الشرق الأوسط وطرح الأسئلة الصعبة


فهد المضحكي
2024 / 6 / 1 - 11:33     

تثبت التطورات الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط مجموعة أساسية من الاستنتاجات السابقة حول طبيعة الأهداف الأمريكية في منطقتنا، ومع ذلك تحتاج هذه الأهداف إلى مراجعة دورية، فعندما وضعت كانت حتمًا جزءًا من إستراتيجية عالمية شاملة، وتحقيقها أو الفشل في ذلك يعني بالضرورة إجبار الولايات المتحدة على التعامل مع معطيات جديدة بقواعد جديدة.

والسؤال الأهم الذي يطرحه الكاتب والمحلل السياسي علاء أبو فراج هو: كيف يمكن أن ينعكس كل ذلك على المستقبل، وتحديدًا في هذا الجزء من العالم؟

سؤال يدعو لقراءة تطورات المشهد السياسي وطرح أسئلة جديدة عن مستقبل المنطقة.

ومن منظوره، ربما يرتبط السؤال الأصعب في ذلك كله بطبيعة المحرّك الأمريكي، ما هي تلك المحدّدات التي تتحرك واشنطن على أساسها ؟ الجواب، غالبًا ما يضيع في زحمة الأحداث والاشتباكات الصغيرة والمتوسطة القائمة حاليًا في المنطقة والعالم.

ووفقًا لما أشار إليه أبوفراج، فإن الحرب بالتجربة تحولّت إلى أداة استخدمتها الرأسمالية للخروج المؤقت من أزمتها السابقة، وأثبت التاريخ أن كل دورة جديدة لهذه الأزمة كانت (تتنفّسها) ولكنّها تعمقها أكثر، وبالتالي تُحمّل البشرية تكاليف أكبر للخروج منها، لذلك تظهر الأزمة الحالية بوصفها تهديدًا وجوديًا للمركز الرأسمالي، ما يعني أن الآمال الأمريكية للخروج منها هي مسألة مصيرية، ويرتبط بمستقبل أمريكا بمدى نجاح أصحاب القرار الحقيقيين في واشنطن في تنفيذ إستراتيجيتهم.

هناك قنبلة موقوتة على وشك الانفجار فعلًا! وتحاول الولايات المتحدة، وهو ما يعقد المشهد ويجعل الأهداف الصعبة الماثلة أمامهم محدودة الصلاحية، من هذه الزاوية تحديدًا يبدو الشرق الأوسط محورًا مهمًا في هذه المعادلة لا ينبغي إهماله أمريكيًا!

لكن ماذا تريد واشنطن من الشرق الأوسط تحديدًا؟ فعندما يقول: إن الهدف هو توسيع دائرة الحريق إلى أكبر حد ممكن، فذلك يوضح الإطار العام لا أكثر، فبالنسبة للولايات المتحدة المطلوب أولًا هو التحكّم بثروات المنطقة، وتحديدًا تثبيت تسعيرها بالدولار الأمريكي، والأكثر من ذلك التحكّم بالفائض المالي الناتج عن بيع هذه الثروات في السوق العالمية، هذا ما يضمن تثبيت الدولار الأمريكي في موقع متقدم، ويسمح في سد العجز الهائل، وبالتالي تأمين مستقر للإستراتيجية الأمريكية دون أن تتحول هذه التكاليف إلى عامل اضطراب داخلي. والمطلوب أيضًا، السيطرة على أبواب المنطقة والجسور التي تربطها بالعالم، أي إعاقة قيام أي روابط مستقرة بين آسيا وأوروبا من جهة، وآسيا وإفريقيا من جهة ثانية، وأيضًا ضرب هذه الروابط البينية في آسيا نفسها من جهة ثالثة، ما يسمح بدرجة أعلى من الهيمنة على الاقتصاد والتجارة العالميتين، وأيضًا التأثير والتحكم بالقرارات السيادية في كثير من دول العالم التي ترتبط مصالحها في هذه المنطقة، وتحديدًا روسيا والصين ودول أوروبا الغربية.

كل ما سبق يحتاج مجموعة من الشروط الأساسية، فيجب بالنسبة للولايات المتحدة ضربُ أي مشروع وطني حقيقي في المنطقة، لأن ذلك من شأنه أن يصطدم بالسلوك الأمريكي، وسياسات النهب الملازمة له، فلا يمكن فعليًا الحديث عن أي تنمية دون القطع مع أدوات النهب الغريبة، ما يعني أن تضع دول المنطقة يدها على ثرواتها ومواردها. لتحقيق ذلك كان لقيام المشروع الصهيونى هنا تحديدًا هدف أساسي، إذ يحقق وجوده حاجزًا معيقًا لنشوء وتطور العلاقات الحيوية في المنطقة، ومن جهة ثانية يمكن لهذا المشروع أن يتحول إلى رأس حربة في الاشتباك والتوتر والاستنزاف، ما مكّن الولايات المتحدة من تحويل الأراضي المحتلة إلى قاعدة أساسية في تنفيذ مشروع الفوضى.

مع تطور الصراع تبيّن أن خصوم الولايات المتحدة على الساحة الدولية أصبحوا قادرين أكثر على التأثير في مجرى الأحداث هنا، ورغم أن الفوضى كانت محققة إلى حد كبير، إلا أن مراكز أساسية في الأقليم استطاعت حتى الآن الحفاظ على درجة معقولة من الاستقرار، والحديث بالدرجة الأولى على إيران وتركيا ثم السعودية ثم مصر، وتحوّل الحفاظ على هذا الاستقرار النسبي إلى هدف لا بالنسبة للدول المعنية فقط، بل بالنسبة لروسيا والصين أيضًا، اللتان تعملان على تفكيك صواعق التفجير واحتوائها قدر الإمكان بهدف إخماد أكبر قدر من الحرائق التي تحاصرهما، ما يعني أن مشروع الفوضى الأمريكي - ورغم المآسي التي حملها في العقود الماضية- لم يصل حتى اللحظة إلى المستوى النوعي المطلوب، وهو ما زاد الضغط على المركز المأزوم من جهة، وهدد في الوقت نفسه إسرائيل، التي وجدت نفسها في مناخ عام غير ملائم قائم على سعي من قبل الدول الأساسية في الإقليم إلى تطوير علاقاتها الثنائية، وتطويق بؤر التوتر قدر المستطاع، ما سيضع القضية الفلسطينية على جدول الحل آجلًا أم عاجلًا، إذ لا يمكن حماية المنطقة فعليًا دون تفكيك المشروع الاسرائيلي.

وبالعودة إلى القنبلة الموقوتة التي تحدث عنها الكاتب، تجد الولايات المتحدة نفسها اليوم أمام واقع مركّب، فهي مضطرة للاستعداد لصراعات في مناطق حيوية أخرى، وتحديدًا على حدود روسيا والصين وسريعًا، وفي الوقت نفسه لا يمكن الدخول في مواجهات من هذا النمط بظهر مكشوف، فصراع بهذا الحجم يتطلب تأمين كل ما يلزم، والذي عرضه في القسم الأول من وجهة النظر هذه، ما يعني حرمان الولايات المتحدة من اختيار شروط القتال وساحته الأساسية، ويزيد بالتالي سقوط أمريكا في هذا النزال.

الشهور الماضية كانت قاسية، ولا يمكن إنكار هذا العدوان الإسرائيلي المدعوم أمريكيًا لا يزال مستمرًا، ومع مرور جولات عديدة من المفاوضات بهدف وقف إطلاق النار، إلا أنها لم تصل إلى أي نتيجة، ما بات يوحي بأن تحقيق ذلك -إن حصل- لن يكون عبر هذا المسار. الولايات المتحدة لا ترى مصلحة في خفض التوتر، بل على العكس، فهي تحاول استثمار اللحظة إلى حدودها القصوى.

هذا لا يعني أنها لا تتحمل الخسائر، بل على العكس! فهي تخوض صراعًا متشعبًا يتطلب حضورًا عسكريًا ودعمًا ماليًا وسياسيًا كبيرًا، ولكن الصراع في هذه اللحظة بالتحديد ليس هامشيًا، فالولايات المتحدة تحاول قدر المستطاع أن تنخرط في أقل قدر، لكنّها تلتزم بالحد الأدني الضروري. طاقاتها في ظل الظرف الدولي الحالي محدودة، ما يجعل إمكانية ضرب المشروع الأمريكي اليوم أكثر من أي وقت سبق، وخصوصًا أن هناك قوى دولية تأمل أن تخرج واشنطن بأكبر خسارة سياسية ممكنة، ربما ينتج عنها إنهاء الاحتكار الأمريكي للملف الفلسطيني، ويفسح المجال لإمكانية حلّه.