات ليس موجودة فقط على المستوى المدرسي ولكن كذلك في ظروف الحياة المهنية. وكثيراً ما استطاع الشباب المنحدرين من الهجرة التغلب على العقبات في المدرسة ولكن الأزمة الإقتصادية هددت لاحقاً اندماجهم المهني، مثل حال الفرنسيين الذين يتنافسون معهم.

“لقد حصلت على البكالوريا الفنية، وتسجلت لنيل الإجازة التقنية، وكان عليّ إنجاز فترة من التدريب لكنني لم أنسجم مع مديري، وبدون فترة التدريب لا يمكنني نيل الإجازة [التقنية]. فأصبحت عاطلاً عن العمل. إضافة إلى ذلك، ألعب كرة القدم في كامبراي، فأنا لاعب جيد ولدي دخل ثابت، إضافة إلى مكافآت من المباريات.

يدرس كل إخوتي وأخواتي، هذا كل ما عليهم فعله، لديهم فرص إضافية للحصول على وظيفة.

أختي الصغيرة تدرس لنيل إجازة في اللغة الإنكليزية، وشقيقي الصغير نال درجة الماستر في الرياضيات، والذي بعده يدرس لنيل الإجازة التقنية، والأصغر ما زالوا في الثانوية، واحد منهم في صف البكالوريا العلمية والآخر في المرحلة المتوسطة”.

على الرغم من القيود التي يفرضها النظام التعليمي، لعبت المدرسة في الحقيقة دوراً تنظيمياً في معالجة الاندماج الاجتماعي، حيث جددت كوادرها داخل السكان.

“حصلت على شهادة البروفيه المهنية، في الواقع لم أتلقَ أي مساعدة أكاديمية، لم يتمكن أهلي من مساعدتي في واجباتي المدرسية فقد كانت ثقافتنا عمالية. لقد جرى توجيهي على نحو خاطئ، وأردت العمل في مجال ميكانيك السيارات وانتهى بي الأمر بالتدرب على مهنة ميكانيك تجميع. لطالما ندمت على هذا الإتجاه الخاطئ، كان عليّ التوجه لنيل الدبلوم، ولكن ما حصل سبب لي العار. لقد أتيحت لي الفرصة للحصول على شهادة البكالوريا الفنية، ولكن لم أحصل عليها، كنت مضطرباً إلى حد ما. أوقفت دراستي، وبدأت بالعمل في التنظيف في مؤسسة بأورليان. فكرت كثيراً في تلك اللحظة. وقلت لنفسي لقد ولدت في فرنسا، وقد نلت بعض الفرص والآن أجد نفسي في نفس مستوى من وصل للتو. لقد بتُ مهاجراً. لقد عشت في منزل للعمال الشباب، وتمتعت باستقلالي المالي ولكني رأيت أشخاصاً يطردون من قبل مدرائهم، وآخرين أشخاصاً يصابون ويطردون لأنهم لم يتمكنوا من الإنتاج، وقد رأيت أوضاعاً غير نظامية، وفقراً ولكن كان لدي عمل.

بعد ذلك عدت إلى نور، وكان علي إتمام البكالوريا، وبذل جهد، نجحت في دورة تدريبية سمحت لي بالوصول إلى مستوى البكالوريا. بعد مرحلة التدريب، ذهبت إلى باريس للتدرب، كان ذلك مشروع هجرتي. اضطريت إلى مغادرة المدينة، لم يكن فيها أي شيء لي. كنا حوالي 15 من نفس المنطقة، نزلنا في فندق رث في باريس، لم نستطع جمع المال. بعد سنة، عاد أغلبنا إلى نور. لقد فضلوا الحصول على الحد الأدنى للأجور. لقد بقيت لأنني وجدت وظيفة ثابتة: ميكانيكي-حفر. وقد عدت إلى نور وتطوعت في جمعية تعنى بشباب الضواحي. فاقترحوا علي التدرب في مجال المساعدة الاجتماعية. لنيل شهادة في ذلك، لم يكن عندي المستوى المدرسي اللازم، كان علي الحصول على بكالوريا + 2، وكان علي الخضوع لتدريب مسبق في فالنسيين. خلال سنة، تعرفت على عمل المساعدة الاجتماعية واكتشفت طريقي. ونجحت في مباراة الدخول إلى المعهد، ولكن بصعوبة. حان موعد خدمة الجيش، وأردت الخدمة في المجال الاجتماعي، وقد تطوعت لمدة 18 شهراً في جمعية مناهضة للعنصرية.

بعد ذلك شغرت وظيفة في أحد المراكز الاجتماعية، تقدم اثنان إلى هذه الوظيفة، وكان العمل صعباً ولكنها كانت فرصة، بقيت طوال 3 سنوات، لقد عانيت الكثير ولكنني تعلمت الكثير. لقد كنت وحدي وكان علي التعامل مع الشباب بطريقة بناءة.

لكن كان لدي طموح. في عام 1996، تقدمت لوظيفة في مجال التنمية المحلية: مساعد مدير مشروع، حيث علينا اقتراح برامج عمل في المواقع الصعبة بالتعاون مع شباب المنطقة. نحن نعمل في 4 مدن مختلفة.

في نهاية العام 1998، سأرتاح من العمل، وسأستأنف دراستي، أنوي التقدم للحصول على شهادة VISAS، سأحصل على تمويل التدريب ولكن علي إجراء تدريباً مسبقاً”.

يلعب الأكبر سناً دوراً مهماً في العائلة، إنه بمثابة النموذج.

“داخل نفس العائلة، تختلف الأوضاع، بعضهم يتحرك بشكل أقل: يتعلم كل من إخوتي وأخواتي، ويحاولون تدبر أمورهم، ولكن لدي شقيق استسلم، إنه يعيش على التقديمات، لا يستهويه العمل، إنه ينتظر. بالنسبة للشاب الذي لا علاقات له، سيكون الأمر أصعب ولكن يمكنه النوم، فهو في وسط عائلي، مع الأهل، وهو بمأمن، نساعد قليلاً، يمكننا أن نعطيه ولكن يمكننا العيش. يجب أن يغادر، الكثيرون فعلوا ذلك: نحن نغادر ونعود”.

نجاح الأطفال هو علامة نجاح عائلي: عندما يتمتع الأطفال بأوضاع جيدة، تجد الأسرة اعترافاً داخل المجتمع. ويتم ذكرها كمثال.

إنها عائلة متماسكة.

ولكن إذا كان هناك من عائلات نموذجية، هناك عائلات تمثل العكس.

“فشل الأب والأم في خلق التماسك. وكان الأب غائباً في كثير من الأوقات. وجد الأطفال أنظمة القيم الخاصة بهم في الخارج، بين رفاقهم الذين يشبهونهم. لم يكن هناك أي حوار. فعلت الأم كل ما في وسعها. كان الأخ الأكبر في الخارج دوماً، لم يقدم نموذجاً إيجابياً، لم يتعلم، ولم يعمل. فيقول الأطفال: لماذا نتعلم، حتى نجد أنفسنا نعمل كأمين صندوق في أوشان؟”

وهكذا إذا كانت الصفات الشخصية متناقضة في البحث عن عمل وفي أنماط الحياة، وإذا أظهر الأولاد الأكبر سناً نجاحاً أكاديمياً، فهو أمر استثنائي في بعض الأوقات، تبقى الحقيقة أن القلق موجود في التعليقات المجمّعة عندما يتعلق الأمر بالشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و15 سنة.

“عندما يختفي الأهل، ما الذي يحصل؟

لقد أصبحوا بالغين بسرعة أكبر، وتستهويهم أفلام العنف، ويرى أخيه الأكبر يعيش على مزاجه، وهو عاطل عن العمل. إنهم ينتقدون أهلهم الذين تركوهم.

في الحالات القصوى، يصبحون منحرفين والعقوبات التي يراها الأهل [مناسبة هي في] إعادتهم إلى المغرب”.

يبقى الشباب والشابات المغربيون/ات متمسكين بالقيم الثقافية التي يعلمها آباؤهم. معرفة اللغة الأم منتشرة على نطاق واسع. معظمهم يعرفون لهجة المنطقة الأصلية ويستعملونها في التواصل مع الأهل، وبعضهم يمزج بين اللغة الأم والفرنسية. من ناحية ثانية، يستعملون الأخيرة بين إخوتهم وأخواتهم.

أغلبهم يعرفون المغرب لأن العادة هي في قضاء العطلة فيه. على الرغم من أن معظم الشباب المستجوبين لا يصدرون حكماً سلبياً، ولا يفكرون حقاً في الانتقال إلى هناك في المستقبل، على الرغم من أن المناقشات تتغير حول هذا الموضوع. فهم ينجذبون إلى أسلوب الحياة، والاتصال بالطبيعة، هم الذين يعيشون في مدن حيث المناخ والمساحات الخضراء ما زالت متوفرة. تغذي النزهات والإحتفالات الريفية مفهومهم للجماليات المرتبطة بالطبيعة، والنباتات، والزهور: إنها جميلة هناك. ولكن تبقى الحقيقة أن التلميحات إلى فقر الأماكن، واختلاف العقليات، خاصة بما خص زواج فتاة تعيش في فرنسا ومغربي يعيش في البيئة الريفية، يشكل الضغط الجماعي على مواقف معتبرة غير محترمة مانعاً أمام إعادة التوطين المحتملة. لأن بعض العادات الغربية جرى تبنيها وتقديرها: مثل الشرب، والسهر. الخطاب واضح عندما يتعلق بالزواج: يرفض الذكور والإناث الزواج من مغربي/ة له أفكار رجعية غير حديثة. مع ذلك، وفي مواجهة الصعوبات الإقتصادية الحالية، والمواقف المعادية للأجانب واستحالة تحقيق مستقبل هادئ، فإن الرفض الممنهج للعودة أصبح الآن متناقضاً مع تساؤل يقول: لماذا لا؟

من الناحية العملية، لا تتمتع كل الفتيات بنفس الحرية التي يتمتع بها الصبيان. خارج نطاق الأنشطة المدرسية والرياضية، كثيراً ما تطلب الأمهات منهن مساعدتهن في الأعمال المنزلية ورعاية الأطفال، وإنجاز الإجراءات الإدارية والاجتماعية والصحية.

وعلى العكس من الصبيان، فإن نزهاتهن نادرة، من الناحيتين الكمية أو النوعية، كما يتم مراقبتهن لتجنب أي سلوك يمكن له أن يضر بشرف العائلة. وعلى العكس من ذلك، بات البعض من أعمدة الأسرة من خلال المسؤوليات الإدارية والعائلية التي يلقيها الأهل عليهن.

تجد الفتيات الصغيرات المولودات من أهل مهاجرين مغاربة أنفسهن عالقات بين ثقافتين مختلفتين، وهن بذلك أمام خيار صعب بين نوعين من المجتمعات: الأول: أمازيغي، ريفي ومسلم، والثاني: غربي ومُدني وعلماني، وهو وضع يخلق توترات مع أهاليهن. تعتبر البنات الأكبر سناً من أعمدة العائلة. هن من يملأن الأوراق الإدارية ويؤدين دور الوسيط بين المجتمع وأهلهن. وهن يترجمن الكشوفات المصرفية، ويعتنين بالإجراءات الشكلية. ومن أجل ضمان استقلالهن وحريتهن الناتجين عن العمل والاستقلال الاقتصادي، فإنهن يؤكدن على إنهن لن يبقين موجودات دوماً لرعاية الأهل. ومهما يكن من أمر، يبقين خاضعات للنظام البطريركي، بعد إخضاعهن. عندما تتأخر الفتيات في العودة إلى البيت، أو تكون بعيدة عن المنزل العائلي، يُقال للأب: ابنتك حرة جداً، يجب أن تخضعها. إخضاع البنت، يعني إبقاؤها في البيت. وحتى لو كان الأب فخوراً بنتائج ابنته المدرسية، فإنه سيتردد في قبول ذهابها إلى مدينة ليل لإتمام دراستها. في سن 26 عاماً، لا تستطيع ف. الذهاب إلى المقاهي أو النوادي الليلية، أمكنة “الخطيئة”. إذا خرقت هذه القوانين، يجب عليها الإختباء. لا يمكن للفتيات الزواج من الغرباء. ولكن المستجوبين نقلوا لي قصة ل.، التي تمكنت من الهروب من المنزل العائلي لأنها كانت على علاقة بفرنسي. وقد اختارت العمل بعيداً للهروب من الضغط الممارس ضدها. في السنوات التالية، أرسلت مالاً لوالدها حتى يصمت. هذه التعليقات المجمّعة في نهاية الأمر طافحة بالمرارة. كل هذه الممنوعات، عند الاتصال بالمجتمع الفرنسي، تبتعد عن مزاياها [للعائلة المغربية]. إنها ليست مسألة احترام هذه القيمة الإجتماعية أو تلك، إنما إخضاع لقانون بطريركي تعسفي، قائم على توازن القوى. بعضهن ينتفضن، ويهربن من عائلاتهن. تقف البنات في وجه آبائهن، ويضعنهم وجهاً لوجه مع تناقضاتهم. الإندماج يسير على قدم وساق.

الأطفال الذين يذهبون إلى المدرسة، وخاصة الفتيات، لا يدرسن لاستيعاب الثقافة الفرنسية إنما للدفاع عن أنفسهن بشكل أفضل. العلاقة مع المدرسة ليست متطابقة عند الجميع. ويعتمد ذلك على عدد معين من المعايير المرتبطة بخصائص المجتمع، والبعد الثقافي، والمفاهيم الشخصية للأم والأب، ووقت وصولهن. بالنسبة للآباء والأجداد الأميين الذين يعيشون في أماكن معزولة، لا يمكن للغة الفرنسية أن تكون لغة محكية ولا يمكنها نقل ثقافة جنينية. إنهم يعيشون حياتهم القديمة ويجعلون من حياتهم حياة مخصصة للعمل والعائلة، حيث ما زال الجنوب المغربي حياً. لكن الأمر مختلف عند الأطفال. كل شيء يساهم في تعلم اللغة والثقافة المحكية والمكتوبة. إنهم يعيشون خلال النهار في بيئة فرنسية بين رفاقهم في الصف، ولكن في البيت، وكما أشرنا، يعملون كمترجمين فوريين أو حتى مدرسين. لذلك يعلّم الآباء أبناءهم في المدرسة.

السكن

توفّر مساكن عمال المناجم مجالاً لتطورات عديدة. تشكل الأنواع الأولى من المساكن النوع المعتاد من مراكز الإسكان لعمال المناجم. المنازل مبنية إلى جانب بعضها البعض، ولها نفس الواجهة، يفصل فيما بينها الشارع. المحاولة الأولى للتطوير كانت من خلال بناء مجموعات مكونة من بيتين، أربعة وثمانية بيوت. فتحقق الفصل المكاني. الحديقة مسيجة من الجوانب ما يخلق عزلة نسبية. ويحتوي كل منزل على 4 غرف: 2 في الطابق الأرضي، و2 في الطابق العلوي، وقبو وعلية وتتخيتة صغيرة وحمام. ولكن، وبشكل متزايد، بات من الأفضل بناء مساكن معزولة. أنشئ العديد من أنواع المنازل، وكانت هذه المنازل مزدوجة، معزولة عن غيرها بالحدائق. في حين عاش المتقاعدون في منازل من طابق واحد تلبي حاجات محصورة.

في الواقع، وطوال فترة استخراج الفحم، هدفت المناجم إلى التوفيق بين الإسكان والمتطلبات الجديدة. فقد شهدت الهندسة المعمارية للحوض المنجمي تطوراً مستمراً، حيث تكيفت مع الشرائح المختلفة للسكان. وبما خص العمال المغاربة، جرى تأمين احتياجات السكن نسبياً وعاش المغاربة في تجمعات كثيفة في الكومونات حيث استمر استخراج الفحم. بالتالي، كان التوزيع السكاني للعائلات المغربية ظرفياً.

توزعت المساكن على 45 بلدة أهمها سالومين ووايني، وكوندي-سور-إيسكو، وأفيون. ارتبط هذا التوزيع بأماكن الإنتاج. وهو بشكل عام منزل من طابق واحد، يتكون من غرفتين إلى 4 غرف، بحسب عدد الأطفال، إضافة إلى حديقة. داخل هذا المسكن، يعيش المغاربة حياة تقشفية لإدخار أكبر قدر من المال. الأثاث عادي جداً، ولكن التلفزيون والهاتف موجودان في كثير من الأحيان. هم لا يملكون المنازل إنما يستأجرونها. وبشكل عام، إنهم لا يستثمرون في منازلهم، ويفضلون المنزل المبني في بلادهم. هذه المنازل هي للفرنسيين، والتي يشعرون فيها أنهم مجرد عابرين. كذلك لا يريدون شراءها. في كثير من الأوقات، يتحدى الأولاد هذا الخيار، لأنهم يعرفون المنازل الأوروبية وتخطيطاتها.

تحويلات المال

تعتبر التحويلات خاصية اقتصادية مهمة جداً تسمح بتقييم طبيعة علاقات المغاربة مع عائلاتهم الأصلية. وهي مؤشر له نتائج في مجالات عديدة، سواء في أسباب الرحيل أو في ظروف الحياة في فرنسا. لا تقتصر التحويلات المالية على المهاجرين المغاربة فقط، إنما على غالبية المهاجرين الذين غادروا هرباً من الفقر. لأننا نادراً ما نهاجر رغبة بذلك، إنما بمجرد حصولنا على إذن بذلك من الأكبر. مع ذلك، من الصعب تقدير قيمة المبلغ الدقيق لهذه التحويلات لأن العمال المغاربة كانوا متحفظين بشأن هذا الموضوع. غير أن هذه التحويلات التي كانت ترسل إلى المغرب بانتظام وتمر عبر القنوات الرسمية أو من خلال المبالغ التي يحملها المهاجرون عندما يزورون البلاد خلال العطلة إلى جانب الأغراض والسلع.

تشكل التحويلات المالية إحدى المصادر الأساسية للعملة الأجنبية في المغرب. وساعدت على تحقيق التوازن في الميزان التجاري. ونجد في مجلة Horizon 59 الصادرة في كانون الأول/ديسمبر 1980 تقييماً لوزارة المالية تشير فيه إلى أن المبالغ المرسلة من العمال المغاربة في منطقة أغادير تجاوزت حجم مبيعات الحمضيات. لأن العمال المغاربة يدخرون أكبر كمية من المال ويرسلون غالبية رواتبهم إلى المغرب. مع ذلك، فإن المبلغ يختلف بحسب الراتب المقبوض والحالة الاجتماعية والظروف المعيشية في فرنسا ومدة الإقامة. وفر العامل المغربي ما بين 20 ألف إلى 40 ألف فرنك بعد 18 شهراً من العمل خلال الستينيات والسبعينات. ويرسل العمال غير المتزوجين ما بين 80 إلى 90 بالمئة من رواتبهم، والمتزوجين ما بين 30 إلى 60 بالمئة منها. ويبدو أن عمليات التحويل كانت كبيرة جداً لدرجة أنه بات من الضروري إرسال العديد من التحويلات لعدة أشخاص في حين المطلوب إرساله إلى عائلة واحدة.

إضافة إلى الأموال المرسلة عن طريق التحويلات البنكية أو البريدية، يجب ذكر كذلك الهدايا المرسلة إلى المغرب خلال الرحلات. معظمهم يأخذون الأجهزة المنزلية والعديد من السلع التي يصعب العثور عليها في البلاد. لا تقتصر السلع فقط على الهدايا أو الاستعمال الشخصي، إنما كانت تغذي تجارة نشطة تسمح بسداد جزء من تكاليف السفر والحصول على دعم مالي إضافي.

وهكذا، بعد سنة مليئة بالتضحيات، يعود عمال المناجم إلى بلدهم الأصلي بهداياهم ونتائج عملهم في أوروبا. وكل هذا، على مر السنوات، ساهم في تغيير نمط الحياة في الريف، وحدّث العادات اليومية والمهام المنزلية.

أخيراً، من بين المبالغ المحولة، من الضروري الإشارة إلى مقدار مكافآت العودة، وهي مبالغ كبيرة عند إضافتها واستخدمت في مجالات مختلفة. في الفترة الواقعة بين 1984 و1991، تلقى المغرب، بحسب إدارة المناجم، 143360000 فرنك، أي ما يساوي 896 عامل منجم استفادوا من المساعدة على العودة. إلى هذا المبلغ يضاف 930000 فرنك، مجموع المخصصات للشركات المنشأة في المغرب. لكن إغلاق المناجم أدى إلى وقف تداول الأموال الناتجة عن تحويلات تعويضات العودة. وحدها المعاشات التقاعدية، وتعويضات طوارئ العمل والعجز المهني استمرت في الوصول إلى المغرب.

مع مرور السنين، تنامت أهمية التحويلات بفضل تطور الوكالات المصرفية، سواء تلك المعنية عن جمع الأموال في فرنسا أو تلك التي تنفذ عمليات مصرفية مختلفة في المغرب. في هذا الإطار، كان البنك الشعبي (102)، وبدرجة أقل لابوست، الفاعلين الرئيسيين في هذه التحويلات. أنشأ البنك الشعبي فروعاً له في أماكن العمل نفسها حيث كانت تمر باصات مخصصة لجمع الأموال المدخرة. لكن يبدو، أن هذه التحويلات، ومنذ الثمانينات، بدأت بالتناقص، مع الأخذ بعين الإعتبار لم شمل الأسر وتغيّر العقليات، والبطالة، وإغلاق المناجم.

بالنسبة إلى التحويلات المالية القابلة للقياس، يمكن إضافة الشحنات العينية والنقدية المرسلة عن طريق شخص ثالث.

ساعي البريد

هذه الشخصية الغريبة، التي تربط بين الحداثة والتقليد، تذكر بمبعوثي القرون الوسطى، الشاهد على التضامن القبلي الذي ما زال منتشراً في المغرب. في مقاطعة تازة، أخبرنا ساعي بريد يبلغ من العمر 50 عاماً: “أعرف أوروبا جيداً لأنني عملت فيها خلال 20 سنة. في البداية، عملت في فرنسا لمدة 10 سنوات، أي حتى عام 1957، وبعدها في بلجيكا وهولندا وألمانيا (…).

أتجول لمدة شهرين في السنة، الأول قبل الزرع، والثاني قبل الحصاد. وفي بقية الوقت أعمل في تنمية الاستثمارات، وأهتم بشؤون أحبائي”. (103)

تعمل هذه الشخصية في عدة وظائف: هو المستشار الإقتصادي الذي يجعل من الأموال تنمو، وهو بمثابة الوسيط بين المهاجر وعائلته وكوسيط إقتصادي للأشخاص المحتاجين.

بقي عامل المنجم المغربي مرتبطاً بقوة ببلده الأصلي. فهو يحتفظ بآليات تجعله يتبع إيقاعات المجتمع التقليدي. ومفتاح عمله هو وجود أو غياب المياه. عامل المنجم يفكر بالمطر؛ سنة الجفاف أو سنة المطر التي تأتي بحياة سعيدة وسيكون الطعام متوفراً بكثرة، والجفاف يحكم عليه بالبؤس. كانت أسئلته الأولى عندما عاد إلى المغرب مرتبطة بالمطر. في نور يبقى السؤال موجوداً ويجد عامل المناجم المغربي بعض الإجابات من خلال الهوائيات المنتشرة في الأحياء الأكثر فقراً حتى، ولكن من المرجح استمرار الاتصالات غير المباشرة. (104) في الواقع، لم تحصل قطيعة نفسية إطلاقاً مع بلده الأصلي.

في الجنوب، التغير العقاري والعمراني

يتكون السكن القروي في جنوبي المغرب من منازل من عدة طوابق. الطابق الأرضي مخصص للحيوانات والأدوات والمواد الغذائية المنزلية (القمح والخشب والقش…) في حين أن الطابق العلوي مخصص للسكن. المنازل متشابهة لناحية تصميمها واستعمالاتها. وهي مبنية من الطوب المشمس، المصنوع من خليط من الطين والحصى والقش. والبيوت قريبة من بعضها البعض وتعكس أسلوب حياة جماعية.

احتل البناء العقاري المرتبة الأولى في مشاريع عمال المناجم المغاربة في المغرب، لناحية بناء منزل جديد أو إصلاح المنزل القديم أو استعمال المال للهجرة. كل العمال الذين قابلتهم امتلكوا منزلاً واحداً على الأقل. البعض لديه ما يصل إلى 5. عادة ما يكون واحد منها في القرية. يرممه من أجل والديه، ويبني الآخر في المدينة، وتكون أكثر حداثة بحيث يرغب المهاجر الاستقرار فيها.

للبيت وظيفة رمزية أكثر منها اقتصادية. وهو يتميز عن الهندسة المعمارية المحلية يختلف عن البيوت الريفية، الخالية من وسائل الراحة والصرف الصحي. وهو واسع يتألف من طابق أو اثنين مع طابق أرضي يستعمل كموقف أو للعمل. إنه يعكس نجاح المهاجر.

بما خص قطاع البناء، فقد تطورت أنشطة أخرى، وخاصة بما يخص المواد اللازمة لبناء المنازل: الحدادة والنجارة وسواهما.

تختلف المنازل الجديدة عن القديمة بتصميمها الحديث وطبيعة المواد المستعملة. يحل الباطون المسلح مكان المواد التقليدية. وتبنى في الريف، وتجمع بين المعدات المتطورة والمفروشات الفاخرة. والمنازل مزودة بمضخة مائية وتلفزيون ومولد لتوليد الطاقة الكهربائية. وهي منتشرة، ومنفصلة عن التنظيم الاجتماعي الجماعي. ومعزولة عن بقية البيوت التقليدية، وهي تدل على التغيير الذي حصل في العلاقات الاجتماعية وتكشف عن حقيقة أن الحياة الجماعية تتقلص لصالح أسلوب حياة أكثر فردية. وبالنتيجة إن إقامة المهاجرين في الخارج لا تخلو من نتائج على الظروف المعيشية لمنطقة الأصل من الناحية المالية، لأن إرسال المال قد مكن من إدامة الحياة في ظروف أفضل، في البلد، ومن ثم السكن في أماكن متحولة لناحية أنها منفصلة [عن بقية البيوت] ومن ناحية عدد الغرف، والمساحة المستعملة. تحسنت الحياة اليومية من ناحية إمكانية توفر المياه والكهرباء ومن خلال اكتساب عناصر الراحة، ووسائل النقل (دراجة نارية وسيارة) التي سهلت نقل السلع والأشخاص، والمنتجات الغذائية. وحل الغاز مكان العمل الرتيب في جمع الحطب.

كما إن إقتراب المساكن من المدن سمح كذلك في زيادة من نسبة التمدرس، وخاصة تعليم الفتيات، الذي كان مهملاً في السابق.

الزراعة

كان لإدخال المضخات المائية نتائج على الزراعة. ما سمح بتوسيع الأراضي المزروعة وإدخال محاصيل جديدة. (زراعة البرسيم في الصيف والذرة في الربيع والخضار). وأنشئت مصانع لإنتاج الزيت التي لا تحتاج إلى استثمارات كبيرة. من ناحية ثانية، نادراً ما اشتروا الجرارات الزراعية لأنه حراثة الأراضي الزراعية الصغيرة صعبة، ولأن الشروط المطلوبة للأداء المتوقع نادراً ما توفرت.

أراد المهاجرون، من خلال تحويلاتهم المالية، توسيع أراضيهم. ولكن ارتفعت أسعار الأراضي. وكان وراء ذلك عدة أسباب. فالأراضي المعروضة للبيع، التي تتأتى من الإرث قليلة جداً بشكل عام. فالممارسات التقليدية تعمد إلى الحفاظ على الإرث ضمن نفس المجموعة الإثنية. يجب على البائع إعلام أقاربه، مع ذلك إذا لم يكن من مهتم، فتعطى الأولوية في الشراء لأبناء القرية قبل الانتقال إلى نطاق أوسع، أي العشيرة. بالتالي، إن عملية نقل الملكية هي إحدى العقبات التي تحول دون حصول المهاجرين على الأراضي وتمنع إعادة تجميع الأراضي وقطع الأراضي الصغيرة. إضافة إلى ذلك، إن الأولوية في الشراء لا تعطى في كثير من الأحيان للمهاجرين، بسبب أصلهم الاجتماعي، لأن العائلات الثرية لا تسارع إلى بيعهم الأراضي، لأنهم كانوا في الكثير من الأوقات خدماً لهم. وفي النهاية، تحتدم المنافسة ويرتفع سعر الأرض بشكل كبير جداً. تحدد الأسعار إنطلاقاً من موقع الأرض ونوعية التربة وتوفر المياه والموقع الجغرافي وسهولة الوصول إليها.

نتيجة أخرى للهجرة أثرت على الشباب الذين بقوا في البلاد. إن الفرق في الأرباح الناتجة عن العمل في الزراعة وكمية المال المحول الذي يرسله المهاجرون يؤدي إلى فقدان الناس الاهتمام بالعمل في الأرض. وتلجأ الأسر المهاجرة إلى العمل المدفوع الأجر للعمل في الزراعة ورعي الماشية. ويستمر كبار السن وحدهم بالعمل التقليدي في الأرض. وبالتالي، ساهمت، الهجرة في تراجع أنماط الانتاج القديمة وعززت في تسليع التبادلات. وحلّ العمل المأجور تدريجياً مكان المساعدة الجماعية المتبادلة.

النتائج الديمغرافية

ويبدو أن تدفق الهجرة لم يغير التركيبة السكانية بشكل كبير. من المؤكد أنها ساهمت في خلو مناطق معينة من جزء من الشباب والرجال الأشداء، ولكن معدل الولادات المرتفع، بتشجيع من المؤسسات الدينية، استمر بالارتفاع.

لكن لا بد من الإشارة إلى بعض التغييرات: تأخر الزواج بسبب الهجرة، وارتباط الولادات بالعودة. ومن جهة ثانية، بعد أن سافر الرجال إلى فرنسا، يمكننا الإشارة إلى أن غياب الأب عن الأسرة الباقية في البلاد ونتائج ذلك على تعليم الأطفال. في الواقع، إن سفر الرجال سبب خللاً في التركيبة السكانية. بكلمات أخرى، كانت نسبة النساء أعلى بين الراشدين، والذكور أكثر عدداً بين فئة الأطفال والشباب بشكل عام.

الهوامش:

100. يبدو أن عدداً من زوجات عمال المناجم قد عدن إلى فرنسا مع أطفالهن بسبب عدم تأقلمهن في بلادهن (ظروف معيشية قاسية جداً في الريف، نقص في المياه، والكهرباء…). أثارت هذه العودة غير المتوقعة مشاكل إدارية حيث كان ما زال لديهن إقامات سارية المفعول. قالت هؤلاء النساء إنه جرى التخلي عنهن عند وصولهن. أدى هذا التعقيد إلى توقيع اتفاقية بين المناجم والمكتب الوطني للهجرة عام 1987 لتوضيح عمليات المغادرة. عام 1988، أصيبت والدتي بسرطان الثدي، واعتنيت بكل شيء، ورفضت إجراء عملية جراحية. تقاعد والدي وذهب إلى المغرب، ثم أدى فريضة الحج في مكة. تزوج مرة ثانية في البلاد من شابة. وأراد أن تعود والدتي إلى المغرب، فعاشت معهم لفترة من الزمن، وعملت خادمة، واهتمت بأطفال زوجها، عاشت مع ضرتها. بعد فترة من الوقت، لم تعد قادرة على تحمل الوضع، وعادت إلى نور، وطلبت الحد الأدنى للأجور، ولكن بعد ثلاث سنوات، كان عليها تسديد كل شيء. تعيش الآن مع أخي في مكان إقامة عمال المناجم.

101. في البداية، استعمل المدربون الكتيبات المستعملة في تدريب عمال المناجم المغاربة، ولكن سرعان ما عرفوا أن الجمل المستعملة فيها، مثل: أحمد يحمل المعول، لا تتلاءم مع النساء، وبعيدة عن البيئة المهنية ومصطلحاتها.

102. الهدف الرئيسي للبنك الشعبي هو ضمان إعادة مدخرات العمال المهاجرين إلى وطنهم. للقيام بذلك، إضافة إلى الخدمات المصرفية التقليدية، يقدم البنك المزايا التالية: علاوة على التحويل، التأمين على إعادة جثمان العامل المتوفي إلى البلد، الإدخار المنزلي.

103. Charef M : Les transferts d’épargne des émigrés marocains, dans l’Argent des Immigrés, Institut national démographiques, travaux et documents, n° 94, p 221, PUF, 1981.

104. يشاهد الأب نشرات الطقس والبرامج الدينية خلال شهر رمضان ما يثير استياء كبيراً لدى الأطفال الذين يقل اهتمامهم بهذه المواضيع.